عباس جواد :
تحت ظل العصر الساكن، في شارع تدور فيه انواع الروائح، روائح أدوية، رائحة شاي، دخان سجائر، محركات السيارات، ورود الطبيعية حمراء وبيضاء تقطن بجوار الدكاكين، عطور فرنسية تأتي من دكان أخفت ملامحه تعرجات الطرق، خبز دافئ تنمو رائحته من مخبز في نهاية الشارع، مشاهد كثيرة، أصوات ناعمة كصعود المياه ونزولها في نافورة قبالة مطعم يبدو عتيقاً بعض الشيء، طأطأة عصا على الأرض المغطاة بأوراق الخريف، يستخدمها عجوز طفأ الضوء في عينيه، ملاعق الشاي تصدح داخل الأكواب، حفيف شجرة كبيرة في باب العيادة رقم 111 ، صوت موسيقى لا أدري من أين يأتي، حركات العربات المنهكة تتجول في الأزقة، كلب سائب يهرب من طفل يمسك بيده غصن شجرة، امرأة تحمل إناء لبن فوق رأسها، تبطئ من سيرها طفلة تلصق يدها بعباءتها السوداء، لم تكن تلك الأشياء لتوقظ ذهن العجوز الجالس تحت شجرة برتقال كبيرة على كرسي بجوار العيادة 111، عيناه الناعستان تراقبان نبضات الحياة في الشارع، تتحرك بين أصابعه قطعة كاكاو جالكسي، قرأ تأريخ الإنتاج وتأريخ الانتهاء، فتأكد من صحتها، هم بإزالة الكيس عنها، ثم عاد ليقرأ تأريخ الإنتاج والانتهاء من جديد، أزال الكيس ورماه في سلة النفايات بعد أن مشى خطوتين بقدمين متعبتين وظهرٍ منحنٍ قليلاً، ويدان مرتعشتان، أنامل قلقة، عيناه يلفحهما الذبول، بشرته متجعدة، أنفه طويل قليلاً، وشفتاه مشققتان، يرتدي بنطلون أسود يشده بحزام جلدي يخرج إحدى طرفيه من تحت بلوزته الحمراء الداكنة، مع حذاء لم يربط سيوره تركها تخط خلفه، لم يكن منتبهاً، بينما الرجل الأصلع خرج من العيادة ويصيح:
المراجع 26… المراجع 26، أين ذهبت.
انتبه ونهض مسرعاً، أزال بقايا الشوكولاتة من بلوزته، ونكث يديه ثم نظر لبطاقته قرأ عليها 26: أنا هنا، ها قد جئت.
لم يكن صوته يخرج بصعوبة، يمكن لكلماته أن تنطلق بين الريح بكل راحة.
– أين كنت يا رجل؟
أشار بيده قاصداً الاعتذار دون أي اهتمام لما يسمع وأسرع نحو غرفة الطبيب، بقدمين تتخبطان في ممر العيادة، الجدران بيضاء والضوء أحمر شفاف، المراجعين متقابلين بجلستهم، يرمقون الساعة بين الحين والآخر.
– كان يجدر بك أن تكون جالساً مع المراجعين..
لم يصغ للرجل الأصلع خلفه، ثم حدق بالساعة المعلقة فوق غرفة الطبيب، كانت السادسة تماماً فتح الباب ودخل، وقف قبالة الطاولة بصمت، تكلم الطبيب بشيء من الاندهاش:
أنت! يسرني بقاءك حياً.
تبسم بلطف: يسرني أنك مسرور لأجلي.
– لم لا تجلس؟
– حسناً.
جلس بالقرب من الطبيب، وأشبك يديه، مظهراً استعداد رتيب لسماع النصائح.
– متى ستكمل ال 95؟
– عندما التهم هذا الوحش، أو يلتهمني هو.
– لم يلتهمك منذ 50 عام.. هل بدأت تستسلم؟
– لقد صارعتُ بما فيه الكفاية، أحس بأن أحدٌ منا بدأ يحتظر بعد رحلة تكاد أن تصل.
– كل مرة أقول لك أنه إنجاز رائع.. فلا أتمنى اليوم الذي أقول فيه انها نهاية رائعة.
فرك راحتي يده وقال للطبيب:
حسنا والآن أنا مستعد لسماع النصائح الطبية.
تبسم الطبيب: كيف تبدو صحتك؟
– لا بأس ما دمت على قيد الحياة.. ولكن الفحوصات معك.
– أثق بكلامك أكثر من الفحوصات، إنها فقط تتعرف على صحة البدن وقد تنبأت بموتك منذ المرة الأولى، حين جئت هنا.
– جيد أنك تحاول تشجيع عجوز على العيش.
– ههههه، وماذا عن دوائك هل تتناوله بانتظام؟
– لا أعتقد، بعض الأحيان، عندما أشعر بالجوع… والان أ يمكنني الإنصراف؟
تبسم الطبيب: يمكنك ذلك.
– إلى اللقاء.
أخبره آخر كلمات وهو يهم بالرحيل:
في المرة القادمة لا تطلب بطاقة، عليك الدخول ألي مباشرة،
ابتسم، وخرج من الغرفة، وقف قبالة العيادة، أخرج من جيبه كاكاو جالكسي، قرأ تأريخ الإنتاج وتأريخ الانتهاء أراد أن يفتح الكيس ثم عاود قراءة التأريخ من جديد، أكل الكاكاو ورمى الكيس في سلة النفايات، مشى في الشارع بذهن صافٍ، يطفو الهدوء في عينيه، اتجه لمحل العطور، استنشق تلك الرائحة بمتعة، ثم دخل المحل:
– مرحباً، أعطني عطراً، أريد أن تكون رائحته جذابة..
– كما تريد.
أخذ العطر المعبأ بزجاجة صفراء، قرأ أسمه، استنشقه ثم وضعه في جيبه، أخرجه وقرأ الاسم من جديد وأعاده لجيبه وانصرف، مشى حتى نهاية الشارع ليترك السوق خلفه، كان فقط يسير بين المحلات، وسط جلبة الحياة، مبتعداً أكثر فأكثر، تائهاً بين ظلال الأشجار والبنايات والأعمدة حتى اختفى أخيراً تحت شمس الغروب الشاحبة.
***