عثمان وعراب :
في لحظة حنين وشوق بالغين، دخل إلى غرفة نوم أبيه وفتح حقيبته الشخصية فجالت يداه بين مختلف الأغراض التي تحتويها. أمسك بيده اليسرى ألبوم الصور ويده اليمنى مشغولة بتصفح باقي الأغراض؛ وكل غرض منها يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات والذكريات، أو هكذا يظن على الأقل. كل واحد منها يرجع به إلى زمن ومكان معلومين مصحوبا بحدث أو أحداث لا تفارق ذاكرته. فكر أن كل واحد منها يستحق اسما ونسبا وتاريخ ومكان الولادة وجمعها كلها في كناش للحالة المدنية وترتيبها من الأكبر إلى الأصغر، مع ذكر جنسها، ذكرا أم أنثى. لم تعد فقط أشياء تباع وتشترى بدراهم معدودات وبدون هوية، وكأن أحدها لا يمت للآخر بصلة. إن ما يربطها ببعضها البعض علاقة أخوية، قرابة، وهي جزء لا يتجزأ من كيانه العائلي. فكر أن كل واحد من تلك الأشياء يستحق مذكرة خاصة به توثق لحياته، كما نتخذ نحن الآدميون مفكرات ومذكرات نخط فيها خواطرنا وأعمالنا اليومية الروتينية والطارئة. فكر أن في ذلك استمرارية لحياتها ولخلودها، أو بالأحرى سيدب فيها روح الحياة وينعش قلبها وينفض عنها الغبار، غبار الزمن البعيد، أو ربما قد يضخ فيها دماء جديدة تمهيدا لحياة جديدة تنضح بالشبابية وبالأمل. وقد يكون ذلك تأريخا لماضيها، ورصيدا معرفيا غنيا بتجارب الأمس، حلوها ومرها. من يدري؟ قد تكون الدافع الأساس للمضي بخطى ثابتة واثقة نحو مستقبل مشرق يلوح في الأفق. وقد يكون ذلك ما يجعلها تحيا حياة جديدة ملؤها العز والفخر.
وضع آخر الأغراض من يده اليمنى ومررها على وجهه بشكل شبه دائري حتى أسفل ذقنه، واعتلى حاجباه جبهته، وصاحب حركتهما نفس عميق أخرجه من ردهات مخيلته. اعتدل في جلسته وأخذ ألبوم الصور ذاك يتصفحه باهتمام شديد ويقلب الصفحات بروية كما لو كان يراقب أمواج البحر آتية من بعيد إلى أن تبسط أجنحتها على الشاطئ بكل سلاسة وتعود مرة أخرى وهكذا دواليك. ومع كل صفحة يقف شارد الذهن والأحداث تتسارع في ذهنه كما لو أنها وقعت البارحة. لقد كانت الصفحات مرتبة بعناية حسب تسلسل الأحداث الزمني، وكل صورة، كما يقال، تساوي ألف كلمة. وهكذا مع كل صفحة تقلب يتقلص حضوره في الزمن الحاضر ويزداد انغماسه في الماضي. كل صفحة تضمه إليها فأصبح يسبح في بحرها مبتعدا عن شاطئ الحاضر رويدا رويدا كما يستولي البحر على جزء وافر من الرمال شيئا فشيئا مع كل موجة.
وهكذا ابتعد عن بر الأمان وتوقف إدراكه لما حوله، حتى إدراكه لنفسه، فاستسلم لرغبة الصفحات وغرق في بحرها. وفجأة توقف عن التصفح وعيناه لا تتوقفان عن التحذيق في مكان واحد، أو ربما في غير مكان، تشعان ببريق لامع ولا تصدر منه أدنى حركة. هاهي السفينة قد أوصلته إلى الصفحة الأخيرة. ولكنه بقي مسمرا في مكانه مستمرا في التحذيق بدل أن يطوي الصفحة ويضع الألبوم جانبا ويكمل المسير. سارت به مخيلته في دروب الماضي المظلمة، غير أنه هذه المرة حمل معه مصباحا يستنير به في سلك الدرب الصحيح حتى لا يتيه في غياهب النسيان. مضى في جولته غير واثق من أحاسيسه ومشاعره؛ مضى بالرغم من أنه لا يعرف لماذا يمضي؛ مضى غير آبه بما قد يحدث.
عاش طفولة الرجال، أو هكذا اعتقد؛ كان يعتقد منذ طفولته أنه رجل وليس طفلا، وكان يظن أنه مختلف عن باقي أطفال بلدته. لا يستهويه اللعب كما بقية الأطفال؛ يقضي معظم وقته الخالي فوق سفح جبل يطل على الوادي الذي لا ينام. فخرير المياه الدائمة الجريان يسمع صوته من أعلى الجبال التي تحيط بالوادي مختلطا بصوت الريح التي تنفث نفسها بين الأشجار الباسقة المتمايلة يمنة ويسرة وكأنها أصابع فنان ماهر تلعب بالبيانو. يتخذ لنفسه مكانا بين صخرتين كبيرتين في قمة الجبل حيث تصعب رؤيته، يستمتع بأصوات المياه والريح والطيور في تناغم كامل. يجلس القرفصاء ويضع رأسه بين ركبتيه ويداه متلتفتان حول ساقيه، تارة، أو يرمي حجيرات فوق الصخور فيستمتع بأنين ارتطامها حتى تصل أسفل الوادي، أو يغرق في تأملاته والشمس موشكة على الغروب، تارة أخرى. كانت الصخور، رغم ما يقال عن صلابتها وقساوتها، صديقه وأنيسه، ولطالما اعتبرها ملاذه الآمن بعيدا عن لهو الصغار وثرثرة الكبار. وحين تودعه الشمس يعود أدراجه متجها إلى المسجد قبل أذان المغرب. يصلي صلاة المغرب مع الجماعة ويقرأ معهم القرآن جماعة كما دأب على ذلك ويبقى مرابطا في المسجد حتى يفرغ من صلاة العشاء ثم يعود إلى المنزل. وفي اليوم الموالي أول ما يبدأ به يومه هو المسجد في الصباح الباكر حيث يحفظ القرآن إلى أن يحين وقت الذهاب إلى المدرسة؛ وهكذا كان يقضي جل وقته بين المنزل والمسجد والمدرسة. كان فطنا، متقد الذكاء، سريع البداهة، ناضجا في أفعاله وأقواله، وتلميذا نجيبا ذو ذاكرة قل نظيرها؛ كان قليل الكلام، إلا فيما كان ضروريا. فالفقيه والمعلم وحتى رجال بلدته يعاملونه كأنه رجل مثلهم، قل إنه بنجامين باتون بلدته. كان قادرا على إدراك واستيعاب ما كان يعتقد الكبار أن الصغار يعجزون عن فهمه. حير الجميع ممن عرفوه عن قرب ووضعوه موضع إعجاب واستغراب، وعاش هو الآخر في حيرة من أمره. لكن كل إعجابه وتقديره حازه والده؛ والده الذي كان يرى فيه طفلا كبقية الأطفال. لم تكن تروقه هذه المعاملة من أبيه، لكنه في نفس الوقت لم يكن يقدر على إنكار إعجابه به، ولم يكن يعرف لذلك سببا! يجلس بين الصخور يحاول بشدة فك هذا اللغز المحير دون جدوى؛ كان تفكيره قاصرا على فهم ما يحمل والده على معاملته كأقرانه، على عكس بقية الرجال. حاول مرارا وتكرارا أن يبرهن لأبيه أنه ليس صغيرا كما يحسبه، وأنه قادر على مجاراته، وكل محاولاته باءت بالفشل. لم يكن هناك من يمسح دموعه من الظلم والحيف الذي يلقاه من أبيه غير الصخور الصماء، محاطة به من كل جانب. يواسي نفسه بأحلامه اليقظة، يفكر في حياته في حال كبر وأصبح رجلا، يعد كل أحلامه وأهدافه، وكأنه يريد أن يثبت لوالده شيئا ما؛ كانت الأحلام عزاءه الوحيد.
الآن وقد كبر، وأصبح رجلا كما كان يتمنى، ينظر إلى الوراء فيزن تلك الأحلام الصغيرة وقد تحقق منها ما تحقق ومنها ما فاق توقعاته ومنها ما لم يتحقق بعد، كما أن منها ما لا يريد أن يتحقق. الآن وقد أصبح رجلا أصبح يعي ما كان يعنيه كل أولائك الذين يحسبونه رجلا في طفولته. الآن وقد أصبح رجلا لم يعد يعني له ذلك شيئا. الآن وقد أصبح رجلا لم يعد لكلمة “رجل” بالنسبة له أي معنى. الآن وقد أصبح رجلا أراد أن يكون طفلا، ذلك الطفل الذي توقظه أمه في الصباح، وتنظفه، وتلبسه، وتعد له الفطور، ويخرج للعب مع الصغار حتى يكل ويرجع إلى البيت منهكا فينام دون عناء؛ ذلك الطفل الذي لا يعرف حدودا لأي شيء، ولا قوانين، ولا عادات، ولا مجاملات، ولا هذا صواب وهذا خطأ؛ ذلك الطفل المتمرد الذي يتوق إلى الحياة. أمسك الصورة في يده وأمعن فيها النظر كما لو أن تلك آخر مرة يراها. أخرجها من غلافها وبدأ يقلبها بحرص والبسمة تعلو قسمات وجهه. كانت تلك الصورة هي الوحيدة التي لم تكن في تناسق وترتيب مع باقي الصور، كان من المفروض أن تكون من بين الصور الأولى بدل الأخيرة. نظر إلى ظهر الصورة وقرأ “هذا الطفل هو أبوك”.
—
قصة رائعة تستحق كل التنويه أستاذي العزيز . عشت مع القصة لأنه لطالما كنت أعاني نفس الشيء في صغري لكن بعدما أدركت المعنى الصحيح للطفولة قررت أن أعيش طفلا لباقي أيامي