* كان لي هذا اللقاء معع على شطّ العرب حيث ماء البصرة يهدر بكبريائه الأبدي،وحيث هو مسقط رأسه،وحيث لا يحلو الكلام معه إلاّ هناك؛إذ ينساح في المكان،وتحلّق روحه فيه سعيدة،وترقص ترانيم الماء على أهازيج قلبه وقوافي شعره وهو يقول بكبرياء:”أنت لستَ أنا”،ويشجو بعشق:” كيف استدرجتِ الرّيح إلى رأسي؟فشاهت عن عشبه الغزلان والحروف؟”،ويسكر من يسمعه بقوله:”أنا سلطان الورد في كتب العاشقين والحمائم التي تغني رغم فجائع الهواء مليك جهات الدّمع والأرق”، ويحلّق بسماء الورد إذ يقول:”لا عاصم غير دمي وغرّد جرح في القلب”.إنّه الرّجل الكلمة،والكلمة العشق.
إطلالة على ثامر سعيد آل غريب:شاعر وكاتب وإعلامي عراقي،وُلد في البصرة في عام 1962،يعمل في الصّحافة ومهتمّ بالشؤون التّراثيّة،عضو في كثير من الاتحادات الأدبيّة والفكريّة المحليّة والعربيّة،يعكف على توثيق الأمكنة في مدينة البصرة،شارك في العديد من المهرجانات والمؤتمرات المحليّة والعربيّة،تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللّغات.من دواوينه المنشورة:حدّثني الملك الضّليل،وبداية البنفسج البعيد،وسياج الجهنميات الطويل،وأرض الله الغليظة.
* من الذي ينتصر في شعرك الحبّ أم الوطن أم الانتصار للحقّ؟
– ما يؤمن به الشاعرُ هو الذي ينتصرُ في شعره ، وبما أني أضعُ الحبّ في المقام الأعلى في مسلّة إيماني فأنا أنتصرُ له دائماً وأبداً ، فكيف يكون الشاعرُ شاعراً بلا حبّ ، والحبّ الذي أقصده مفهومٌ سامٍ وكبير يبدأ بالوطن ولا ينتهي إلى المرأة أو الحقيقة أو الجمال …. أو الألم ، أنا أنتصرُ لأيّ ألمٍ إنسانيّ أيضاً في أية بقعةٍ من الأرض وأراه ألمي ، وترين هذا طافحاً في الكثير من قصائدي ، هزّني موت مانديلا الطبيعي مثلما هزّني صمود المقاتلين في آمرلي العراقية وعين العرب السورية وغزة الفلسطينية وما كان يحدث من ظلم في السلفادور وتشيلي في سنين خلت. كلّ عشبةٍ يدوسها حذاء محتل أشعرُ أنها تستصرخني كلّ زهرةٍ لم تقَبلها فراشة أشعرُ أنها تستصرخني ، كلّ نظرةٍ تصوبها عينا جائعٍ صوب السماء أشعرُ أنها تستصرخني ، كلّ رصيفٍ مزقته سيارة مفخخة أشعرُ أنه يستصرخني ، لذا أجدني في سورةِ أسىً لا يطاق قبل أن أنزف بعض الكلام انتصاراً لهم فأنا على يقين إن الشاعرَ الذي تعطلت مجسّاته إزاء الألم الإنساني أصبح رقماً في قائمة المبوّقين والمطبلين .
* ما الذي يستفزّك للكتابة؟
– مستفزات الكتابة مختلفة حسب جنسها ، فالكتابة الصحفية مثلا تنتجها المخرجات الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية وغيرها ، وهذا النوع من الكتابة بات ينحسر عندي في السنوات الأخيرة بعد أن شعرت أنه صار يأكلُ من الجرف الآخر من الكتابة التي كرست أيامي لها ، أقصد الشعر . أما مستفزات القصيدة فتمتدُّ بين الدهشة والجنون ، تباغتني في أماكنَ وأوقاتٍ لا أتوقعها .
* ما الهاجس الذي يسيطر عليك في شعرك؟
– الهاجسُ الأكبرُ الذي يسيطرُ عليّ هو القلق ، وأنا أراه هاجساً جميلاً رغم ما يزرعُ في روحي أشجارَ وجعٍ وتعبٍ ، لكنه في النهاية ينتجُ لي ما كنتُ أطمحُ إليه من بناءٍ شعريّ ، يحدث هذا بعد حضور اللحظة الشعرية وهي دون أدنى شك لحظة ماكرة حين تأتي عليك أن تتشبث بتلاليبها بكل ما أوتيت من لغةٍ وتجربةٍ ومعرفةٍ ، تراودها عن نفسها حتى تصير طوع يديك ، القلق عندي هو المعلم الصعب الذي يوجه بوصلة الكتابة صوب الرضا والأمان بيد أني رغم كل ما كتبت لم أصل إلى الآن شاطئ الرضا والأمان .
* من هو ملهمك في شعرك؟
– الجمالُ والقبحُ ملهمان كبيران لشعري رغم تناقضهما ، فأنا أتصدى لأيّ منهما بما يليقُ به ، أنت تعلمين إن الحياة متوالية لا منتهية من الثنائيات المتناقضات ، فصار الحضور والغياب ملهمان آخران لي مثلهما الموت والحياة .
* البصرة وأجوائها الجغرافيّة والجماليّة والدّينيّة والثّقافيّة والنّضاليّة والتّاريخيّة بماذا صبغت شعرك؟
– البصرةُ مدينةٌ متعددة الثقافات قديما وحديثا لانفتاحها على البحر ، والبحر يأخذُكِ إلى الدّنيا مثلما يأتي بالدّنيا كلّها إليكِ ، وهي برزخٌ بين الخضرّة والصحراء ، كنتُ قد أسميتها في إحدى قصائدي ( عينُ الله الشاخصةُ على البحر ) . قبلي حين وصف الحريري الدّنيا كطائرٍ كونيّ ( في مقامته الخمسين ) صيّرَ البصرةَ إحدى جناحيه ، لم يكن في العالم الإسلامي غير مدرستين للغة لا ثالثة لهما هما البصرة والكوفة وفيها نشأت الكثير من المدارس الفكرية ( المرجئة ، المعتزلة ، القدَريّة ، الجهميّة ، الصفاتية ، مدرسة أخوان الصفا والأشعريّة وغيرهم ) . وفي البصرة أول من وضعَ قوانين الشعر العربي وأوزانه ، خليلها الفراهيدي ، وفيها أول من تمرّدَ على هذه القوانين ، وأقصد شاعرها السياب الكبير ، هي مدينة متعددة حتى في مناخها وجغرافيتها ، في أيامٍ ما قد تحضرُ الفصولُ أربعتها في يومٍ واحدٍ ، لا أريدُ الإطالة لكن أعترف إن كل هذه الاختلافات كانت قد نقشت أوشاماً واضحةً في الكثير من قصائدي .
* أين الوطن في شعرك؟
– مكانُ الوطن في شعري هو مكانُ القلب من الجسد ، يسكنني الوطنُ أكثر مما أسكنه أنا . حتى حين أغادرهُ أحمله في حقائبي وبين أوراقي ، رغم أنه ما زال يؤرجحني بين نجمةٍ ونجمةٍ وبين قبرٍ وآخر ويلطخُ بالنحيب قصائدي ، لم يترك ولاتُهُ لي وردةً بعطرها الذي أحبُّ ولا فراشةً بجناحيها الّذين أشتهي ، لم يترك تُقاتُهُ لي شبراً من الجنّة ولا ركناً من السعير ، لذا …. سأرسمُ لي في الهواء ، قبراً … أطلُّ منه إليه ، فأنا مريضٌ بالحنين .
الوطن ، رغم جحيمه ، هو الجنّة التي نكتبُ تحت سمائها أجملَ قصائدنا ونعلقُ أخطاءنا على غيماته فتصيرُ صواباً ، لا أحد يحبّ الوطن مثل شعرائه .
* ما هو حيّز حضور الحبّ في شعرك؟
– القصيدةُ التي لا تحملُ رائحة الحبّ أعلقُها على حائط النسيان . حتى تلك التي رسمتُ بها ملامحَ موتنا ووجعنا لا تخلو من رائحةٍ خفيّةٍ للحبّ والأمل .
*هل قصيدتك الأجمل لم تكتبها بعد؟
– نعم .
* أيّ قصائدك أقرب إلى نفسك؟ ولماذا؟
– القصيدةُ التي لا يزفها الوجيبُ لا تجد لها مكاناً آمناً على أوراقي ، طالما كتبتُ ومزّقتُ لأن قلبي وعقلي لم يكونا راضيين ، لا أقصد هنا الرضا المطلق فإني كما أسلفت لم أصل ولا أريد أن أصل إلى هذه المنطقة فحين أصلها لا أرى جدوى للكتابة حينها ، عشرات القصائد ( المسوّدات ) ما زلنَ يرقدنَ في مقبرةِ دفترٍ أزرقَ كبير أتصفحهُ بين الفينةِ والأخرى ، أمطارُ القلب لم تصلها بعد كي توقظها ، هناك شفرة غامضة بين اللغةِ والقلب متى ما اكتملت وتوافقا نضجت القصيدة ، لذا فكل القصائد التي نشرتها هي الأقرب إلى نفسي ، حتى تلك التي لم أنشرها إلى الآن وقد حظيت بهذا التوافق فهي الأقرب إلى نفسي أيضاً .
* ما رأيك في قصيدة الومضة التي لها حضورها في الوقت الحاضر؟
– أعشقُ هذا النوع من الشعر وكتبتُ الكثير منه ، قصيدة الومضة هي دفقة وجدانية شاهقة ، فكرة متوهجة تكتفي بكلماتٍ قليلةٍ لبناء نصٍّ متكاملٍ ، مثيرة ومكتنزة ، خاطفة مثل البرق يضيء السماء كلّها في لحظةٍ واحدة ، أنا أرى قصيدة القدحة أو الومضة مثلما أرى الإبر الصينية تنفذ خلال فتحات لا مرئية في اللحم لكنّها تصلُ إلى المكان الذي تستهدفه بدقةٍ وإتقان ، القصيدة الومضة كتابة صعبة وسهلة في آن بعيدة عن الإسراف اللغوي وبريئة من المفردات الكمالية التي توسم الكتابة بالإسهاب والترهل ، لقد ظهر هذا النوع من الكتابة في الأدب العربي منذ زمنٍ بعيد ، وأنا أعارض من يدّعي إن الشعراء العرب في عصر ما بعد الحداثة حتى يومنا هذا كانوا قد اقتبسوه من الأدب الغربي والأدلة التي تعضد رأيي هذا كثيرة أعرفها ويعرفها كثيرون غيري إذ طالما أطلقت العرب مقولة ( خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ ) والنفري قال منذ قرون ( كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ) ، لم تكن تلك الومضات التي كتبت في الأدب العربي يومذاك قد وضعت في منطقة الشعر ، لكن من يتأملها اليوم تتجلى أمامه جرعات الشعر الكبيرة ، لقد عرفنا الشعر العربي القديم من منظور الشطرين والعمود المتراكم للأبيات ، لكن حتى ضمن هذه الحدود كان هناك مصطلحان هامان يرجحان حضور ومضة الشعر في القصيدة هما : قصيدة البيت الواحد وبيت القصيد ، فالحديث عن بيت القصيد في قصيدة من خمسين بيتاً يعني إن الأبيات الأخرى لا تعني شيئاً . القصيدة الطويلة التي نكتبها اليوم يجب أن تتخلى عن شوائبها وتُبنى على الضربات ( الومضات ) المتلاحقة كي لا تكون قصيدة مطوّلة .
* هل الشّهرة والإعلام تصنع شاعراً خالداً؟
– الشهرة والإعلام يصنعان نجماً يشعُّ بمقدار الضوء الذي توفره له وسائل الإعلام تلك ، ويخفت حالما تبتعد عنه تلك الأضواء إلا إذا كان شاعراً حقيقياً ، القصائد الكبيرة الخالدة هي من تصنع شاعراً خالداً ، للأسف كثير من الشعراء الكبار لم يعرفوا كيف يسوّقون أنفسهم إعلامياً لأنهم مشغولون بالشعر وحسب ، على الإعلام الجاد أن يوجه أضواءه صوب الشعر الحقيقي لإنصافه ولتصحيح ذائقة الناس .
* ما رأيك بمقولة إنّ الشعر قد مات وولى زمانه،وأنّ هذا هو زمن الرّواية؟
– كيف يموت مَن في حدائقه عشبُ الخلود ؟ خلودُ الشعر متأتي من كونه حاجة إنسانية ، متى ما جفّت هذه الحاجة يمكننا أن نكتب نعيّنا له ، أنا لا أدافع عن الشعر فحين تدافع عن أمر يعني هذا إنه في حالة وهَنٍ ونكوص والشعر في خير ما زال هناك قصيدة جميلة وأغنية عذبة ولوحة تشكيلية باذخة وصورة فوتوغرافية مدهشة وقصة ورواية ، الشعر لا يتجلى في القصيدة وحسب ، هو حاضرٌ في كلّ مشهدٍ جماليّ في اللغة أو خارجها ، لا أريد الحديث عن تاريخ الشعر وتاريخ الرواية في أدبنا العربي لأقنع الآخرين عن حياة أو موت أيّ منهما ، في الفترة التي أسموها مظلمة مرضَ الشعرُ طويلاً لكننا كنّا نقرأ شعراً مدهشاً كتب في الفترة ذاتها رغم الكم الرديء الذي كتب خلالها ، حينذاك لم يكن الأدب العربي يعرف شيئاً أسمه ( الرواية ) . كتجنيس أدبي لا يمكنني الانحياز إلى الشعر ضد الرواية أو إلى الرواية ضد الشعر إلا في حدود الإبداع والتوهج ، ما دمنا نقرأُ شعراً متفوقاً لا نملك أن ندّعي إن نار الشعر قد أطفأتها ريحُ الرواية ، الشعر يجري في عروق الرواية مثلما السرد يجري في عروق الشعر ، ربما انبهار القرّاء وبعض النقّاد العرب بحجم المنتج الروائي العربي الضخم قد خلق لديهم هذا الانطباع لكننا لو تفحصنا المشهد الأدبي بدقة لوجدنا إن ما أنتج من شعر يفوق ما أنتج من روايات ولا ننسى أن هناك ما هو جيد وما هو رديء في كلا المنجزين .
*ماذا تقدّم المهرجانات والمؤتمرات والعضويّات الأدبية للمبدع؟
– ما تقدمه له هو التلاقح والتماهي مع أقرانه والإفادة والاستفادة داخل أو خارج كواليس تلك المهرجانات والمؤتمرات إضافة إلى التعارف الشخصي والظهور الإعلامي ، أما العضويّات فلا تقدم شيئاً .
* ما سرّ اهتمامك بتوثيق الأمكنة في مدينة البصرة؟
– بين كلمات حبيب بن أوس الطائي عن ألفة المنزل الأول والحنين إليه ، وكلمات جاستون باشلار عن بيوت الماضي واستعادة ألفتها في أحلام يقظته ، ألف عام ، رغم تباين رؤى الاثنين ، كون الأول يتحدث عن مكانه الأول ( الطلل ) بمجساته القلبية والثاني بمجساته العقلية ، لكن في النهاية يُخرجانه إليك بأقصى طاقاته الحسيّة ، فتشربه أنت بحجم العطش الذي تحسّه إلى مكانك الأول ، وقبلهما وبعدهما أفرط كثيرون بالبوح بما في دواخلهم من حنين لأماكنهم الأولى ، مراعي الطفولة والشباب . وأنا من هؤلاء الذين ابتلوا بهذا الحنين العذب المرير ، الذي يحضر من حيث لا أدري في أيّ نصّ أكتبه ، فيلبد سماءه بأنوائه ويبعثر الذاكرة في سماوات منخوبة بالسنين . هذا هو سرّ اهتمامي بتوثيق الأمكنة في مدينة البصرة ، والكلمات التي كتبتها في بداية الجواب هي جزء من مفتتح كتابي ( سياج الجهنميات الطويل / سيرة مكان ) ، شغفي بالأمكنة بدأ عندي قبل أن أُمسَّ بجرثومة الشعر ، مذ كنت طفلاً كنت أرسمُ الأزقة التي أمرّ بها والأنهار الكثيرة التي أعبرها ، وجوه العابرين والعابرات ، الجسور الخشب والشرفات الخشب ، كل يوم أرسم مسنّاة نهر العشّار بعد عودتي من المدرسة وأُجلسُ الصبية والصيادين والشيوخ والعاطلين عن العمل عليها وفق ما تقترحه مخيلتي الصغيرة ، النوافذ والأبواب القديمة كان لها متوالية من اللوحات في دفاتري ، أماكن البصرة القديمة متاحف لا أملك إلا أن أغرف من مباهجها ما يجاري دهشتي .
* هل فكّرت في يوم ما أن يكون هذا التوثيق بشكل شعري ملحمي؟
– نعم ، كتبت الكثير من النصوص الشعرية التي تشترك في ثيمة واحدة هي الأمكنة لم أنشرها في كتابي الشعري ( أرض الله الغليظة ) لكنها نصوص مبتورة ، ربما أعالجها وأربطها لتشكل قصيدة واحدة .
* تُرجمت بعض أعمالك إلى الكثير من اللّغات.فهل تخشى أن تقتل التّرجمة بعضاً من جمال هذه القصائد؟
– محال أن يحيا النص المترجم بروح النص الأصل .
* هل الشّعر برأيك يصلح للترجمة شأنه شأن النثر؟
– إذا ترجمه شاعرٌ يتقن اللغتين قد يصلح بنسبة مقبولة ، الترجمة كما يقال : خيانة للنص ، هناك تراجم شعرية متقنة أنجزها شعراء اقتربت إلى حدّ كبير من النصوص الأصل ، لكني أعترف إن ترجمة الشعر مشكلة كبيرة فلكل لغة إيقاعها وانزياحها وتوريتها …. الخ .
* بجملة واحدة ماذا تعني لك هذه الإنتاجات الإبداعيّة؟
أ- حدّثني الملك الضّليل: محاولة في كتابة قصيدة القناع
ب- بداية البنفسج البعيد: قصائد تمتدّ في اتجاهين ، الأول: الحب والمدينة والتراث ، والثاني: الخيبة .
ج- أرض الله الغليظة: قصائد عن مدينتي ، أماكنها ، شعرائها ، أنهارها ، جسورها ، مقاهيها ، وأحلامي .
د- سياج الجهنّميات الطّويل: سيرة مكان / كتاب نثري يرسم المدينة بلغة شعرية .
* ما هو حلمك الإبداعي؟
– لم أحلم به بعد . فما زلت منشغلاً بتنسيق حرائقي .
* هل أنصفك النّقد المحليّ والعربيّ؟
– لم ينصفني ولم ينصف كثيرين غيري .
* كيف تصف المشهد الشّعري العراقيّ بشكل عام والبصري بشكل خاصّ؟
– أصفهما بما قاله الشاعر العربي الكبير محمود درويش : ( …. في هذا الفضاء السّومري / تغلّبت أنثى على عُقم السّديم / وأورثتنا الأرضَ والمنفى معا / أتذكرُ السياب .. / إن الشّعرَ يولدُ في العراق / فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي ! ) . العراقيون عامة والبصريون خاصة يتنفسون شعراً ، شعراءهم بعدد نخيلهم ، لكن هذا لا يعني إن كلّ ما كتبَ من شعر في هذه الأرض هو شعرٌ جيدٌ ، هناك الكثير من الشعر المدهش المتقن والكثير من الشعر الرديء .
* لطالما كانت العراق هي خزّان الإبداع العربيّ.فكيف تصفها الآن في ظلّ التّحديات العملاقة التي تمر فيها؟
– أنتِ الآن تسألي وتعبئي سؤالك بأربعةِ أخماسِ الجواب ، هي لعبة ذكية ، بلى : هو خزّان الإبداع العربي ، وكلّما اشتدت الخطوب فاضَ إبداعاً ، الأجيال الشعرية التي عركتها الأزمنة الصعبة هي أرهف الأجيال شاعرية وأكثرها وعياً ، الذين خاضوا حقب النضال المريرة والحروب والحصار اكتنزوا فكراً وشعراً راقيان .
*ماذا قدّم العمل بالإعلام لموهبتك ومخزونك الإبداعي؟
– موهبتي ومخزوني الإبداعي قدما الكثير لعملي الإعلامي ، للتوضيح : أحاول النأيّ بنفسي عن الإعلام والصحافة للتفرغ للكتابة الأدبية فمنذ سنوات لم أنشر سوى عدد جد قليل من الحوارات الأدبية واستعراض بعض الإصدارات الأدبية التي اعتقدت إنها مميزة .
* هل العمل الإعلامي يخنق الموهبة الشّعريّة؟
– لا شيء في الكون يخنق الموهبة الشّعريّة هي ملَكة تشبه ما نملكه من جينات وراثية ليس بأيدينا الخلاص منها … انظري : بعد تغيير ربيع عام 2003 المدوي في العراق طفحت في وسطنا الأدبي ظاهرة ادعاء التهميش ، كثيرون ادعوا إنهم كانوا مهمّشين في زمن النظام السابق ما خلا أصحاب المواهب الكبيرة لم يدّعوا ذلك ، رغم ما عانوه من قمع لكنهم خلال تلك الأيام الصعبة كتبوا أجمل قصائدهم وسربوها بطرق شتى خارج الحدود ليتلقفها القراء هناك بشغف وبهجة وسجلوا حضورهم في عواصمَ ومدن عشقت شعرهم وأدبهم وهم في سجون بلادهم أو متسكعين على أرصفة المجهول وحتى اللحظة كلّ يوم يتألقون إبداعاً وصمتاً ، والذين جأروا بالتهميش ، الكثير منهم لم يقدم حتى اللحظة ما يستحق الالتفات صوبه ، إذن فالعمل الإعلامي لا يمكنه خنق الموهبة الشعرية لكنّه يحدُّ من الإنتاج الشعري فتجدين نفسك دائماً أمام مشاريع شعرّية مؤجلة .
* كيف ترى حال القصيدة العربيّة في الوقت الحاضر؟
– بخير رغم إنها بين مدّ وجزر . تألق وخفوت ، لكنّ حالات تألقها أكثر .
* هل أنت منحاز للشّعر الحرّ؟ ولماذا؟
– أنا منحاز لأيّ نصّ شعريّ متفوق وبطاقة شعريّة عالية ولغة متقنة بلا ترهل أو انحطاط بأيّ شكل يكتب . قد انحاز للشّعر الحر لكني لست ضد الشعر الكلاسيكي إذا استطاع أن يُكتب بالصفات التي ذكرتها .
* هل شعرك هو صدى لفكرك أم لحالتك الوجدانيّة وتجربتك اليوميّة؟
– شعري هو خلاصة تجربتي وموهبتي ومكتبتي .
* هل أنت عاشق كبير؟ أم مبدع كبير وحسب؟
– أنا عاشق ومجنون ، لكن هل أنا مبدع ، فهذا يثبته من يقرأ قصائدي أو ينفيه .
* من مثلك الأعلى في الشّعر؟ ولماذا؟
– أحبّ آرثر رامبو وبودلير ومحمود درويش ورسول حمزاتوف والمتنبي والسياب والبريكان وبعض قصائد أمل دنقل والكثير من شعر الملك الضلّيل ومحمد الماغوط أفضله على أنسي الحاج وأدونيس وأتقصى قصائد صلاح ستيتية ، كلهم مثلٌ أعلى .
* لك مشاركات شعرية مشتركة في بعض الإصدارات،وأبرزها إصدارات رابطة الكتاب العراقيين فرع البصرة.فهل تؤمن بجدوى المجاميع الشّعريّة المشتركة على الرّغم من تباين المستويات؟
– تقصدين كتاب ( جنوب يبتكر المطر ) ، أنا أعتبره مشروعاً جيداً رغم تباين المستويات فهو يوثق مرحلة محددة للمشهد الشعري البصري رغم أنه لم يتسع لكل الأصوات الشعريّة في المدينة ، وفي المحصلة القارئ الفطن هو من يحدد هذا التباين بسهولة ، لكني أعتقد إن مثل هذا التوثيق ضروري للأجيال القابلة .
* لمن تشجو بهذه الأشعار؟
أ- “لكن لا أدري كيف تعثّرت بعينيك؟”
هي امرأةٌ تعثرتُ بعينيها .
ب- “أنا لستُ أنت”:
إلى الذين نصبوا أنفسهم وكلاء للسماء في الأرض وهم الأبعد عنها ، هي ليست لشخص بذاته .
ج- “هل يكفي هذا كي أقول:أحبّك؟”:
لمن أردتُ أن أقول لها : أحبّك
د- “لا عاصم غير دمي”:
هذه الجملة حضرت في قصيدة كتبتها بعد احتلال مدينة الموصل من الزمر الإرهابية .
هـ:”هل قهرك الموت أم أنت قهرت الحياة”:
للشاعر الكبير محمود البريكان عقب اغتياله المأساوي .
المجانين
……………………
خَذِ الجمر من أسئلة المجانين
ودونما اكتراث…
أشعلْ ما شئتَ من الغابات
ثم سَلِ الله أن يحبسَ المطر.
المجانين..
بِزوّاداتٍ أثقَلَتْها النجومُ
وقمصانٍ مهلهلةٍ
تذابحَ البدو على واحاتها
يلوذونَ بالبحرِ من البحر
وبالريحٍ من العاصفة،
يقترحون عليك الأفقَ
وبعضَ النزيفِ
كلمّا تكِّدس الضجيجُ على فرائصهم
عراةٌ في مهب الجمر
إلاّ من توجٌّسهم
تمرُّ الفصولُ
ولايطفقون بغير التراب،
يُثري النواصي بأبِّهةِ التيجان.
المجانين…
بحّارة أرضيونَ
لا يعرفون من الجهات إلاّ النخيلَ
وحزن الضفافِ،
على الأشجار جراحٌ من قصائِدِهم
ومن لوحاتِهم.. في سَورةٍ من شرود
مدن مُضرِّجةٌ تسيلُ..
وأخرى تصطخبْ.
يقترفون اللياليَ
بنزرٍ من النومِ،وحشدٍ من الفواجعِ
وكلمّا تُبَرطِمُ الأنهار في أحلامهم
يرسمونَ الشمسَ بدمٍ شاهق.
قنّاصونَ في البياضِ والغموض
وسآلون،
يتبعهم النحاةُ
بسلالٍ من الفصحى
والعَروضيونَ على خببٍ،
بالحكمةِ والأسرار يتبعهم النطــّاسيون،
الدراويش بالتعاويذ يتبعونهم
وبحروفٍ زعفران يتبعهم الكهنة
والصوفيونَ بِأثوابٍ من ضوء الله.
وفقاً لهزائمهم.. يهندسون الغناء
وفوضى التجلي،
لهم من المُريدينَ ما يكفي
لسجْرِ تكاياهم.
أعوادهم موتورةٌ بالنحيبِ
وطنابيرهم صاخبة،
ومن جرحٍ بلا شطآن
يأتون بالأمطارٍ والحرائق.
المجانين…
أبداً في أوّل السربِ
يُرهقون السماءَ
بخفقٍ غريب.
—