عصام القدسي :
(1) رجـل لا نعرفه :
كانت شمس الشتاء تمد أشعتها داخل المقهى،من خلال واجهتها الزجاجية كلما انصرفت ساعات من النهار،تباريها الظلال الباهتة فيستطيلان معا جنبا إلى جنب. وكان المقهى يبدو هادئا تماما على غير عادتها لقلة زبائنها ،وقد انشغل جانب منهم بحديث واطئ النبرة، بينما انهمكت مجموعة من الشباب بلعب الدومينو ،واكتفى كبار السن بالصمت وتأمل حركة المارة من أمام المقهى.أما أنا فكنت أراقب بمتعة،حركات يد العامل الماهرة وهو يملأ الأقداح من أباريق الشاي المصفوفة على موقد طويل،ليضيف إليها قليلا من الماء الساخن ،ينساب مع البخار من حنفية ” السماور”، القائم إلى جانب الموقد.ورأيناه يظهر بغتة، ولم نكن نعرفه فزبائن المقهى من أبناء المحلة وقليل هم الطارئون عليها. كان يقف فوق رؤوسنا ،يلقي بظله الكبير على مساحة واسعة من الأرض ،يبحث بنظرات حديدية غاضبة عن شيء ،ثم لحظنا بصره يتجمد على الصبي صباغ الأحذية الذي كان يقف شارد الذهن،ثم تحرك باتجاهه.بهت الصبي وهو يراه يقترب منه حتى صار قبالته ، تفرس الرجل بوجهه بقسوة ،وصرخ به صرخة اهتزت لها أرجاء المقهى ودوت صفعة على خد الصبي، فتوقفت أيدي لاعبي الدومينو عن الحركة وتعطل الحديث،وامتدت يد العامل تذلل صوت المذياع ، وتبعثر انتباه العجوز صاحب المقهى عن عد النقود التي أمامه على المنضدة عند المدخل، وانشدت الأنظار نحوه خائفة، كان الشرر ينطلق من حدقتيه. وتحركت شفتاه الشرستان بتمتمات كالطلاسم .تقهقر الصبي إلى الوراء، مرتعبا وتعثر وهو ينوء بحمل صندوقه الخشبي الصغير ولاذ بالفرار.وومضت تلك اللحظة صورة الرجل أمام عيني فرأيت شيطانا يكشر عن أنياب ضبع .ومرت لحظات عصيبة ،ثم تساءل البعض همسا فيما بينهم:
ـ ما الذي يجري.؟!!
ـ وما علاقة الرجل بالصبي.؟!!
ـ وكيف انهزم الصبي بهذه السهولة وهو الذي عرف بعناده..؟
ـ لاشك إن هناك سرا في الأمر.
ـ لا أظن ذلك ..
وعادت الحياة تنبض في المقهى،دون أن يجد أحد تفسيرا لما حصل ،وعاد كل إلى شأنه كما لوحظ دخول زبائن جدد إليها..
واختفى الصبي ولم نعد نراه ثانية وقد ألفناه يقف متأبطا صندوق عدته في ركن من المقهى يطرق على حافته بفرشاة الصبغ للفت الأنظار إليه،أو جالسا وراء الصندوق منشغلا بتلميع حذاء أحدهم بحركات مرحة . ورأينا الرجل فيما بعد يظهر بدلا عن الصبي،بوجهه الجامد كالشمع ،وصندوقه العتيق ، وما أن يحضر حتى يتوقف طويلا متأملا الوجوه ،ثم يتحرك بطيئا مشدود الهامة بين التخوت الخشبية ،ويشير صامتا بيده إلى أحذية الجالسين وهو يحدق بهم بنظرات تبدو مترفعة .ذلك هو صباغ الأحذية الجديد ،رجل طويل القامة،يرتدي معطفا سميكا،عظيم الجثة، وجهه مكتنز تؤطره لحية كثة يشوبها البياض،تستقر فوق رأسه الكبير طاقية متسخة تتسلل أصابعه الغليظة ،أحيانا، إلى تحتها لتدلك فروة شعره الأسود المائل إلى الرمادي. وكم حاولت أن أتقصى حقيقة الرجل،يحدوني هاجس بسر يخبئه..لم أره مرة يدخل من الباب الواسع للمدخل ولا الاتجاه الذي يقدم منه،حتى رحت خلسة ابحث في غور المقهى الذي احتوى النراجيل وقطعها وفحم جمرها،وخزان للماء ،عن باب سري يتسلل منه إلينا فهو يظهر بغتة واقفا يتطلع إلى ما حوله ثم يبدأ بالتحرك في مسالك متعرجة،وأتساءل مع نفسي، ترى أين اختفى ذلك الصبي،الذي كان لا يغيب عن أعيننا لحظة حتى خلناه بعضا من المقهى،كأقداحها وعاملها وجدرانها وأرائكها وصاحبها العجوز الذي لا يفارق مجلسه. هناك من قال إن الصبي وجد مقتولا على ناصية شارع مجاور. ثم جاء من يكذب الخبر ويدعى انه رآه قبل أيام في مقهى قريبة من هنا .. وأرى الرجل يقف بالقرب مني متطلعا إلي بصمت فيقشعر بدني، فهو غامض حقا حتى بت أحسبه مشعوذا يخفي في طيات ثيابه سحرا أسود ،أو قاتلا متخفيا دائب البحث عن شخص ما ،وأكاد أتيقن من شعوري هذا وأنا أرى تهيب عامل المقهى منه وتحاشيه الاحتكاك به ،وهو يمر حاملا صينية الشاي، ومما زاد في ريبتي به انه ما أن ينتهي من تلميع حذاء أحد الزبائن حتى يهب هذا الزبون، ذاهلا مشوش البصر كما لو تناول مخدرا،ويغادر على الفور كفقاعة ، ليختفي قبل أن يجتاز الباب إلى الخارج، مما دفع صاحب المقهى إلى الشك بصدق بصره،والارتياب بادعاء عامله بعدد الزبائن..
حازما، يمر من فوق رؤوسنا ،يتطلع إلينا بنظرات تخترقنا كالسهام.ولم يخطر ببال أحد ،أن يحصل ما حصل. ففي ذات صباح وكعادته كان يقف شارد الفكر يناور زبونا يجلس في أقصى المقهى،حين دنت منه امرأة بائسة الملامح تتلفع بعباءة سوداء استحال لونها الى البني، كانت تستجدي الحاضرين فأمسكت بذراعه بغتة، أجفل الرجل وهو يلتفت إليها واتسعت حدقتاه وارتعش بدنه ثم هوى إلى الأرض.فز الجميع وهبوا لنجدته حتى أحاطوه كالسور. وسُدت منافذ الرؤية أمامي فلم اعد أراه من بينهم ،وحين انجلى الموقف وعاد كل إلى مجلسه ،لم أجده وكما لو ذاب وتبخر بفعل ساحر.وكدت اجزم أننا لن نرى الرجل ثانية ،وهذا ما تفوه به آخرون.ثم اكتشفت فيما بعد ،خطأ ظني.. فما أن حل الصيف وبدأت العطلة الدراسية، حتى رأيناه يظهر بغتة ،كان يقف متكئاً على كتف الصبي وسط المقهى ويحدثه برفق، والصبي يبتسم .كان الرجل شاحب الوجه،وقد أصابه بعض الهزال،إلا انه كان يبدو كعادته قويا صلبا كتمثال حجري.
حين رآه بعض زبائن المقهى المدمنين على الجلوس استُنفرت حواسهم ودارت رؤوسهم وجرى بينهم هذا الحوار:
ـ هاهو الرجل المارد يعود..
ـ والصبي معه ..
ـ إذن لم يكن في الأمر ما يحتمل الجدل..
أما الرجل فقد كان في هذه اللحظة يتطلع،بنظرات قاسية لا تخلو من مغزى إلى مدخل المقهى،في الوقت الذي راح زبائنها الذين اختفوا، يتوافدون إليها الواحد تلو الآخر ..من جديد..
—–
(2) نخل السماوة :
جلست على فراشي ، وضعت وعاء الشاي على الموقد أمامي . ثم تمددت على السرير،أراقبه . وحالما اخذ يغلي سكبت لي قدحا ومضيت أرتشف منه رشفات متقطعة على إيقاع الأفكار التي كنت اقلبها وأنا أحاول أن أروضها فتحملني وتدور بي في دائرة الحسرة والألم ، أتأمل ما ضاع من عمري ..تذكرت كيف هجرت المدينة وأنا شاب وكيف سرقتني الأعوام ولم أفق إلا وأنا على مشارف الخمسين.. وأخذت أتأمل بأعوام قضيت جانبا كبيرا منها في خدمة أرض الأغراب وحيدا لا أسرة ولا جاه حتى غادرتها الى ارض جديدة ومالك جديد لأسكن في العراء بيتا طينيا من غرفة واحدة. وشعرت بالنوم يداعب أجفاني أغمضت عيني وكدت أنام وإذا بي اسمع نباح كلب حاد تبتعه صرخة قوية تأتي من وراء السياج ، وضعت القدح جانبا وأخذت المصباح اليدوي من تحت وسادتي وعصاي الغليظة وخرجت مرتبكا أبحث في الظلمة.. فتشت أولا، فناء البيت وطلعت الى الدرب وبحثت بين بقايا الآلات القديمة الصدئة للمضخات المهملة القريبة ،فلم أعثر على شيء ..نزلت الى الحقل الذي يقع خلفها، دسست جسدي بين الأشجار.. سرت بين السواقي فلم أر شيئا.. وعاد الكلب للنباح فتكررت الصرخة اقتربت من مصدرها شيئا فشيئا فرأيت شبحا نحيفا يقف وسط الزرع ثم لم يلبث أن اختفى في الظلمة هتفت :
ـ من هناك ..؟
ولبثت ساكنا في مكاني لحظات ، فلم اسمع ردا. استدرت لأعود من حيث أتيت ظنا مني أنني أتخيل ما رأيت وإذا بصوت يناديني بنبرة مرتجفة:
ـ عمي صالح …
اقتربت ودققت النظر ، كانت ثمة فتاة تقف خائفة خلف شجرة ، وهي تحمل صرة من قماش .
قلت :
ـ من أنت.؟؟
ظهرت أمامي وهمست:
ـ أنا كافي…
اقتربت أكثر وأجهدت البصر:
ـ ما الذي جاء بك..؟!! وكيف قطعت الطريق في هذا الليل المجنون .. ؟!!
قالت متوسلة :
ـ أرجوك لا ترفع صوتك ..
ـ ماذا حصل في القرية من مصيبة.؟.
قالت :
ـ لاشيء .
ـ ماذا إذن .؟!!
قالت بحزن :
ـ خذني الى بيتك .
دخلنا البيت . وفي الغرفة أشرت إليها فجلست الى جانب الموقد والريح تصفر موحشة في الخارج فتثير مشاعر الكآبة والحزن بيننا. كانت ترتجف من البرد، وهي تقعد صامتة وقد انحنى جسدها النحيف حتى كادت تلامس هامتها ركبتيها. وضعت أمامها الطعام فامتنعت عن الأكل وكان وعاء الشاي لم يزل ساخنا فسكبت لها قدحا ، شربت قليلا وكدت اسألها عن حكايتها لكننا ظللنا صامتين يسترق بعضنا النظر للآخر على ضوء المصباح الذابل المتجهم عل احدنا يتكلم ، حتى آذن الفجر بالبزوغ فألقيت عليها بعض التوصيات وغادرت الغرفة الى البستان الذي أرعاه وأنا أحاول أن أخمن ماتخبئه الفتاة نزلت البستان وتجولت فيه ولم أنجز”كما افعل كل يوم ” إلا النزر اليسير وبعد الظهر رجعت الى البيت فرأيتها قد بثت الحياة فيه ، فقد جلت الصحون التي أضعها أمام حوض الماء في الفناء حتى عودتي وغسلت ملابسي المتسخة التي احتفظ بها تحت سريري وكنست الفناء وأزالت عنه بعض الدغل الذي نما في أرضه ونظفت الغرفة ورتبتها بشكل يبهج النفس واغتسلت وصففت شعرها الأسود الفاحم كالليل ولبست ثوبا زاهيا أخرجته من صرت ملابسها واعدت طعام الغداء وجلست بانتظاري .حين دخلت استقبلتني بوجه طلق والابتسامة المشوبة بالأسى تسبقها إلي .جاءتني بإبريق الماء و” ألطشت” وراحت تسكب لي وبعدما انتهيت ناولتني المنشفة وذهبت وعادت بصينية الطعام .وجلسنا نأكل.. أدنت لقمة من فمها الصغير وجمدت يدها ورأيت دموعها تنهمر على خديها قلت بهدوء :
ـ أما آن لك أن تتكلمي .!!
وغصت بعبرة وتلجلجت الحروف على شفتيها الغضتين وهي تشير الى بطنها :
ـ انه مزهر .
قلت مستغربا:
ـ ابن الحاج سلمان .؟!!
هزت رأسها ايجابا :
ـ قال لي اذهبي الى العم صالح وسأوافيك قريبا .
تكتمت على وجودها معي ومر الشتاء وجاء الربيع وأنا أراقبها وهي تكبر فتغادر سن السادسة عشرة فتصبح أطول وتستدير أردافها ويبرزا نهداها حتى يملآ صدرها وترتفع بطنها لتصبح امرأة تشع جمالا وان كان جمالا موشحا بالحزن وولدت ” كافي ” بنتا أسميناها “زهرة” ملأت علينا البيت سعادة ورحنا نرعاها معا ، كنت سعيدا معهما وقد أصبحتا كل دنياي ،وحل الخريف وجاء شتاء آخر وتسألني بين حين وآخر :
ـ لم يأت مزهر..!!.ماالذي أخره..!!
وابتسم وأطمئنها بأنه يوما ما سيجيء ليرعى بستان الفاكهة بعدما نضجت ثماره …
وكرت الأعوام عام إثر آخر والطريق الى بيتنا موحش لم تطأه رجلا غريب .حتى كان ذلك النهار حين أحسست بوعكة وأنا في البستان فقررت الرجوع وما أن دخلت الغرفة حتى رايتها تقف في ” الطشت” تستحم.. ومن يومها والنوم لا يزورني إلا لماما.. حتى كانت ليلة عاصفة أطفأت المصباح برياحها وكتمت أنفاسه.. لأنهض بين الصحوة والنوم.. ولم البث أن أشاركها الفراش ظلت تلك الساعة خانعة كشاة تذبح وأنا اسمع أنينها .
في الصباح بادرتني وهي مطرقة :
ـ فلنتزوج .
لم اصدق سمعي ووافقتها دون تردد ..وكبرت سعادتي وأنا أراها تزداد أنوثة وطفلتها بين أحضانها تلاغيها وتلاعبها وتغسلها وتلبسها أجمل الثياب وتمشط شعرها بعدما جاوز عمرها الأربعة أعوام.. كنت لفرط سعادتي كثيرا ما استيقظ في ساعة متأخرة من الليل وقد تيقظت في داخلي وساوس وأوهام شتى وراحت تنمو كالدغل وترتفع حتى تصبح كأشباح ترعبني يضطرب لها قلبي وتتقطع معها أنفاسي حتى أود أن اصرخ. وفي الصباح أهون على نفسي وأنا أراها تحوم حولي تعد لنا الإفطار وتجلس طفلتها تحت إبطها وتطعمها وهي تداعبها وتبتسم. كنت أخشى على سعادتي معها وأنا مستغرق في دنيا الأحلام حتى كان ذلك المساء حين سمعت طرقا على الباب فتحت فرأيته يقف بقامته المديدة وجسده الصلب كفرع السنديان أحسست بالدوار وكدت اهوي الى الأرض وأنا اهتف : ـ مزهر.؟!!
—