عندما أخرجت مسرحية (المفتاح) للمبدع الكبير يوسف العاني عام 1975، بعد مفاتحتي له وموافقته على طلب الاشتغال عليها، لم أكن قد شاهدتها كعرض مسرحي قدّم من على خشبة المسرح الفني الحديث في بغداد وهذا أتاح لي فرصة عدم التأثر بأفكار مخرجها أو بطريقته المتميزة في اخراجها خصوصاً وأنا ما زلت في أول الطريق. كنت لم أزل طالباً في المرحلة الثالثة في أكاديمية الفنون الجميلة. وبعد انتهاء التدريب على المسرحية وقبل بدء العرض الأول زرت الأستاذ يوسف العاني في مقر الفرقة، ووجهت له ولعمالقة فرقته فرقة المسرح الفني الحديث الدعوة لمشاهدة العرض فقبل الدعوة مشكوراً.
بعد يومين فقط كان وفد الفرقة قد وصل إلى بعقوبتنا وهو يضمّ باقة من عمالقة المسرح العراقي: الفنان الكبير خليل شوقي، والأستاذ الكبير سامي عبد الحميد، والفنانتان المتألقتان مي شوقي، وروناك شوقي، والفنان المبدع روميو يوسف وعدد آخر لم أعد أتذكر اسماءهم الكريمة، ولم يتخلف عنهم سوى مؤلف النص الأستاذ الكبير يوسف العاني الذي اكتفى الأستاذ خليل شوقي بالاعتذار عنه نيابة.
ابتدأ العرض وكان الخوف مسيطراً علينا جميعاً فجمهورنا لهذا اليوم ليس ككل يوم. عمالقة من المسرح العراقي يجلسون بوقار في الصف الأمامي وهم يرقبون كلّ صغيرة وكبيرة، وجلّ ما خشيته في تلك اللحظات العسيرة هو أن لا يرضي عرضنا أستاذي الجليل في درس التمثيل، وقدوتي في الإخراج المبدع الكبير سامي عبد الحميد. كنت أقف خلف الكواليس وأنا أتابع كلَ شاردة وواردة في أداء الممثلين الهواة والمبتدئين وفي الوقت نفسه كنت أفكر بما عساه أن يقال عن العرض من تلك الزمرة الفريدة من الممثلين الكبار. انتهى العرض بتحية الجمهور التي أردتها أن تكون منظمة ومؤثرة وترجلّنا من على خشبة مسرحنا المتواضع لنصافحهم بمحبة كبيرة. عندما رأى الفنان الكبير خليل شوقي شقيقتي الصغيرة التي أدت دور المرأة الكبيرة (حيرة) وقف مندهشاً، وهو يشير بأصبعه من أعلى رأسها إلى قدمها، ولسان حاله يقول بطريقته الفكهة: أأنت من مثل دور (حيرة)!! ابتسمت شقيقتي. صافحها وأربت على كتفها ثم أننا سمعنا ما طاب من كلمات التشجيع التي فاه بها أفراد الوفد جميعاً.
خرجنا من قاعة العرض وكان الوفد بمعية مدير فرقتنا الأستاذ جابر عبد علي السعيد الذي حجز للوفد مقاعد في نادي الموظفين ولم أكن من بينهم طبعاً فلا يجوز وفق معايير ذلك الزمن أن يجالس الطالب أستاذه في جلسة سمر ونبيذ. ونقل لي الأستاذ جابر السعيد أن الفنان خليل شوقي قد أتحف الجلسة بأغانيه الشعبية التراثية والمقام العراقي الذي يجيده.
في أكاديمية الفنون الجميلة وداخل قاعة الدرس وقف الأستاذ سامي عبد الحميد وأخبرنا جميعاً: إنه قرر أن يكون الطالب صباح الأنباري مساعداً له في إخراج مسرحية (مهاجر بريسبان) للكاتب المغترب جورج شحادة لعام 1974-1975 وقد شكّل لي ذلك الاختيار شهادة عليا وتقييماً هائلاً في مشواري الفني المبكر.
كان ذلك اللقاء المهم، بالكبير خليل شوقي، نقطة ضوء على درب حياتي المسرحية الجديدة طالما تمنيت أن أكحّل عينيّ بمرآها ثانية لكي لا تظل يتيمة فيخبو ألقها الباذخ. وفي ذات أصبوحة ربيعية باهرة تناهي لمسامعي خبر زيارة مجموعة من الفنانين والأدباء والمثقفين الذين أرادوا الاحتفاء بما أطلق عليه وقتذاك الجبهة الوطنية والقومية التقدمية أو كما كنت أسميها المصيدة الوطنية وكان من بينهم الراحل الكبير خليل شوقي. وإذ عرفت بقدومه معهم تركت مشاغلي اليومية وانطلقت إلى مخيم ديالى الكشفي حيث حلّ الزائرون ضيوفاً على مدينتنا الصغيرة مدينة البرتقال. دخلت المخيم ورحت أفتش بين المحتفلين عن نخلة باسقة لم تنس جيران أمسها القريب. كان الكلّ منشغلاً بالرقص والغناء والمرح الجميل. سمعت صوتا مألوفا لي ينادي باسمي فالتفت جهة الصوت فإذا بي وجهاً لوجه مع أستاذي الراحل الكبير محيي الدين زنكنة وإلى جواره القامة الشامخة التي لا يمكن لك أن تراها إلا وترى البشاشة مالئة محياها وروحها الطاهرة. جلست إلى جانبهما واندمجت مباشرة مع ما كان يدور بينهما من حديث شيق وجميل عن السياسة والمسرح والحياة الثقافية. في هذا اللقاء المهم الذي غيّر مجرى حياتي الفنية والثقافية كنت أصغي لهما مثل طفل صغير أنا الذي ظننت انني تجاوزت الفطام والطفولة والصبا، ودخلت في عالم الكبار، اصغي مندهشاً، متعجباً من فيض الأفكار التي تنساب على لسانيهما انسياب الماء الزلال من قمة جبال كردستان إلى السفح، والجرف، والسهل، والمنحنى.
لم استطع قول شيء في حضرتيهما، ليس خجلاً، ولا ضعفاً أو تردداً ولكن لاكتشافي البون الشاسع بينهما وبيني، ومن يومها قررت أن اتحدى نفسي يومياً وبمثابرة وجهادية عالية كي أعزز ذاتي بما يؤهلها للجلوس في حضرة الكبار. كان هذا الدرس المنتج من الدروس التي تعلمتها وأنا في مقتبل حياتي الثقافية والمعرفية.
شخصية الراحل خليل شوقي تركت في نفسي أثراً كبيراً دفعني لمتابعة انتقالاتها من دور لدور، ومن شخصية لأخرى ومن عمل إبداعي لآخر فالرجل يعد بحق موسوعة شاملة كبرى فهو المخرج المجيد سينمائياً ومسرحياً، وهو الكاتب المسرحي والسيناريست، وهو الممثل القدير على خشبة المسرح وأمام عدسات السينما والتلفاز، وهو الذي ترك لنا شخصيات شعبية لم يمحها الزمن من الذاكرة الجمعية كشخصية مصطفى الدلال في مسرحية (النخلة والجيران) وشخصية البخيل في مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) وشخصية الراوية في مسرحية (كان ياما كان) وفي التلفاز العراقي ثمة شخصيات رسخت في اعماق ذاكرتنا الجمعية منها على سبيل المثال لا الحصر شخصية عبد القادر بيك في مسلسل الذئب وعيون المدينة.
ولعل من المفيد أنْ نذكر أنّ الفنان القدير شوقي وهو الذي أنجب أكبر عائلة فنية عراقية قد علّمنا أصول التمثيل وآلية عمل الممثل دون أن يدوّن شيئاً من هذا فقد كان يفعل ما ينبغي على الممثل فعله في حياته اليومية. أن يراقب الشخصيات الشعبية وأن يتعلم محاكاة أسلوب حياتها: كيف تتصرف مع نفسها، ومع الآخرين، كيف تمشي، كيف تتحدث، كيف تنفعل، كيف تكون ردود افعالها. كان الراحل يعيد حركات هذه الشخصيات يومياً وتفصيلياً حتى تمكن من أن يقدمها بأشكالها المختلفة من دون الوقوع في النمطية التي وقع فيها غيره من الممثلين العراقيين. كان يوقعنا في فخاخ شخصياته فنتوهم أن الذي أمامنا ليس إلا الشخصية نفسها. إنه يعمل على جعلنا ننسى أن من يؤدي هذه الشخصية أو تلك هو خليل شوقي.
لقد غادر العملاق شوقي أرض العراق، مرغماً، كأغلب من غادروها ولكنه كان يحملها معه من غربة إلى غربة، ومن بلد إلى آخر وظلّ حنينه ينزف ألماً ومرارة وعيونه ترنو إلى الوطن الجريح حتى فارقته الروح في تلك الغربة القاتلة.
سلام عليك أيها المعلم الجليل، سلام عليك يا حامل همّ الوطن، سلام عليك يا من اخذت مسرحاً واعطيتنا كنز ثقافتك، سلام على ابداعك الذي ما عرف النضوب، سلام عليك يا من علمتنا معنى أن نكون أو لا نكون، سلام عليك يا معلمي الفاضل، سلام عليك يا من غادرتنا لترقد بسلام مبين، سلام.