عصام القدسي :
كانت شمس الشتاء تمد أشعتها داخل المقهى،من خلال واجهتها الزجاجية كلما انصرفت ساعات من النهار. تباريها الظلال الباهتة فيستطيلان معا جنبا إلى جنب. وكان المقهى يبدو هادئا تماما على غير عادتها لقلة زبائنها ،وقد انشغل جانب منهم بحديث واطئ النبرة، بينما انهمكت مجموعة من الشباب بلعب الدومينو ،واكتفى كبار السن بالصمت وتأمل حركة المارة من أمام المقهى.أما أنا فكنت أراقب بمتعة،حركات يد العامل الماهرة وهو يملأ الأقداح من أباريق الشاي المصفوفة على موقد طويل،ليضيف إليها قليلا من الماء الساخن ،ينساب مع البخار من حنفية ” السماور”، القائم إلى جانب الموقد.ورأيناه يظهر بغتة، ولم نكن نعرفه فزبائن المقهى من أبناء المحلة وقليل هم الطارئون عليها. كان يقف فوق رؤوسنا ،يلقي بظله الكبير على مساحة واسعة من الأرض ،يبحث بنظرات حديدية غاضبة عن شيء ،ثم لحظنا بصره يتجمد على الصبي صباغ الأحذية الذي كان يقف شارد الذهن،ثم تحرك باتجاهه.بهت الصبي وهو يراه يقترب منه حتى صار قبالته ، تفرس الرجل بوجهه بقسوة ،وصرخ به صرخة اهتزت لها أرجاء المقهى ودوت صفعة على خد الصبي، فتوقفت أيدي لاعبي الدومينو عن الحركة وتعطل الحديث،وامتدت يد العامل تذلل صوت المذياع ، وتبعثر انتباه العجوز صاحب المقهى عن عد النقود التي أمامه على المنضدة عند المدخل، وانشدت الأنظار نحوه خائفة، كان الشرر ينطلق من حدقتيه. وتحركت شفتاه الشرستان بتمتمات كالطلاسم .تقهقر الصبي إلى الوراء، مرتعبا وتعثر وهو ينوء بحمل صندوقه الخشبي الصغير ولاذ بالفرار.وومضت تلك اللحظة صورة الرجل أمام عيني فرأيت شيطانا يكشر عن أنياب ضبع .ومرت لحظات عصيبة ،ثم تساءل البعض همسا فيما بينهم:
ـ ما الذي يجري.؟!!
ـ وما علاقة الرجل بالصبي.؟!!
ـ وكيف انهزم الصبي بهذه السهولة وهو الذي عرف بعناده..؟
ـ لاشك إن هناك سرا في الأمر.
ـ لا أظن ذلك ..
وعادت الحياة تنبض في المقهى،دون أن يجد أحد تفسيرا لما حصل ،وعاد كل إلى شأنه كما لوحظ دخول زبائن جدد إليها..
واختفى الصبي ولم نعد نراه ثانية وقد ألفناه يقف متأبطا صندوق عدته في ركن من المقهى يطرق على حافته بفرشاة الصبغ للفت الأنظار إليه،أو جالسا وراء الصندوق منشغلا بتلميع حذاء أحدهم بحركات مرحة . ورأينا الرجل فيما بعد يظهر بدلا عن الصبي،بوجهه الجامد كالشمع ،وصندوقه العتيق ، وما أن يحضر حتى يتوقف طويلا متأملا الوجوه ،ثم يتحرك بطيئا مشدود الهامة بين التخوت الخشبية ،ويشير صامتا بيده إلى أحذية الجالسين وهو يحدق بهم بنظرات تبدو مترفعة .ذلك هو صباغ الأحذية الجديد ،رجل طويل القامة،يرتدي معطفا سميكا،عظيم الجثة، وجهه مكتنز تؤطره لحية كثة يشوبها البياض،تستقر فوق رأسه الكبير طاقية متسخة تتسلل أصابعه الغليظة ،أحيانا، إلى تحتها لتدلك فروة شعره الأسود المائل إلى الرمادي. وكم حاولت أن أتقصى حقيقة الرجل،يحدوني هاجس بسر يخبئه..لم أره مرة يدخل من الباب الواسع للمدخل ولا الاتجاه الذي يقدم منه،حتى رحت خلسة ابحث في غور المقهى الذي احتوى النراجيل وقطعها وفحم جمرها،وخزان للماء ،عن باب سري يتسلل منه إلينا فهو يظهر بغتة واقفا يتطلع إلى ما حوله ثم يبدأ بالتحرك في مسالك متعرجة،وأتساءل مع نفسي، ترى أين اختفى ذلك الصبي،الذي كان لا يغيب عن أعيننا لحظة حتى خلناه بعضا من المقهى،كأقداحها وعاملها وجدرانها وأرائكها وصاحبها العجوز الذي لا يفارق مجلسه. هناك من قال إن الصبي وجد مقتولا على ناصية شارع مجاور. ثم جاء من يكذب الخبر ويدعى انه رآه قبل أيام في مقهى قريبة من هنا .. وأرى الرجل يقف بالقرب مني متطلعا إلي بصمت فيقشعر بدني، فهو غامض حقا حتى بت أحسبه مشعوذا يخفي في طيات ثيابه سحرا أسود ،أو قاتلا متخفيا دائب البحث عن شخص ما ،وأكاد أتيقن من شعوري هذا وأنا أرى تهيب عامل المقهى منه وتحاشيه الاحتكاك به ،وهو يمر حاملا صينية الشاي، ومما زاد في ريبتي به انه ما أن ينتهي من تلميع حذاء أحد الزبائن حتى يهب هذا الزبون، ذاهلا مشوش البصر كما لو تناول مخدرا،ويغادر على الفور كفقاعة ، ليختفي قبل أن يجتاز الباب إلى الخارج، مما دفع صاحب المقهى إلى الشك بصدق بصره،والارتياب بادعاء عامله بعدد الزبائن..
حازما، يمر من فوق رؤوسنا ،يتطلع إلينا بنظرات تخترقنا كالسهام.ولم يخطر ببال أحد ،أن يحصل ما حصل. ففي ذات صباح وكعادته كان يقف شارد الفكر يناور زبونا يجلس في أقصى المقهى،حين دنت منه امرأة بائسة الملامح تتلفع بعباءة سوداء استحال لونها الى البني، كانت تستجدي الحاضرين فأمسكت بذراعه بغتة، أجفل الرجل وهو يلتفت إليها واتسعت حدقتاه وارتعش بدنه ثم هوى إلى الأرض.فز الجميع وهبوا لنجدته حتى أحاطوه كالسور. وسُدت منافذ الرؤية أمامي فلم اعد أراه من بينهم ،وحين انجلى الموقف وعاد كل إلى مجلسه ،لم أجده وكما لو ذاب وتبخر بفعل ساحر.وكدت اجزم أننا لن نرى الرجل ثانية ،وهذا ما تفوه به آخرون.ثم اكتشفت فيما بعد ،خطأ ظني.. فما أن حل الصيف وبدأت العطلة الدراسية، حتى رأيناه يظهر بغتة ،كان يقف متكئاً على كتف الصبي وسط المقهى ويحدثه برفق، والصبي يبتسم .كان الرجل شاحب الوجه،وقد أصابه بعض الهزال،إلا انه كان يبدو كعادته قويا صلبا كتمثال حجري.
حين رآه بعض زبائن المقهى المدمنين على الجلوس استُنفرت حواسهم ودارت رؤوسهم وجرى بينهم هذا الحوار:
ـ هاهو الرجل المارد يعود..
ـ والصبي معه ..
ـ إذن لم يكن في الأمر ما يحتمل الجدل..
أما الرجل فقد كان في هذه اللحظة يتطلع،بنظرات قاسية لا تخلو من مغزى إلى مدخل المقهى،في الوقت الذي راح زبائنها الذين اختفوا، يتوافدون إليها الواحد تلو الآخر ..من جديد..
—