يعد بشار بن برد (96ـ 168هـ) واحد من كبار شعراء العربية ويمتد أصله إلى الجذور الفارسية ، لذا كان من الشعوبيين المعرفين بحقدهم على العرب لما لاقاه أبناء جلدته من سوء معاملة طبعها الاحتقار من العرب ، فكن ككثيرين من الفرس حقدا دفينا لكل عربي، وعرف عنه أنه ولد أعمى في البصرة ويمتد أصله إلى الجذر الفارسي رغم نشأته في بني عقيل ولذلك نجده يفتخر بنسبه الفارسي وانتمائه لخراسان كثيرا في ديوانه يقول:
أنا ابن ملوك الأعجمين تقطعت علي ولي في العامرين عماد
ويقول : من خراسان بيتي في الذرى ولدى المسعاة فرعي قد بسق
ورغم ولادته أعمى فقد أوتي ملكة الشعر وتفتق الذكاء ما جعله من فطاحلة الشعراء وقد أعلن عن ذلك مفاخرا فقال : عميت جنينا والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
كان بشار شاعرا هجاء بذي ء اللسان ،محبا للذات ، مجاهرا بالمعصية ما جر عليه أسباب نقمة المهدي الذي لم ينج من هجائه خاصة وأنه اتهم بالزندقة حسب غالب الروايات ما كان سببا في جلده بالسوط حتى وفاته عام 168 للهجرة .
والعجيب في شعر بشار أنه أتى فيه بعجيب الصور وبديع البيان حتى أقر له بالشاعرية الفذة يقول الجاحظ : ” وليس في الأرض مولد قروي يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه “، إن الجاحظ يعي تماما قيمة شعر بشار وهو الناقد الحصيف العارف بدقائق الشعر الذي عده جنسا من التصوير، لذا فإن النظر في أشعار بشار بن برد في مختلف أبوابها سيؤكد حتما أننا أمام شاعر بصير يمتلك قدرة هائلة على تخييل الأشياء دون حاجة منه إلى حاسة البصر التي تعد مفتاحا أساسيا في إدراك الموجودات ومعرفة تفاصيلها ودقائقها، فتكون معوانا للفكر على صناعة الصورة وتخييلها في ذهن السامع كما تخيلها الشاعرحينما رسم لها الحدود في متنه الشعري ، لكن الشاعر الأعمى غير محتاج لهذه الحاسة التي ترى العالم من حولها لأنه يمتلك عينا داخلية هي عين البصيرة المتقدة التي تستجلي العالم من الداخل برؤية أعمق من المبصر نفسه ، ولعل هذا الاشتغال هو ما خلق شعرية متعالية عند بشار وغيره من الشعراء العميان كأبي العلاء فيلسوف الشعراء لتنطق قصائده وكتاباته النثرية بعمق الإدراك الوجودي عبر تأملات عميقة ودقيقة من الداخل الذي يحركه الفكر المتقد الذي يغني عن حاسة البصر، وقبلهما كان هوميروس صاحب الإلياذة واحدة م أيقونات الإنتاج البشري شاعرا أعمى وكان أبو البقاء العكبري شاعرا فذا رغم عماه وابن جابر الأندلسي والتطيلي الأعمى وأبو علي البصير وغيرهم كثير جادت قرائحهم رغم فقدان البصر، ما يدل على أن التخييل الشعري لا يرتبط بالعينين بقدر ما يرتبط بالذهن الذي يشيد عوالمه المتخيلة وينسج خيوط التصوير لتتشكل صور شعرية بديعة يقف أمامها ذوو البصر حائرين من براعتها ودقتها وجمالها.
إن بشار بن برد في أشعاره ينسج تصاوير كرسام بريشة الكلمات على لوحات القصيدة فيظهر لك المغنية في أبهى صورة وعلى أتم ما يكون الجمال حين يقول :
وذات دل كأن البدر صــــــــــــورتـــــها باتت تغني عميد القلب ســـــــــكرانا
إن العيون التي في طـــرفها حـــــــور قتلتنا ثم لم يحيــــــــــــــــــــــــينا قتلانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقـــــة والأذن تعـــــــــشق قبل العين أحيانا
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة أضرمت في القلب نــــــــــــــــــــيرانا
فاسمعيني صوتا مطربا هــــــــزجا يزيد صبا مــــــــــــــــحبا فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلـــــــــــــــجة أو كنت من قضب الريحــــان ريحانا
حتى إذا وجَدَتْ ريحي فأعجبـــــها ونحن في خـــــــــــــلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنـــــــــــــــت طربا تشدو به ثم لا تخفـــــــــــيه كــــــــــــتمانا
فقلت : أطربتنا يا زين مجلــــــــــــــسنا فهات إنـــــــــك بالإحـــــــــــــــسان أولانا
لو كنت أعلم أن الحب يقتلنـــــــي أعددت قبل أن ألقاك أكــــــــفانا
فغنت الشرب صوتا مؤنقا رمـــلا يذكي السرور ويبكي العين ألوانا
لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت وقد لهوت بها في النوم أحـــــيانا
باتت تناولني فاها فألثــــــــــــمه جنية زوجت في النوم إنــــــسانا
فالناظر إلى هذه الأبيات في غزلية بشاريجد رقة وعذوبة وبساطة في الأسلوب وبعدا عن التكلف والتصنع ، فنجد ه رغم إقراره بعدم معرفة أوصاف المغنية إلا أنه أدرك من جمال صوتها جمال صورتها في تشبيه مقلوب ( كأن البدر صورتها )، مركزا في تصاويره على ما تلتقطه أذنه من جمال صوت يغني أعذب الألحان، منتشيا بلذة صوت لا يمكن أن يكون مطابقا لجمال صورة مشرقة كالشمس ، صوت يحرك الحب والصبوة في نفسه للدرجة التي يرسم فيها صورة تخييلية لذاته البشرية وهي تتحول إلى تفاحة مفلجة أو قضيب ريحان فيخدع المغنية الجميلة حين تستطيب ريحه فيتمثل لها بشريا سويا، إنه تخييل مدهش ترسمه ريشة بشار المجنحة ذهنيا دون حاجة لحاسة البصر، ما يجعل الصورة عنده نابعة من مطلق التخييل الذي مكمنه الذهن ، فيهيئ الصورة للسامع بكل عناصرها كما لو كان الشيء الموصوف مرئيا أمامه بعين العقل إذ إن تصويرا بالبدر والشمس وحسن الصوت وما حركه من لوعة في النفس للدرجة التي تجعله يخبر مغنيته أنه كان ليهيئ أكفانه من قبل أن يصير قتيل حبها ، لتتمثل له في منامه من شدة وجده بها ، فمثل هذه التصاوير الشعرية تغني عن حاسة البصر لأنها استطاعت أن تمنح القصيدة دفئها التخييلي ببراعة منقطعة النظير، دون أن يتملك الشاعر أدنى وصف للمغنية في المجلس ، وليس هذا بغريب على شاعر كان يعلم أن جوارحه وحواسه الأخرى تغنيه في التعبير عن لواعج الحب عن بصره حين نجده يصرح قائلا في حب عبدة:
يزهدني في حب عبدة معشــــــــر قلوبهم فيها مخـــــــــــالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي بما اختار وارتضى فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وما تبصر العينان في موضع الهوى ولا تسمع الأذنــــان إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا وألف بين العشق والعاشق الصبّ
وقد يكون منبع التصوير في شعرية بشار نابعا من المعرفة الدقيقة بخبايا الأشياء وإدراك عميق لمواصفاتها وخصائصها بناء على اطلاع وخبر مسبق بالموضوع ، فيكون التخييل على أتم صورة وأكمل وجه ، كما نجد في قصيدته التي هجا فيها أحد الأعراب هجاء مرا يقول فيه بعد تفاخره بنسبه وشرف قومه ، حيث أظهر شعوبيته كل الإظهار فقال في هجائه :
أحين لبست بعد العري خزا ونادمت الكرام على العــــــقار
ونلت من الشبارق والقلايا وأُعْطيتَ البنفسجَ في الخمــــار
تفاخر يا بن راعــية وراع بني الأحرار حسبك من خسار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح شركت الكلب في ولغ الإطـار
وتغدو للـــــــقنافذ تدريها ولم تعــــــــــقل بدراج الديار
وتتشح الشمال للابسيها وترعى الضأن بالبلد الــقفار
مقامك بيننا دنس علينا فليتك غائب في حــــــر نار
إنها صور شعرية غاية في الاستهجان والذم تصور الأعرابي المتفاخر على الفرس في لوحات شديدة القبح تتسم بمشهديتها الواضحة فصورة الكلب وهو يلغ بلسانه في الماء وصورة صيد القنافذ وصورة الرعي جلية في الأذهان ، لذا لا يحق لهذا الأعرابي التفاخر على أسياده الذين كانوا سببا في تحول حاله من البداوة إلى المدنية فهم من ألبسوه ثيابا من الحرير وعلموه منادمة الكرام وأخرجوه من وضع الرعي إلى بهرجة الحضارة .
إن التصوير عند بشارـ وهو الشاعر الأكمه ـ كان في غنى عن حاسة البصر، فقوة قريحته وملكته الشعرية الخلاقة وطبيعته الاجتماعية التي جعلت منه رجلا محبا للمجالس والأنس غذت فكره وأنعشت ملكته فما كان منها إلا أن تفتق التعبير الشعري وتبدع متونا فاقت في شعريتها شعر المبصرين، لتجعله واحدا من فطاحلة شعراء العربية وتؤكد أن حاسة البصر ليست عمادا ومستندا يتكئ عليه الشاعر في نقل صور العالم من حوله ، لأن منبع الشعر القلب والفكر المتقد والقريحة التي تعتمل في الباطن الإنساني وصدق الإحساس وحب الإبداع والصناعة ، ولعل هذه الشروط كانت متحققة في شخصية بشار بن برد ما أهله لأن يعلو في سلم الشعرية العربية منافسا لكبار شعراء زمانه.