إن أهم ما يميز المجموعة القصصية الأخيرة(تراتيل العكاز الأخير)، للقاص والناقد محمد علوان جبر، الصادرة من دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع 2015 هو هذا الكم الهائل من الأحزان والفقدان والخسارات المتراكمة والمتكررة، التي نلمسها خلال تصفحنا للمجموعة، ومحاولات البحث الدؤوبة التي يمارسها ابطال المجموعة، للبحث عن ملاذات وحواضن جديدة، لتحاول من خلالها إسقاط ما تبقى لها من كينونة، أو الفناء فيها مرة أخرى.
أن أجواء الحرب، والعيش في ظل حياة بوليسية محكمة، والاضطهاد الذي يتعرض له أبطال المجموعة، سواءاً في ساحات الحرب أو في مجتمعاتهم المدنية، وحالات الإستلاب وحتمية النهايات السالبة، والتي يواجهونها في الغالب منفردين ومندحرين، كانت الثيمة المهيمنة التي تتحرك فيها المجموعة، بشخوصها الذين هم في أغلبهم مجهولي الهوية، وبزمنها الإفتراضي الذي تتمدد فيه الاحداث على مساحة النصوص.
لقد قدم لنا القاص والناقد محمد علوان جبر مجموعة قصصية محكمة الصياغة، وبطريقة سردية، كان هو يقف منها موقف القاص الموضوعي المحايد مرة، كما في قصص(حفاروا القبور)و(ضوء أزرق اسفل الوادي)و(تراتيل العكاز الأخير)و(صهيل العربة الفارغة) وو(سراعا تمضي السحب)و(انقلاب)و(ملاذات طالب العجيبة)و(الأوبتيما الزرقاء)و(غبار حلم آخر)و(مطر بلون الرثاء)، وأخرى يكون هو بطلها كما في قصة(اغنية قديمة)و(جسر الملائكة)، بينما يكون في بعضها بين هذا وذاك، كما في قصة(دخان المظلة).
تفتتح المجموعة القصصية بقصة(حفاروا القبور)، والتي تبدوا وكأنها المقدمة الإستقرائية لما سيليها من أحداث، تدور معظمها حول نفس الموضوع، الذي تدور حوله حكاية (حفاروا القبور)، القصيرة، وهو الحروب وهاجسها المدوّي في مخيلة الناس، إنها مجرد استعدادات وتحضيرات للحرب، تصاحبها أسئلة غبية مضحكة،(قال أحدنا أنها الحرب ..قلنا أي حرب…؟)، إنها الحرب التي نتذكرها كغيمة سوداء، والتي كنا نتساقط فيها الواحد تلو الآخر، تلك الحرب التي ستفتح ذراعيها بطريقة سافرة، في القصة التالية.
( ضوء ازرق اسفل الوادي) هذه القصة، كتبت بطريقة أقرب ماتكون إلى المفارقة والإبتكار، حين يعثر أحد المقاتلين على بقايا دفتر يوميات لجندي ايراني في أحد المواضع خلال سنوات الحرب، ومن خلال تصفح وريقات الدفتر، التي يقوم بترجمتها صديق فخري بطل القصة، يدخلنا القاص، أجواء الحرب من جوانبها الإنسانية والروحية والحسّية..(أكاد اسمع نبضات قلبك..أحسك أقرب إليَّ من وحشة الجبل، المرارات كلها تجتمع هنا، هم يقصفون، ونحن نقصف.. هكذا إلى ما لا نهاية)، في هذه القصة الكبيرة، يحاول القاص أن يضخ الدماء بذاكرة، ربما تعدت بخطوات، فصول مرعبة من تأريخ العراق الحديث، يلامسها بطريقة غاية في الحساسية، من خلال صور تحاول أن تجعل من أجواء الحرب مقاربة روحية لما هناك وهنا،(فراشة تطير في مدى منظاري المقرب، تأكدت أن الفراشات لاتخاف القنابل..ولا تخاف الحرب مثلي أو مثل الجنود الذين أراهم في منظاري يسيرون في الوادي وسرعان ما تخفيهم الصخور)، يقابل هذه الصورة، صورة أخرى تلخص كل الرعب الذي يعيشه المقاتل، وهو في انتظار لحظة الاشتباك(الانتظار في الحرب يسبب رعباً أكثر من الحرب ذاتها)، في هذه الحكاية، أراد القاص أن يبرز جانب مهم من جوانب تلك الحرب، وبعداً انسانياً، ربما لم يجربه إلا اولئك الذين عاشوا محنة تلك الحرب، وحقق فيها النجاح الكثير.
قصة (تراتيل العكاز الأخير)، التي اخذت منها المجموعة عنوانها، والتي يكون ترتيبها الثالث ضمن المجموعة القصصية، هي حكاية تبدأ بمفارقة، حين يطلب أحدهم وهو بطل القصة، من الأرملة أن تمنحه ساق زوجها المتوفي الاصطناعية، التي احتفظت بها بعد رحيل زوجها، فهذه الساق الاصطناعية تعني للأرملة الكثير،(كنت أشعل الشموع وأركن طرف الساق اليسرى دون أن أنزع الحذاء الجلدي الأسود الذي كنت أديم مسحه جيدا قبل أن أجلس قبالة الشمعة والساق..أخرج صورا تضمني واياه قبل عوقه وبعده)، بالمقابل فإن هذه الساق تعني للرجل حاجة انسانية أكثر منها، مورداً ماديا،( سيدتي، صدقيني انه سيرتاح في قبره كثيراً حينما يتناهى اليه بطريقة ما، ان طرفه بات في حوزة من يحتاج اليه)، وبين هذا التضاد في المشاعر الانسانية، تبرز تلك العلاقة الفريدة بين طرف اصطناعي ومعوق، إنها إحالة لزمن آخر يأبى النسيان، (لا تستغربي وتقولي إنني مجنون..!صدقيني نكاد نشم رائحة الدخان الذي يتصاعد من الاماكن التي تتزلزل فيها الارض وكيف كنا نتطاير قبل أذرعنا وسيقاننا)، هي حكاية من حكايات الحرب، حينما يتحول الفقدان، الى قيمة إنسانية تشاركنا حياتنا ويومياتنا التي نفتقد فيها من نحب فلا نجد التعويض إلا بالاشياء الصغيرة والقليلة التي تركوها ورائهم، فالساق الإصطناعية، ليست وحدها من قادت الرجل المعوّق، إلى دار الأرملة في ساعة متأخرة من الليل، بل هي الحاجة في أن يمنحنا العالم بعض العزاء، فيمن نجد ممن نكون بحاجة لهم، في ساعة خواء أو رجاء، وهي نفس الرغبة الكامنة لدى الأرملة(وما الضير في ان يقودك الطرف كل يوم إلى بيتي).
في قصة (صهيل العربة الفارغة)، تتحول الحرب الى اغتراب روحي، والإغتراب يتحول إلى طقوس آلية، أن تسلك نفس طريق الذهاب والإياب، وان تصادف نفس المحطات، وان يكرر الزمن نفسه، وان ترى نفس الوجوه، أن تؤجل الحرب زمنها لساعات لتعيش حلماً كاذباً، تودعه حال الوصول لساحة الحرب، إنها انثيالات طقوس يتذكرها أحدهم (وهو يستظل بالجدار)، إنها حكاية بلا أسماء بلا تواريخ، بطلها الانسان في طريقه لساحة الحرب، وزمنها مساحة عبقة من التذكر.
في قصة(اغنية قديمة)، تقف الرغبات الجامحة نداً قوياً للموت، ولنداء الحرب، المنبعث من مذياع الجارة، (وفيما ننحشر في عتمة الغرفة، هيمن صمت عميق لم يقطعه سوى صوت الراديو المنبعث من بيت جارتنا، وهو يغلن عن هجوم يبدأ..وهجوم مقابل يصده..).
لم تكن غير ساعات قليلة، اختزلها القاص والناقد محمد علوان في صفحة ونصف، وبطريقة سردية، لم يكن الغرض منها اشباع الغرائز الجامحة، بقدر ماكان احتماءاً من الموت وميادين الحروب، لكن في النهاية لن يكون هناك من مهرب، (ادرت وجهي ناحية الساعة لمعرفة الوقت، رغم نظرة الاحتجاج التي رأيتها واضحة في عينيها)، هي حكاية كسابقتها، تركت بلا أسماء وبلا تواريخ، حكاية أبطال في زمن استثنائي.
قصة (ملاذات طالب العجيبة)، هذه القصة رغم أنها لا تخرج في سياقها، عن أجواء المجموعة المتخمة، برائحة الحروب، إلا أنها تتفرد في شخصيتها، التي يليق بها أن تكون شخصية روائية، أكثر منها قصصية، فحدودها التي حاول القاص أن يضيق الخناق عليها ويحاصرها، في مساحة محددة، كانت ثرية، وتحتاج إلى الكثير من الانفتاح والإطالة، لتأخذ حيّزها الحقيقي، فبطلها طالب(الذي لفظته الحرب بأجهزة عاطلة)، يحاول بشتى الطرق أن يعيد ربط الخيوط التي تقطعت مع الواقع والمحيط الذي يعيش فيه، لكنه في كل مرة يفشل، ويعيد الكرة من جديد ويكون نصيبه الفشل أيضاً، بعد أن يفقد زوجته الأولى وابنه، ومن ثم احتراق بيته، يبحث له عمن تشاركه حياته، لا فراشه، فهو رجل عاطل، منذ الإنفجار القريب الذي أصم أذنيه، وقطع أوصال من كانوا قريبين منه، لكن في النهاية سيكون عليهما، أن يتقاسما الفراش أيضاً، وعليه أن يلبي تلك الرغبات المشروعة والمحمومة لزوجة تنتظر رجلاً، يقاسمها هذا المقطع المجتزأ من الليل، لا الحياة العريضة، وحين تضيق به السبل يصرخ فيها كل مرة للتذكير(أنا عاطل)، كما كان يفعلها في الأيام الأولى، حين كان يعيش أسوء أيامه، بعد عودته من الحرب،(كان يعيش أيامها لوثة هذياناته القوية التي عرفنا منها ما فيه اذ كان يجهربصوته القوي أنه عاطل..كل ما في روحي وجسدي عاطل…)، إنها حياة ما بعد الحرب. حين تترك الحرب ظلالها الموجعة واثارها المميته والمشوهة، على العائدين منها وقد خسروا كل شيء،
قصة (دخان المظلة)، تكاد تكون القصة الوحيدة التي تنفلت من أجواء الحرب، وكذلك توزع أصواتها بين الراوي والمتكلم، لكنها أيضا قصة تنسج خيوطها من خبايا الذاكرة، أبطالها بلا أسماء ولا عناوين، ولا حتى تواريخ محددة(أنا أقف على أنقاض ساحة شهدت قصتنا التي بدأت في هذا المكان واستمرت عشرة أعوام)، هكذا يحدث الرجل نفسه في مونلوج طويل. يقطعه بين الحين والاخر، هذا الدخول العسير، للآخر الذي كان بحاجة لأن يكون إلى جواره تلك اللحظة، وهي حاجة لتوكيد الفعل والحدث، الذي وقع ذات يوم، أكثر منه، انشطار أو تشظي شخصية البطل، كان بحاجة لأن يسمع هذا(كنت معكما..)، بلسانه أو بذهنه المشغول هناك في تلك الساحة المقابلة له، ، وكل ما كان يهمه بعد سنوات من فقدان زوجته هو (البحث عن البداية)، التي تبتدأ بسؤال افتتاحي(هل هذا هو الميدان …؟)،وتنتهي بوداع الآخر الذي رافقه في رحلة البحث والتذكر(أعرف أن الأمر كبيراً عليك أن تبقى وحيداً).
في مجموعته القصصية(تراتيل العكاز الاخير)، قدم لنا القاص والناقد محمد علوان جبر، منجز قصصي كبير لمرحلة، رغم ابتعادها الزمني، إلا إنها تظل خصبة وطرية، في الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي، هي سنوات الحرب والفجيعة، وهي بحق علامة فارقة في ادب الحرب، الذي يكتب ما بعد الحرب.
—