بعض المبدعين تتخطفهم يد المنون وهم في ريعان شبابهم ،، وتتلقاهم وهم في أوج عطائهم الإبداعي ، ولعل الشاعر الجاهلي الشهير طرفة بن العبد البكري يأتي في طليعة هؤلاء المبدعين ، فقد توفي طرفة وهو في السادسة والعشرين من عمره بعد أن قتله ملك البحرين انتقاماً لقصيدة كان قد هجاه بها ، وبالرغم من عمره القصير إلا إنه أحد شعراء المعلقات السبع الشهيرة في العصر الجاهلي ،،
وفي التاريخ الإنساني نماذج كثيرة على المبدعين الذين توفوا مبكرين وخلدوا أسماءهم على صفحات التاريخ الإنساني ،، كأبي القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير و الموسيقي العالمي موزارت والشاعر الانجليزي جون كيتس ،، وغيرهم كثير
وحديثنا الآن عن واحد كأمثال هؤلاء وهو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو أو عبده رامبو كما يحلو للعدنيين أن يسموه ، فقد نظم رامبو الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره ثم هجره إلى غير رجعة وهو في التاسعة عشرة من عمره ، أي أن الضجة الواسعة التي أقامها رامبو بقصائده وشعره كانت خلال هذه الثلاث سنين المبكرة من عمره !!
لم تلق قصائد رامبو في حياته تلك الزوابع والدراسات المثيرة كالتي حظي بها بعد وفاته ، فالرمزية التي أسسها هذا الشاب الجريء لم يكن القارئ الفرنسي يتذوقها على الأقل فضلاً عن جهله بها وعن نمطها ، ولكن التطور الثقافي الأدبي الذي تبع وفاة هذا الأسطورة جعله محط أنظار النقاد والدارسين الذين كتبوا عنه بشيء من التوسع والإمتداد بالرغم من أن شاعريته كانت خلال ثلاث سنين مبكرة من حياته ، فلقد اهتدى رامبو إلى الرمزية دون أي يعي هذا الإهتداء الخطير في عالم الأدب !!
كانت حياة رامبو حياة بئيسة وشاقة ، فبالرغم من أنه كان متفوقاً في دراسته ونابغة في تحصيله العلمي إلا أنه آثر التشرد على النعيم والقلق على الأمن ، فكان يسافر بعيداً وهو ماش على أقدامه ثم يعود إلى منزله خاوياً قلقاً يائساً لا يدر ما يصنع ؟ !! ، فجرب السجن وجرب السفر ، ولكن محاولاته لم تفلح عن استقرار مجهول كان يبحث عنه ، لقد كان الفقر عدوه الذي أضناه في حياته الأولى وأشقاه ، ففكر في الهجرة بعيداً عن فرنسا بل عن أوروبا كلها عله يجد هذا الإستقرار المجهول الذي أضنى روحه ، ويعثر على الغنى الذي يتمناه ،،
ركب آرثر رامبو البحر وتوجه إلى السويس المصرية ثم رمى عصا ترحاله في ميناء عدن التاريخي ، وقد كانت عدن تلك الأيام غير عدن اليوم !! ، فقد كان الإستعمار البريطاني قد هيأها لتكون مركزاً بحرياً استراتيجياً عالمياً وقد كانت كذلك ، فكانت الميناء الثالث عالمياً في الأهمية بعد نيويورك وليفربول ، وقد وصل رامبو إلى عدن في عام 1880م ، واشتغل في مهمة تافهة تقتضي بمراقبته لمجموعة من النساء يقمن بتصفية البن من الشوائب قبل شحنه إلى ميناء مارسيليا الفرنسي ،،
تعلم رامبو في عدن اللغة العربية ، وأقام سلسة من العلاقات العامة المتميزة ، وأحبه الناس حينها وأطلقوا عليه اسم ( عبده رامبو ) بدلاً من آرثر رامبو ، ولكنه كره المقام في عدن لأن حرارة الشمس الملتهبة لم تكن تلائم رجلاً أتى من بلاد أوروبا الباردة ، كما أن أجره كان ضئيلاً جداً ، لم يكن يسد حاجاته الأولية ، وبفضل صداقاته التي أقامها في عدن استطاع أن ينتقل إلى فرع الشركة في مدينة هرر الحبشية ،،
انصدم رامبو من الحبشة ، فلم تكن كما يتوقعها من التخلف وضاعت أحلامه في الثراء السريع ، فعاد إلى عدن مكرهاً ولكنه ضاق بها هذه المرة ولم يستطع أن يعيش بها ، وأصبح رامبو في حالة نفسية سيئة ، فكر رامبو أن يصبح مستكشفاً جغرافياً ، فطلب من أهله في فرنسا أن يرسلوا إليه معدات التصوير وكتباً عن الإستكشاف ، وبالفعل وصلت هذه المعدات والكتب ، فعاد إلى مدينة هرر الحبشية وواصل أحلامه في استكشاف أدغال أفريقيا وصحاريها ، إلا أن إفلاس الشركة التي يعمل بها حال بينه وبين إكمال طموحه وحلمه فعاد إلى عدن ،،
بدأ رامبو في تجارة الأسلحة فجنى من ورائها ثروةً لا بأس بها ، وبدأت الحياة تبتسم في وجهه إلا أنها سرعان ما عبست فيه مرة أخرى عندما بدأ يشعر بتورم عصيب في ركبته أتعبه كثيراً وأرق حياته بعدها ،،
بعد أن تأزم مرضه وأضحت آلامه لا تطاق قرر العودة إلى فرنسا حتى يموت عند والدته وأخته ، فجمع ثروته التي استطاع جنْيها من تجارته بين عدن والحبشة وسافر بحراً إلى مارسيليا ، وعندما عرض حالته على الأطباء لم يترددوا في بتر ساقه اليمنى ثم توفي بعدها وهو في سن الثامنة والثلاثين ، وأسدل الستار عن حياة شاعر بائس وتاجر لم يظفر بالنجاح إلا في أخريات عمره الذي عاشه في ثمانية وثلاثين عاماً ،،
وفي القرن العشرين أصبح آرثر رامبو محط أنظار النقاد العالميين ، فدرسوا شعره الذي نظمه مبكراً ، وعدوه من مؤسسي المدرسة الرمزية في الأدب ، واختال به الفرنسيون وأعادوا جمع أشعاره ، ودرسوا حياته ، أما علماء النفس فلم يفوتوا على أنفسهم دراسة هذه الظاهرة المتوترة العجيبة ، فدرسوا شعره وحياته التجارية في عدن والحبشة وخرجوا عنه متناقضين كما خرجوا عن غيره من المبدعين العجيبين ، فرامبو اليوم واحد من بين خمسة من شعراء فرنسا الأكثر أهمية في بلاده ، ولعله من الشعراء الأكثر أهمية وجاذبية في العالم ، لقد كتب حول سيرته وأشعاره حوالي ثلاثمائة كتاب ،،
والناس اليوم الذين على شاكلته من الصعلكة والتهميش والمغامرة يسمون أنفسهم بـ ( الرامبويَون ) نسبة إلى هذا الشاعر العجيب ، كما تحولت سيرته وأشعاره – كما يقول محمد علي شمس الدين – إلى طريقة وسهم انطلاق وحال من التدمير والتشويش بقصد ( صفاء الرؤية ) تماماً كما يحصل للأرض التي تصبح ناصعة بعد الطوفان ، أو للحقل بعد الحريق ،،
وقبل أن تختم مقالنا هذا عن أسطورة الشعر الرمزي ينبغي أن نلفت النظر إلى أن رامبو تأثر بالإسلام في عدن لدرجة أن القسيس المسيحي عندما زاره في مارسيليا وهو ينازع الموت رفض أن يلقنه القربان المقدس لأنه كان يقول باللغة العربية : الله كريم ، الله كريم ، فمات وهو يقول هذه العبارة ،،
—