القصة:
جليل
الصّبيُّ ابنُ ثلاثةَ عشر ربيعاً لا يفارقُ المسجدَ التزاماً بنصائحَ والديه؛ ويسألُ أمَّهُ باستمرار: هل كان أخي ينزعجُ من تصرّفاتِ الشّيّخ؟!!!
تضمّهُ الى صدرِها وتهدْهِدُه: أخوك لم يخلفْ لنا أمراً..
– لمَ تأخّرتَ كلّ هذا الوقت؟!
– أمّي لن أعاودَ الذّهابَ لهذا المسجد.
– ما الأمرّ؟؟؟
– الشّيّخ قبّلني من فمي…. سأختارُ مسجداً آخر.
– بُني أنّه شيخٌ جليلٌ ويحترمُ أباك و لايرفضُ له طلباً.
أطرقَ رأسَه أرضاً واكتشفَ أخيراً أنّ أخاه كان ضحيّة فقرّر زيارةَ قبرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة سيكلوجية تحليلية:
إذا كانت دراستنا (للعمل الإبداعي) في نص (جليل) للقاص كامل التميمي هي التي اقتادتنا إلى البحث في سيكلوجية النص وعلاقة الكاتب بانتاجه، فإننا لابد أن نجد أنفسنا مضطرين إلى مواجهة “التذوق الفني” التي دفعتني كمتلقي أن أقرأ النص وفق هذا المنهج.
والواقع إننا لو سلمنا بما يقوله الدكتور عز الدين اسماعيل: (العمل الأدبي وليد اللاشعور) لوجب علينا أن نجعل من (التأمل) أو (المشاهدة) أو (الإدارك النفسي) الموضوع الرئيسي في تحليلنا للنص، ومن هنا تأتي ضرورة تفسيره في ضوء المنهج النفسي التحليلي، لأنه المنهج الوحيد الذي يختص بتحليل اللاشعور بحسب ما يقول الدكتور عز الدين اسماعيل.
وتبعاً لذلك فقد ذهب بعض النقاد إلى أن (الموضوع السيكلوجي) يعبر عن نشاط خاص تقوم به الذات إزاء الأشياء لتكون عقدة يرسمها المشهد داخل النص لتؤدي غرضاً في معالجة حالة اجتماعية يقصدها الكاتب باللاشعور في لحظة الإبداع.
ولمّا كان الأثر الأدبي هو من التنوع بحيث يستحيل علينا أن ندرسه في وحدته وطابعه العام، فإن معرفتنا بالحالة النفسية التي اعتاش عليها النص تتخذ مكانها داخل النشاط السايكلوجي (الشذوذ) ضمن غيرها من وقائع الحياة النفسية، ويصيح من واجب الأديب أن يصف سلوك الأنسان العملي الحسي، أو الخلقي، أو الإدراكي العرفاني، أو موقفه الديني أو اللاديني، أو الشذوذ الخلقي داخل انتاجه الإبداعي.
* ويمكن أن نصف دراستنا وفق السّمات الآتية:
أولاً: التوقف (L’arret)
ومعنى هذا أن ثمة فعلاً نفسياً منعكساً يتمثل في استجابة الكاتب للموضوع في صميم عملية الإبداع السردي، وهذا يعني أن لدى الكاتب فكرة سابقة أو تصورا قبلياً عمّا يُنشده أو يبحث عنه، فكان التوقف عند فكرة قد تكون واقعية في مجتمع الكاتب أو أنه سمع بها أو رسمها تحذيراً من وقوعها، أو الكفّ عن مواصلة نشاطها النفسي(الشاذ)، ومن أجل هذا استغرق(توقف) الكاتب في حالة من المشاهدة لعنوان يعبر عن ذكاء اختياره لعتبة النص (جليل) والجليل هو جَلِيلُ الْمَقَامِ: مُحْتَرَمٌ، وَقُورٌ، وبذلك أراد الكاتب أن يصنع حالة مفارقة بين العتبة والنص بعد اكتشاف المتلقي للأمر الخطير الذي يعمل من أجله هذا القناع للوقوع بالشّر داخل حرم المسجد، وبذلك توقف الكاتب عند العنوان ليرسم خطورة هذا التزييف، لأَمر جلِيل: عَظِيمٌ، خَطِيرٌ، مُهِمٌّ، بَاِلغٌ.
ثانياً: العزلة أو الوحدة (L’isolement). ومعنى هذا أن للسلوك الإنساني قدرة انتزاعية نحو (الاغتراب)، لأن من شأن الاغتراب العزلة عمّا هو مشين، لذا جاءت معالجة القاص التميمي لمعالجة هذه الحقيقة، فاعتمد على مفردات اظنها واقعية في رؤيته السّردية التي أوحت لنا بسايكلوجية الحدث ودلالته النفسية، (ينزعجُ، تضمّهُ، لن أعاودَ، قبّلني)
ولم يكن المكان مقتصراً على المسجد فقط بل حمّله الكاتب بُعدا عاماً ـ وعلى ما أظن ـ أراد الكاتب أن ينطلق من وعاءٍ يحمل الدلالات النفسية كاشفاً القناع عن بعض الممارسات الشّاذة لمن يتلبسون بزي الإيمان في أي مكانٍ وزمان كانوا، مغترباً نافراً منعزلاً عن هكذا ممارسات سلوكية.
وقد استطاع الكاتب ومن خلال الحركة المتقاطعة لشخصيتي (الابن علاقة استحضار لأخيه) مع (الشيخ) أن يحقق ذلك التصادم السردي للاغتراب والعزلة من خلال موقفي هاتين الشخصيتين وفق المخطط التالي:
سلوك الشيخ (الشّيّخ قبّلني من فمي) + سلوك الابن (أمّي لن أعاودَ الذّهابَ لهذا المسجد) = استحضار الضحية للأسباب ذاتها (اكتشفَ أخيراً أنّ أخاه كان ضحيّة)
وهذا يؤدي للاغتراب (العزلة والوحدة) تأكيداً.
ثالثاً: الموقف الحدسي: L’attitude intuive. ومعنى هذا أن رائدنا في السلوك لرسم المشهد ليس هو الاستدلال والبرهنة والبحث العقلي (كما هو الحال في البحوث العلمية مثلاً) وإنما رائدنا الحدس والإدراك المفاجئ، فننجذب إلى الموضوع أو ننفر منه نتيجة لإحساس يتملكنا منذ البداية.
لذا شكلت (ثنائية السلوك الشاذ والشرف) في قصة (جليل) بين (الابن والشيخ) موضوعاً مهماً لفهم القيم الفكرية للبعض والنفور منها من خلال الموقف الحدسي الذي سعى إلى سبر أغوار الحياة المقنّعة وتحقيق خطاب سردي مُفعم بالسلوكيات السايكلوجية، لا بالبرهنة بل في التحول النفسي وعمق الإحساس بالمحلية من خلال القصص والحكايات على ألسن الناس المستمدة من واقع الحياة.
رابعاً: التقمص الوجداني أو التعاطف الرمزي Eintuhlung. ومعنى هذا أننا حينما نحكم على أي موضوع حكما سلوكياً نفسياً، فإننا نضع أنفسنا موضعه، لذا ـ أظن ـ أن الكاتب أراد أن يحقق علاقة انسانية عن طريق ابداعه السردي، وكأنه يقوم بعملية (محاكاة باطنية) على حد تعبير جروس، من خلال التقمص السيكلوجي لإنفعالات الآخرين على سبيل التأثر الوجداني، لذا أظن أن الكاتب كان يحيا حالة التعاطف الرمزي عند كتابة النص (تضمّهُ الى صدرِها وتهدْهِدُه) ويستشعر الحالة النفسية لذوات العائلة وخاصة الأبن المغترب والأبن الضحية.
وتبعاً لذلك نستطيع القول أن الطابع النفسي للنص كان بمثابة كيفية باطنة في صميم العمل للكاتب، بل هي فاعلية تضطلع بها (الشخصية داخل النص)، أو كان موقفاً اتخذه الكاتب بإزاء (عقدة مجتمعية).
نصٌ جميل.. شكراً للقاص كامل التميمي ولمزيد من الإبداع.
—