فلاح العيساوي :
نظرت في مرآتها، شيء غريب تشعر به، لا تفهم له معنىً، ما الذي يحدث معي؟.. لا أحسّ بتغيير في جسدي، لماذا أشعر أنني غريبة عمن حولي، ترى.. ما الذي أصابني؟.. ولماذا مشاعري مشوهة وتختلف عن مشاعر قريناتي؟.. تساؤلات عجيبة تطرحها على نفسها، ولكنها تعجز عن الإجابة على أيّ منها، تعود أدراجها إلى فراشها وتسبح في سهاد عميق، تتمنى الوسن ورحيل الهواجس، تنهض في الصباح مبكرة على غير عادتها، تذهب إلى العمل، تجلس إلى إحدى المكائن.. تحاورها احدى فتيات المعمل، ويبدو أنها جديدة على العمل، تبدأها بالتحية مع ابتسامة جميلة كلها أنوثة ساحرة:
– مرحباً.. إسمي سوسن.. وأنت؟.
– أهلا وسهلا بك.. إسمي كفاح.
– أنا عمري عشرون عاماً.. وأنت؟.
– عمري خمس وعشرون سنة.
– هل أنت متزوجة؟.. لا ألمح في إصبعك خاتم الزواج؟.
– أنا عزباء.. ويبدو أنّني لن أتزوج؟.
– ولمَ لا وكل العازبات يرغبن بالزواج والأطفال والأسرة السعيدة؟
تنهدت واعتصرت الألم في ذاتها، فمشاعرها ذبيحة، لم تشأ الإفصاح عن مكنون سرها الدفين الذي قتل في داخلها روح الأنوثة، لذلك غيّرت مسار الحوار.. فهي ترغب بالتعرف على سوسن.. الفتاة الجميلة ذات اللسان العذب ذي الحديث الجذاب.
سهول وهضاب، مرتفعات ومنخفضات، صدر ضامر وصغير، أرض يغزوها الزغب، سطح لا يوجد فيه ليونة ناعمة ولا نضارة لبشرة الأنثى الجذابة، ملامح وجهها أشبه بملامح الرجال، روح الأنوثة لا وجود لها، فقد قتلتها روح طاغية بمشاعر الرجولة، هي تهوى الحسان وتميل للملاح، رغم صراعها ضد هذه الميول والمشاعر الشاذة، يبقى الرجل في داخل خارطة الجسد هو المنتصر.
هكذا كانت معاناتها لعدة سنوات عاشتها وهي ترغب أن تكون مثل الشباب بهيأتهم وشكلهم.. بلا حجاب يستر شعر رؤوسهم.. وبلا عباءة سوداء تغطي أجسادهم.. هي لا تريد أن تكون فتاة.. بقدر أن تكون رجلاً عاشقاً.. ينعم بحب ومشاعر من أنثى كاملة.. مثل سوسن ريم المدينة.
الصداقة طيف ساحر لطيف، هو فيض مقدس يأسر قلوب الأوفياء، تحققه في الواقع عطر يفوح بالشَّذى والعبير، كفاح دماؤها حرّكت مشاعرها تجاه سوسن التي وجدت في صداقة كفاح معاني الدّعة والحبور، لكن هي تعيش في سيول متلاطمة من المشاعر غير المفهومة.
بمرور الأيام ازدادت فيها أواصر الصداقة والانجذاب إلى حد الكشف عن المفاتن.. كفاح كانت تنظر إلى صديقتها بمشاعر خاصة تفصح عنها بأسلوب المزاح.. لكن داخلها يعشق سوسن.
مقاومة الحب شيء مستحيل، وكلما ازدادت المقاومة زاد انتصار الحب.. سوسن كانت تخجل من كلمات صديقتها ومشاعرها الغريبة، لكن كفاح لم تكن تخجل من مشاعرها الصادقة.
سوسن كانت تتوق لمعرفة أسباب عزوف صاحبتها عن الزواج، في داخل الأنثى مشاعر أمومة تحيط بعالم الوجود.. لم تتراجع عندما سنحت الفرصة في مكان لا ثالث معهما.. أسرعت سوسن.. وقالت: أخبريني لماذا لم تتزوجي؟
كفاح تأوهت وأطلقت حسراتها.
– في داخلي رجل.. الأنثى الكاملة أنت.
– لم أفهم كلماتك المشفّرة.. أرجوك أفصحي؟
– في جسدي يكمن رجل كامل، وروحي تعشقك وأنا أرغب في الاقتران بك.
– كفاح.. أتركي المزاح الأن.. أريد جوابك؟
– داخلي مشوّه.. أنا لست أنثى.. جسدي لا يحمل كل مواصفات النساء.. أنا رجل في جسد نصف أنثى.. مشاعري تصرخ بالرجولة.
ظهرت الدهشة على وجهها.. أطرقت رأسها إلى الأرض تفكّر والذهول يسيطر عليها.. أسرعت كفاح تلاطفها.
– سوسن حبيبتي.. هوني عليك.
– هل حديثك كان مزاحاً؟
– حديثي؟.. صرخة رجل سجن وقمع في جسد أنثى.
– هل حاولت اكتشاف نفسك من خلال الفحوصات الطبية.. فالطب الآن متطور جداً؟
– لا.. الخوف يكبّلني وقيود الأعراف أقوى وأقسى.
أسهبت سوسن بسيل من النصائح والتوجيهات.. هذا الموضوع لا تهاون فيه عليك بإصلاح جسدك فأنت أنثى تستحق الحصول على أسرة رائعة، الطب يعالج تشوّهات الجسد، لا تدفني نفسك في الحياء، اتركي مشاعرك الرجولية، أو اركنيها في زاوية سحيقة، انطلقي وحطّمي جميع القيود التي تجتاحك.
كلماتها خرجت من قلب محبّ، اخترقت قلب عاشق، فأسرعت كفاح إلى أشهر طبيبة نسائية، كشفت عليها وطلبت منها إجراء فحوصات عبر أجهزة (السونار) وغيرها، دهشت الطبيبة أثارت تساؤلها وإلحاحها لمعرفة النتائج.
– دكتورة.. اخبريني.. هل أنا فتاة سليمة أستطيع الزواج؟
– الحقيقة لا أعرف ماذا أقول!
– اخبريني أني لست أنثى.. أنا اعرف انني رجل..
– فعلاً.. إن ظاهرك أنثى.. لكن في داخلك رجل.
كلام الطبيبة لم يكن صادماً لمسامع كفاح.. شعورها بالرجولة كان يرافقها منذ مراحل الصبا والبلوغ.. الطبيبة أرسلتها إلى طبيب مشهور في طب التجميل، والذي بدوره أخبرها بضرورة التحوّل، التشوّه الولادي كان السبب في حرمانها من حياتها الطبيعية.
اتخذت قرارها دون تردد، استِعادت هويتها الحقيقية أصبحت غايتها المنشودة، أسرعت بتقديم طلب إجازة من العمل لإجراء العملية.. التقت بسوسن وكشفت أمامها عن نتائج الفحوصات وقرارها بالتحوّل، وحبها الذي سوف يصل إلى أسمى حالات العشق والهيام.
أثر الصدمة على سوسن جعلها تطلب إجازة مفتوحة من العمل.. جلست في البيت وهي تتذكر كيف كانت تكشف عن مفاتنها أمام صديقتها الرجل!.. كيف سوف أتقبل الواقع الجديد؟.. أنا خسرت أغلى صديقة إلى قلبي.. كيف لي أن اقف أمامها من جديد؟.. قطعاً سوف أبدو أمامه عارية الجسد.. أنا أحببتها من صميم قلبي.. هل سوف يحرمني القدر منها؟.. منها!.. مِن، منَ؟.. هي في الأصل هو.. هل أنا أحببتها أم أحببته هو؟.. إذا تقدمت لخطبتي هل أوافق على الاقتران بها؟.. أنا أتزوج كفاح!.. ولم لا وهي صديقتي الحبيبة.. يا لسخرية القدر.. سوف أجن.
تساؤلاتها زادت من حيرتها الموقف رهيب جداً، الهروب من الهواجس والحيرة سبيل خلاصها الوحيد، قلبها أحب كفاح، وإن اصبحت رجلا!.. فهما شخص واحد، قلبها قرر عدم هجر من أحب، فخضعت له.
البنت أصبحت رجلاً بعد عملية جراحية تجميلية، استعادت فيها كفاح ضالتها المفقودة، أصبحت بعد ثلاثة أشهر من العلاج رجلا كاملا ولد بعمرٍ كبير.. طوال الأشهر الماضية.. كفاح صارع فقدان الحبيبة واللقاء بها، رغم أن صورتها الجميلة لم تفارق خياله العاشق، هو لا يستطيع تحمل فراقها، لذا حزم أمره، وأرسل أهله لخطبتها، سوسن طارت فرحاً وتأكد عندها حب كفاح لها.. فسارعت بالموافقة.
كفاح حقّق حلمه باقترانه بسوسن التي أحبّت كفاح.. والتي لم تكن تتصور أنها في يوم من الأيام تصبح زوجاً لها.
—