حسين السنيد :
عاجل …. عاجل …. عاجل …. عاجل ….
” كنيسة غريغوري الارمنية في بغداد, تتعرض لانفجار ناتج عن سيارة مفخخة ادى لحدوث اضرار كبيرة في الكنيسة و مقتل القس سامح انطوان بالاضافة الى سقوط عدد من الجرحى جراء الانفجار” .
الفضائيات الاخبارية اعلنت الخبر اعلاه في يوم من ايام عام 2004.
***
ظلام …
ظلام ..مرة اخرى
ظلام حالك .. لايام , لاسابيع , لاشهر و سنين . هكذا كانت ايامي مكورة بالعتمة قبل ان انقش الوجوه على الجدار . ولدت وعيوني مطفئات السراج بعد ان اصيبت امي بالحصبة اثناء فترة الحمل. و لكن لم اولد بدون بصر , فكنت ابصر من خلال اناملي ,كل اصبع يحتضن عينا , المس الشيئ الذي اريد ان اراه , تحس اناملي كل تفاصيلها بل تتمدد في جوفها ,فتنسل العيون من اطراف الانامل وترى . بعض الاشياء يابسة صفراءمثل وجه امي المتجعد , اخرى تبدو متربة رمادية , مثل جرس بيتنا القديم والذي لم اسمع صوته منذ سنين . و اشياء اخر لزجة حمراء ,مثل وجوه الناس المتعرقة في السوق المجاور او مثل فم ام هيفاء بائعة الهوى. واشياء تبدو لي مشرقة ,مثل وجه القس سامح انطوان ,استطيع من خلال الستار المسدول على عيني ان اراه ابيضا ناصعا .
***
اذا كنت مررت بمنطقة الباب الشرقي في قلب بغداد (( او كما يطلقون عليها العراقيون باللهجة العامية باب الشرجي)) ثم انعطفت باتجاه كنيسه غريغوري الارمنية ,تلك الكنيسة التي تأسر بجمالها كل من مر من امامها و تفرض جوا من الطمأنينة في المنطقة . خلف هذه الكنيسة بالضبط ,مبنى من خمسة طوابق ,اكتست واجهتها بالحجر الاسود والرمادي ,تقف امامه بغرور شجرة سدركبيرة. نحن نتكلم عن هذا المبنى قبل 19 عاما. ربما اقل او اكثر بقليل. كان المبنى يومها مكتظا بالسكان .حتى ان في الليالي الصيفية و حين كان القمر يسقط شعاعه الفضية على السطوح ,كان يبدو سقف المبنى مفروشا بالبشر.
في الطابق الثاني من هذا المبنى (( اصبح اليوم عيادة طبية لفحص البصر ومعملا صغيرا للعدسات الطبية)) كان يعيش “فاضل ” رجلا ثلاثينيا مع امه العجوز التي كانت تقضي معظم وقتها منكبة على سجادة الصلاة. كان فاضل اعمى .
فتح فاضل النافذة و تنشق الهواء العذب , ترنحت امامه كنيسة غريغور بقببها المخروطية الشكل المبتسمة للسماء واعمدتها الممتدة جذورا والتي تبدو للناظر انها تمتد عميقا في الارض. ادار وجهه يمينا حيث كان يسمع وشوشة الناس في السوق المجاور . ثم اشاح برأسه يسارا , و احس بان جدارا من الاسمنت خشن الملمس يفصل بينه وبين العالم.
امي ..سد الشباك ,اخاف تستبرد.
لم يلتفت فاضل الى نداء امه , بقى واقفا يلتفت يمينا ويسارا و يلتقط الاصوات ,ثم يمررها الى قلبه ويحاول ان يراها عبر العين القلبية. حين يسمع صوت صخب الناس في السوق المجاور كان يرى عبر عين قلبه تجمعا اسودا مع نقاط بيضاء , و حين يسمع صوت ناقوس كنيسة غريغوري الارمنية ,يرى عبر عين قلبه شيئا مهيبا تحلق فوقه ثلاث غيوم ناصعة البياض . اما الناس الذين كانو يفدون يوم الاحد بكثرة للكنيسة لغرض اداء الصلاة ,فكان يراهم اجساما مسطحة بلاابعاد , مثل خطوط منقوشة على ورقة .
وهكذا اعانت العين الثالثة التي انفتحت في صدره , ان يرى الاشياء كما هو يريد.و ذات صبيحة ربيعية ,فيماكان جالسا تحت شجرة السدر الكبيرة ويمرر انامله على غصنها ليقراء الحروف والاسماء التذكارية التي نقشت بسكاكين على جسد الشجرة العتيقة, سمع زقزقة عصافير . فمرر الصوت عبر العين القلبية فبصرهن نقاط بيضاء وحمراء وسوداء تتوهج في السماء و تتقافز.
رفع فاضل مرآة امه القديمة والتي تبقت من ايام عرسها , مرآة مدورة صغيرة باطار بلاستيكي ازرق. حاول ان يرى نفسه ,ضاع في الظلام . لمس براحتيه تفاصيل وجهه . الجبهة و الانف و العيون المطفاة والفم و الوجنات . مررها الى العين القلبية محاولا ان يرى نفسه . مايزال يغوص في الظلام. حاول المحاولة الاخيرة و غنى بصوت عالي .. رفع صوته . لم يستطع ان يرى نفسه حتى من خلال الصوت.
اكيد صوج المراية القديمة ..
خرج مسرعا متعثرا بطوفان اجتاح رأسه و نزل من السلالم التي حفظ عددها , انعطف باتجاه السوق بخطوات سريعة مرتبكة. ارتفعت اصوات التحيات لفاضل من بعض الدكاكين, فهو كان ياتي للسوق منذ كان صغيرا و عرفوا ذلك الطفل المتعثر في دروبها الضيقة والذي يرفض مساعدة اي احد للوصول الى بيته.
حي الله فضولي .. وين اشوماكو؟؟
قالها صاحب القهوة و هو يجلس خلف منضدته الصغيرة . بكرشه المتدلي وكامل زيه البغدادي , الدشداشة والسترة واليشماغ .
وصل فاضل امام دكان لبيع وقص الزجاج والمرايا . وقف للحظات ثم دخل.
ياهلاااابفاضل ..وينك مشتاقيلك.
رحب بفاضل ,الرجل الطويل القوي البنية الذي كان يمسك بيده آلة قص الزجاج.
لم يجب فاضل على الرجل ,وقف امام مرآة الطويلة بعد ان تاكد من وجودها و حجمها بيديه . وقف بقامة منتصبة امام المرآة الكبيرة . فتح العين القلبية فماوجد الا الظلام بابعاد لامتناهية ,تشعره بالغرق.
خرج وسط ذهول صاحب الدكان الذي لم يرى فاضل هكذا ابدا قبل ذلك . اتجه فاضل من فوره لاستديو للتصوير .
-سلام عليكم
– عليكم السلام فاضل الوردة , امك شلونهة؟ تعال اكعد
– لا مااكعد .. عمو اريد تصورني
تعجب قليلا صاحب الاستوديو والذي تربعت على عيونه مناظر كبيرة باطار اسود ثخين.
شنو لازم عندك معاملة؟؟صورة مال جواز؟
مسك يد فاضل و اجلسه على كرسي التصوير ,هيئ كامرته و نادى :
اضحك فاضل , الصورة تطلع حلوة شبيك معبس؟؟
ابتسم فاضل على الرغم من انه لم يعرف ابدا معنى الابتسامة الحقيقي , فقط حرك ملامح وجهه من حال الى حال آخر.
ومضت الكاميرا ومضة قوية لم يراها فاضل , و لكن العين القلبية اشرت وهج ابيض ساطع.
انتظرني عمو فاضل , هسة انطيك الصور .
قالها المصور وضاع فورا في مختبره الصغير الذي تنبعث منه رائحة المحاليل الكيمياوية .
بعد ساعة تقريبا خرج فاضل من المختبر التصوير , اتجه بعجالة ,ناهبا الطريق نحو البيت,راح يصطدم بالناس و بعدها رفض ان يوصله احد الشباب الحمالين الى البيت,صعد السلالم و تعثر في السلم الاخير ,اذ كان اخطاء في حسابهن ,سقط و تبعثرت الصور من يده . لمس بكفه الارض بهدوء . اتسع في دائرة البحث الى ان لمس ظرف الصور , اخرج واحدة و لمسها باصبعه الخنصر , كانت ناعمة الملمس, فتح العين القلبية ..لم يرى نفسه .فقط بقايا الومضة البيضاء كانت موجودة.
دخل البيت بشفاه مرتجفة, اتجه نحو امه التي كانت تتمدد على الارض , جثى عندها لاهثا .
يومة .. اني شلون شكلي؟؟
اجابت الام مصحوبة بزفرة خفيفة
حلو يومة
لا لا .. مااكول حلو لو مو حلو .. شلون وجهي
مثل كل الناس ماما . شجابك على هاي ؟
التقط انفاسه و قال :
اريد اعرف ,بس جاوبيني يوم ,اشبه الخوش اوادم لو مو خوش اوادم؟
زمت الام شفتيها و ترددت للحظات قبل ان تقول:
ماما تخبل , تشبه ابوك وتشبهني .
قام فاضل و دخل غرفته , استلقى على ظهره . كانت المروحة السقفية القديمة تفتر ببطئ و تدفع الهواء . لمس وجهه و مرر انامله على تفاصيل وجهه بعناية.مسك قطعة الفحم التي كان جلبها معه من رحلته الى السوق . رسم بقطعة الفحم شكلا دائريا متعرجا على الجهة اليسرى من الحائط , و رسم الشكل ذاته على الجهة اليمنى . دائرتين متعرجتين ,نقشتا على الجدران. فارغتين من كل شيئ.
في وقت متاخر من الليل ,قام فاضل و خرج على اطراف اصابعه من البيت متجنبا اصدار اي صوت , اتجه نحو بناية مجاورة ,في الطابق الخامس هناك شقة , تسكنها امرأة يدعونها الكل ” ام هيفاء” , ام هيفاء التي لطالما الحت والدة فاضل ان يتجنب حتى عن ذكر اسمها ,فضلا عن التكلم معها . كان يسمع الكثير عن ام هيفاء انها تمتهن مهنة وضيعة ,تلتصق بالرجال و كان يعرف ومن خلال الكلام الذي يسمعه في السوق انها تسهر الليل . اما ماهو عملها بالضبط و لماذا كانت مثلا للوضاعة على السن الرجال ,فماكان يعلم . وحين سأل عنها قالو عنها ” قحبة” فلم يعرف مامعنى قحبة ولم يعرف الزنا, ولكنه عرف انه عمل مذموم وان ام هيفاء امراة سيئة بكل المقاييس. بل هي شيطان على هيئة بشر.
انتظر فاضل بالقرب من شقة ام هيفاء , سمع جيدا الصوت الرجالي الرخامي و الذي كان يمتزج مع ليونة صوت ام هيفاء . انتظر لوقت طويل ومرر عبر العين القلبية صوت الرجل الذي لم يكن عليه غريب ابدا بل سمعه مرارا . و حين سمع صوت انفراج الباب ,وقف متربصا , . خرج الرجل من الشقة واتجهة نحو الباب . احس فاضل بانه ينظر اليه باستغراب فتجنبه و تصنع انه يصعد السلم مبتعدا عن شقة ام هيفاء . و حين تاكد من ابتعاد الرجل لزم قبضة باب الشقة و دفعها بقوة . دخل الى الشقة مقتحما المكان . سمع صوت صرختها تخترق اذنية بحدة موس.
هاي شنو ..حرااااامي , هسة الم عليك الناس
انجبي
ثم هجم عليها او بالاحرى باتجاه صوتها , دفعا دفعة قوية وسمع صوت ام هيفاء تسقط على الارض وهي تصرخ
وضع رجله على ظهرها بقوة
-ماعندي شي وياج لاتخافين ,بس اسكتي
– شعندك هنا اعمى , والله اروح لامك
لم يجبها فاضل , مسك وجهها ومرر اصابعه على فمها اللزج و انفها وعيونها .
حفظ الخطوط التي حصل عليها من خلال مشاهدة العين القلبية . ثم ركل ام هيفاء و خرج .
سمع ام هيفاء تشتمه فيماكان يهم بالخروج من الشقة.
اني اعلمك حيوان .
خرج فاضل وكان ابصر بالعين القلبية ذلك الرجل الخارج من الشقة , هو ذاته من يسمي ام هيفاء بالقحبة .
***
وصل فاضل مسرعا الى غرفته , في الظلام مسك الفحمة , واتجه نحو الدائرة الفارغة و نقش في الدائرة اليسرى ,بعض الخطوط.. كان يتنفس بصعوبة , تمدد على السرير ثم نام .
في الغبش , فز فاضل على صوت صلاة امه ,
الله اكبر..
قام من مكانه و تلمس الدائرة اليمنى التي كانت ماتزال فارغة من النقوش. بعدها بلحظات كان فاضل يجلس امام امه , رأى سجودها وركوعها من خلال العين القلبية . سمع دعاء قنوتها . و حين جلست للتشهد مد كفه على وجه امه . تلمس عيونها و حواجبها . شفاهها التي كانت تصلي , و جبهتها وو شعرها المتجعد . واحس بكل خط نقشه العمر بقلم ومطرقة فولاذية على وجه امه .
اضاف فاضل للدائرة اليمنى بعض النقوش .. اسقط الفحمة من يده و رجع للنوم.
كانت الدائرتان اليمنى واليسرى تحتويان على بعض النقوش عند الفجر.
***
وقف فاضل على باب كنيسة غريغوري , عبر الباب المقوسة الكبيرة و المزينة بالوان الطيف الشمسي , وجد اول مسطبة و جلس عليها صامتا.
تنشق رائحة البخور والعود واحتراق الشموع .. واللائي احبهن منذ طفولته ,ادار وجهه يمينا ويسارا , يستطيع ان يحس بوجود تماثيل السيد المسيح مصلوبا و العذراء والطفل . فتح العين القلبية ليجد نفسه وسط مكان مضيئ وابصر فجوات في السقف ,تدخل هالة من النور للمكان. حس بدفئ كف على كتفه الايسر .
اهلا وسهلا ابني فاضل , من زمان ما شفناك؟
قام فاضل و استدار نحو القس سامح انطوان ..
مرحبا
كان الاب سامح انطوان قس كنيسة غريغوري و الذي عرف فاضل منذ كان فاضل طفلا تصحبه امه للكنيسة من اجل الشفاء.
ممكن المس وجهك بابا؟؟
قالها هكذا من دون مقدمات و من دون ان يفهم القس عن قصده و مايدور في رأسه.
قابل القس سامح انطوان طلب فاضل المفاجئ والغريب بالسكوت . بعد ثوان ثقيلة على فاضل ,مسك ايدي فاضل بيديه و لصقها بوجهه.
عبرت انامله من جبهة القس الناعمة على حواجبه الثخينة الناعمة كبيدر للقمح ,ثم استطاع ان يلمس عيونه التي احس انهن نافذتا من الضياء , ثم الانف والفم .ولمس بالنهاية لحية القس والتي عرف على الفور لونها الابيض تماما , ابيض كالثلج, .
ترعاك العذراء يا ابني .. ادعولك بالموفقية دائما .
بعد دقائق كان فاضل يمسك قطعة الفحم و يجلس امام الرسمة في الجهة اليمنى , اضاف بعض الخطوط والنقوش , وعدل بعض الانحنائات . شعر بنفحة باردة ورائحة زكية بدأت تنبعث من الرسمة اليمنى .
***
كان قد سمع الكلام الجارح كثيرا منه , يدعونه ” حجي نوفل” ,صاحب محل دلالية العقارات السليط اللسان والطماع , الكثير من الاهالي يعتبرونه سارق من الطراز الاول , اغتصب حق ناس كثيرين و خدعهم.لن ينسى فاضل صوت نحيب جارتهم والتي صارت احدى ضحيات مكر حجي نوفل . و لن ينسى ايضا حصته اليومية من حجي نوفل ,السخرية التي لاتنتهي . فما ان يمر من امام مكتب الدلالية حتى يسمع ..
هاااااا فضيل الاعمى , وين ؟؟
حتى اضطر فاضل ان يسلك الطريق الابعد حتى يتجنب حجي نوفل و ينسى سهامه الموجعة و قهقهاته الكابوسية التي كانت تنطلق منه وهو جالس خلف طاولته العتيقة الممتلئة بالاخاديد.
كان الان فاضل في طريقه الى ” حجي نوفل ” ولن تهمه الكلمات الساخرة و الضحكات الجنونية . بعد دقائق وقف فاضل امام حجي نوفل
ها ولك يالاعمى ؟؟ شتريد؟
اجاب فاضل بحركة سريعة ,انقض على حجي نوفل مثل نمر غاضب و مسك رأسه بقوة بين كفيه. راح حجي نوفل يحاول ان يحرر رأسه ,مثل شاة في صبيحة يوم عيد الاضحى.
ولك مخبل ..كسرت ركبتي . اختنكت.
اجاب فاضل
ماعدي شي وياك .. بس اسكت.
مسك فاضل براحة يده وجه حجي نوفل بقوة , حتى راح صوته يعلو و الناس المارة من امام المكتب ينتبهون للصراع المستعر في المكتب , فتعالت اصوات همهمات عرف من خلالها فاضل انه يجب ان يبتعد. عموما كان قد عرف الكثير عن وجه حجي نوفل بل رآه من خلال العين القلبية. افلت حجي نوفل من بين يديه التي كانت تطبق مثل كماشة , و خرج ..
كلب ابن كلب ,شوف شسوي بيك
تهديدات اطلقها حجي نوفل لم يلتفت لها فاضل ابدا ولم يسمعها اصلا.
***
عند الغروب .. كان فاضل اتم نقوش الوجه الايسر .. عدل بعض الخطوط واضاف الخط الاخير , تقرب نحو الرسم , جر نفسا و شم الرسم . شعر برائحة نتنة تنبعث من الرسم مصحوبة بحرارة ,تشبه حرارة تنور منطفئ للتو.
نام بين الوجوه المنقوشة على يمينه ويساره , الوجه الايمن الذي سرق ملامحه من اناس احبهم,امه والقس انطوان سامح و الوجه الايسر سرق ملامحه من الذين كرههم, من القحبة ام هيفاء و السارق حجي نوفل. و كان وجهه في المنتصف تماما , بين الايمن والايسر.
راحت حرارة الوجه الايسر تصل اليه و تلفح وجهه مصحوبة برائحة نتنة, اما الوجه الايمن فكانت كنافذة مفتوحة وقت السحر , تنبعث منها كل ماهو جميل . كان فاضل يجلس في المنتصف و حاول ان يفتح العين القلبية ليرى وجهه بين الوجوه الاثنين . ولكن لم يستطع ان يرى شيئا من خلالهما .
دخلت الام مرعوبة على فاضل , وجدته جالسا بين الرسوم , ابصرت الرسمة اليمنى ثم رمقت الرسمة اليسرى التي بدت تميل الى الاحمرار , انتقلت بنظرها لابنها الذي كان يجلس في المنتصف , صرخت صرخة تكسرت في حنجرتها , ارادت ان تتكلم ولكن لسانها وشفاهها كن فقدن القوة على الحركة . اطبقت الباب بقوة هزت الغرفة . بعد لحظات سمع الام تخرج من البيت مهرولة بضجيج غير واضح.
***
مر الوقت .. لا اعرف كم من الوقت . ساعة او اكثر , ربما ليلة او يوما او شهرا او عام .. حتى فاضل لم يعرف كم بقي جالسا بين الوجوه الاثنين . ولكن لم يدخل احدا البيت ولم يكسر خلوة فاضل العجيبة والتي عملت كمجال مغناطيسي بين الوجهين . شعر فاضل بميل عجيب للنوم في ذلك الصمت المطبق .. استلقى على ظهره و احس بهواء المروحة السقفية تضرب وجهه و احس للمرة الاولى ان شيئا ما يدخل في محاجره الفارغة . شيئا باردا كقطع صغيرة من الثلج .
نفحة باردة كان مصدرها الوجه الايمن دلفت عينه اليمنى فلمح غبارا متأرجحا بين الابيض والسمائي.
شهق فاضل بقوة ..
شعر بحرارة تدخل عينه اليسرى منبعثة من الوجه الايسر , فلمح غبارا و دخانا احمر واسود.
اختلط الغبار الابيض والسمائي مع الاسود والاحمر . وكان ينظر فاضل لهذه الخلطة العجيبة من خلال العين القلبية.
فتح عيونه فوجد شيئا يفتر امامه بشكل دائري و ينفخ الهواء في وجهه المستعر والمتجمد في نفس الوقت.
مد يده و رفع مرآة امه القديمة امام وجهه مذعورا.. فتح العيون الاثنين .جالت عيناه على تقاسيم وجهه الضبابية .
التفت يمينا فرأى وجهه منقوشا على الجدار , التفت يسارا فيما كان يستطيع ان يسمع دقات قلبه , رأى وجهه ايضا في الرسمة اليمنى .
كانت الوجوه الاثنين متطابقتين مع وجهه تماما, في كل التفاصيل و الخطوط .
اكتظت عيناه بالوجوه ,اغلق عيونه .
***
نشرت الجرائدخبرا بالخط العريض في اليوم التالي وقع على الناس كالصاعقة :
” اعمى يسكن قرب كنيسة غريغوري الارمنية يستطيع ان يبصر للحظات”.
—