احتفاليّةً فكريّةً إبداعيّةً مميّزةً أقامتها التّوامةُ المُؤلّفةُ مِن: مُؤسّسةُ الأفق للثقافة والفنون حيفا، ونادي حيفا الثقافيّ، وجامعة النّجاح الوطنيّة نابلس، احتفاءً بكوكبةِ كبارِ مُحاضِري جامعة النّجاح الوطنيّة، ضيوف مؤسّسة الأفق وعروس البحر حيفا وأهلها: بروفيسور إحسان الديك، ود. نادر قاسم، ود. غانم مزعل، في مقرّ نادي حيفا الثقافيّ/ المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ، بتاريخ8-5-2015، ووسطَ حضورٍ كبيرٍ في حِواريّةٍ مع الضيوف، أجراها الكاتب والفنّان عفيف شليوط، تخلّلتْها قراءاتٌ شعريّةٌ للشّاعر إحسان أبو غوش.
جاءَ في كلمةِ رشدي الماضي: أقولُ لفرسانِ الفِكر أهلًا: وحيدًا أُغربلُ الوقتَ، وأُنخّلُ المسافاتِ، أجلسُ على مقعدٍ تحتَ نافذةِ دارِهِ في المعرّة، فأراكم في مرآةِ بصيرتِهِ، تُلقّمونَ الكلمةَ بخميرةِ فِكرِهِ بصَرًا. أَرْكَبُ أجنحةَ رسالتِهِ، وأروي لغفرانِها حكايتي المُضرَّجةَ بالحنين، فتعرفُني، وتُعرِّجُ بي قبلَ صعودِها إلى حيفا.. أسألُ قصيدتي الّتي تُرافقُكم إيقاعًا مَشحونًا بالحُبِّ والمَطرِ، فتهمِسُ لي: هُم آتونَ إليكم، وقد امتلؤُوا قبلَ أن تطأ عتباتِها أقدامُهُم، نعم، امتلؤُوا بالشّعرِ والحضورِ..
إخوتي الّذينَ لم تَلدْهُم أمّي! بروفيسور إحسان الديك، د. نادر قاسم، د. غانم مزعل، أنا وأسرة الأفق، وأسرة نادي حيفا الثقافيّ، انتظرناكم على رصيفِ اللّغةِ وبحرِها الواسعِ كالخيال، فنحنُ مُصابونَ بالشّوقِ والاشتياقِ إليكم، انتظرناكم وقد حملَ كلٌّ منّا حفنةً مِن نارِ جبلِ النّارِ، نارًا، هي حفيدةٌ لنارِ بروميثيوس، فعرفنا ما هي كلمةُ جامعةِ النّجاح الوطنيّة، وما معنى أن نكونَ لها مُخلِصينَ ولها ناقِلين.
يا نجومًا أكاديميّةً في علياءِ سماءِ البحثِ، مُنجَزُكُم نواةٌ نوعيّةٌ صلبةٌ لِمشاريعِكُم البحثيّةِ الرّائيّة في فلسطين الثقافةِ والفكرِ والحضارةِ والإبداع، واستشرافِ المُستقبلِ البَديل. بكُم نُكمِلُ أعاليَ وعي الوطن، ونملأ أشجارَ المعرفةِ الطيّبةِ بالخصوبةِ والازدهارِ والنّماءِ، والجَماليّاتِ المُترَعةِ برائحةِ جفرا وعنات. ها أنتم أتيْتُم وتَجلسونَ في حضرةِ مَن يُحبّونَكم من عائلةِ الأفقِ، وعائلةِ نادي حيفا الثقافيّ، وأهالي عروس البحر الكِرام والجوار، أهلًا بكم جميلين، وسلامُنا لكم سَلامَ الحُبِّ والفِكرِ والشّعرِ والصّهيلِ والهَديل، سلامًا يَجعلُ كلَّ رَحيلٍ لكم عنّا هو العودة والعودة!
مُداخلة عفيف شليوط الأولى: أوّلًا نتناولُ ما يَتعلّقُ بالحركةِ الثقافيّةِ في بلادِنا وكبْتِ الحُرّيّاتِ، الأمرَ المُخجلَ في مدينةِ حيفا، خاصّةً وأن يَتمَّ مُحاولة إخمادِ وكبتِ صوتِ إخوتِنا في مسرح الميدان، حيث يتعرّضونَ لمحاولةِ إلغاءِ ميزانيّةٍ مِن قِبلِ بلديّةِ حيفا، بحُجّةِ عرضِهم مسرحيّةً تتحدّثُ عن الأسرى الفلسطينيّينَ في السّجونِ الإسرائيليّة، فنشجُبُ هذا الأمرَ المُهينَ الذّي لم يَمُرَّ، فنحنُ في خندقٍ واحدٍ في مواجهةِ هذه المُحاولات. وأُرحّبُ بجميعِ الحضورِ في هذه الأمسيةِ الحواريّة، وهدفُنا في هذا اللّقاءِ أن نُتيحَ المَجالَ للحضورِ في محاورةٍ فعّالةٍ، فسأطرحُ ثلاثةَ أسئلةٍ مِحوريّةٍ، أوّلُها موجَّهٌ للبروفيسور إحسان الدّيك: اليومَ وفي ظِلِّ التّغيُّراتِ السّياسيّةِ في المنطقةِ، وخاصّة بَعدَ اتّفاقيّةِ أوسلو تحديدًا، هل أثّرَ هذا الأمرُ على الحركةِ الثقافيّةِ والفِكريّةِ الفلسطينيّة، انسجامًا مع الأوضاعِ السّياسيّةِ الجديدة؟
مداخلة بروفيسور إحسان الدّيك: بدايةً نُرحّبُ بالحضورِ الكريمِ والمُنظّمينَ لهذا اللّقاء في حيفا، جئنا نبحثُ عن جبينة وعن عنترة العبسيّ في شوارع حيفا، كما قال رياض بيدس، وجئنا مِن جبال النّارِ إلى جبال كرمل إيل، وهذا الأصل الذي نبحثُ عنه. أيضًا جئنا نُقبّلُ الأرضَ تحتَ أقدامِكُم، حقيقةً قالَها الشّاعرُ توفيق زياد، وجئنا نشمُّ رائحةَ الأرضِ وعبقَ التّاريخ والأصالةِ والحفاظِ على الهُويّة، ونَتعلّمُ منكم كيفَ يَعيشُ الإنسانُ في وطنِهِ. الثّقافةُ مُهمّةٌ، والأرضُ ذاتها، والإنسانُ أيضًا يَتواجدُ، لكنّ الصّراعَ حقيقةً على الثقافة، وصِراعُنا على الماضي باعتقادي أكبرُ مِن صِراعِنا على الحاضر، لأنّه حتّى في أوسلو، سواء كانت غزة أو أريحا، أوّلًا وأخيرًا هذه مُجرّدُ أشبارٍ وأمتارٍ ومناطقَ صِراعٍ على الماضي، فهُم يَحتجّونَ ويُحاجِجونَ بهذا الماضي الّذي سرَقوهُ، ونحنُ وللأسفِ تعاميْنا عن هذا الماضي. أوسلو حقيقةً أحدثتْ شرْخًا كبيرًا، وهزّتِ الإنسانَ الفلسطينيَّ، خاصّةً الإنسانَ المُثقّف، وكانَ هناكَ مُؤتمرٌ في جامعة الخليل، عن أثرِ أوسلو في الأدب مِن شِعرٍ وروايةٍ، فالخطابُ الوطنيُّ بعدَ أوسلو اهتزَّ، وحتّى أنّ الإنسانَ لم يَعُدْ يَدري، هل سيَسيرُ معَ الحَلِّ السّياسيّ، أم سيُرضي ضَميرَهُ، لأنّ الفنّانَ المُبدعَ لمْ يَرْضَ بهذا الواقع، ولن يَبيعَ تاريخَهُ في سوقِ النّخاسةِ، ولن يَتنازلَ عن مُنطلقاتِهِ وأفكارِهِ الّتي تربّى عليها بينَ عشيّةٍ وضحاها، ومَطلوبٌ مِنَ الشّاعرِ الّذي تغنّى بالكُلِّ أن يَتغنّى بالجزء، وأن يَنسى ما تربّى عليهِ، وهنا صارتِ الصّدمةُ عندَ كثيرٍ مِنَ الشّعراءِ، ولذلكَ سكتَتْ بعضُ الأصواتِ عن الخلطِ في بعضِ القضايا السّياسيّة، ولكن مُؤشّرَ الفنّانِ في اعتقادي بقيَ كما هو، فهناكَ كثيرونَ رفضوا وحاربُوا ولم يُؤمِنوا بكلِّ هذه الأشياء، ولم يَتنازلوا عن الكلِّ الّذي آمنوا به.
*وهناكَ مُشكلةٌ أخرى، أنّ هناكَ كفاءاتٍ وطاقاتٍ كبيرةً، إلّا أنّ الوضعَ الّذي تَعيشُهُ الضّفّةُ وغزّة مأساويٌّ، وأوسلو أعطتْ بعضَ النّاسِ امتيازاتٍ، فانشغلوا بهذهِ الامتيازات ولم يَنتبهوا إلى وطنِهم، وأيضًا مشكلةٌ أخرى، أنّ هناكَ بوْنًا شاسعًا بين السّلطةِ في بُروجها العاجيّةِ، وبينَ الشّارع والإنسانِ الكادحِ الّذي يَنتظرُ راتبَهُ آخِرَ الشّهر، فانشغلَ النّاسُ بالقروضِ البنكيّةِ والبحثِ عن لقمةِ العيش، وليستْ هناكَ جرأةٌ ليتكلّمَ الإنسانُ بسببِ الأوضاعِ السّياسيّة، فنحنُ في مأزقٍ، ولم نعُدْ نبحثُ عن وطنٍ حقيقةً، إنّما هناكَ مَصالحُ وأنتم أدرى بها، وغدَت الوحدةُ الوطنيّةُ حكايةَ “إبريق الزيت”، ومنذ سنواتٍ واجتماعاتٍ وفنادقَ وتَكاليف، صارَ الصّراعُ مِن أجل كَراسٍ وأهدافٍ تَنظيميّةٍ وأهدافٍ شخصيّةٍ، بعيدًا عن الرّؤيةِ الوطنيّةِ. واتّحادُ الكُتّابِ أيضًا في صراع كما الحالُ عندكم، والمُثقّفُ يُهمِّشُهُ السّياسيُّ. وهناكَ مُشكلةٌ أيضًا، في ارتقاءِ الأدبِ إلى حجْمِ المَرحلة، وباعتقادي بسبب الإحباطِ واليأسِ عندَ الشّاعر، وكما قالَ جَمال عبد النّاصر: “فقط نحن نكونُ، حينما نمتلكُ حُرّيّةَ الكلمة”. ولكن نحنُ مَمنوعونَ مِن القولِ، سواء على صعيدِ الأدبِ أو على صعيد الكلام العاديّ، ولم تعُدْ مُشكلتُنا فقط الاحتلال، وإنّما المشكلة مع أنفسِنا، ويَجبُ أن نُحرّرَ أنفسَنا وذواتِنا، قبلَ تَحريرِنا مِنَ الاحتلال!
*في جامعةِ النّجاح لدينا توجُّهٌ حقيقيٌّ وأولويّةٌ في دراسةِ إخوتِنا في الداخل، ليسَ في الأدب الرّسميِّ فقط، وإنّما أيضًا في الأدب الشّعبيّ، فهناكَ موسوعةٌ في الدّراساتِ والأبحاثِ الفلسطينيّةِ الّتي صدرَتْ عن مَجمعِ القاسميِّ للّغةِ العربيّة، وأنا عضوٌ في هيئةِ تَحريرها، أمّا عن الشّعرِ فلم يَعُدِ التّعريفُ القديمُ للشّعرِ موزونًا ومُقَفًّى، فهناك تَمرُّدٌ على الوزنِ والقافية، وتَداخلَتِ الأجناسُ الأدبيّةُ، وكثيرونَ مِن شُعراءِ اليوم يُلغونَ الحواجزَ بينَ الأجناسِ الأدبيّة، وهناكَ قفزاتٌ حديثةٌ وسريعةٌ أخرى، وهناكَ تَقصيرٌ مِن السُّلطةِ الوطنيّةِ حقيقةً، في ثقافةِ الدّاخل، وحتّى في الاعترافِ بالداخل، وهناكَ توجُّهٌ معَ المُمثّلِ محمّد بكري في برنامجِهِ “وجهًا لوجه”، والتّجسيرُ لهذهِ الأولويّاتِ، فإنْ أردنا أن نكونَ شعبٌ، فالأوْلى أن نعتني بأنفسِنا، وبكم كما نعتني بنا، والنّشاطُ الكبيرُ في الحركةِ الثقافيّةِ أُغبّطكم عليه، وهذا الحضورُ الكبيرُ لا نراهُ ولا نجدُهُ، حتّى في مؤتمراتٍ علميّةٍ مُنظّمةٍ ومُعدّ لها ومُعلَن عنها، حتّى في الأردن والدّول العربيّة لا نجدُ إلّا الأعضاءَ المُشاركينَ في المؤتمر، وهذا الحضورُ يُدلّلُ على اهتمامِكم بالثقافة، وعندَكم حَراكٌ ثقافيٌّ أكبرُ بكثيرٍ مِن الضفّة ويَكفيكم آذار الثقافيّ!
*باعتقادي، في زمنِ مُنظّمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ كانتْ فِرَقُ المَسرحِ، والفِرقُ الشعبيّةُ الفلسطينيّةُ، وفِرقةُ الثورةِ الفلسطينيّة الّتي جابَت دولَ العالم، وفرقةُ العاشقين وغيرها، كانت أنشطَ ممّا نحن عليه الآن، فماذا تفعلُ لنا وزارة الثقافة؟ كلّ يوم في دولة، والذين يُسافرونَ فقط الموظّفون في وزارة الثقافة! فكيف نرتقي بالفنّ؟ إنّنا نحبُّ الورد، لكنّنا نُحبُّ القمحَ أكثرَ، ونحنُ اليومَ مُنشغلون بالبحثِ عن اللّقمةِ قبلَ الفنّ، والمُشكلة أنّهم ألْهَوْنا باللّقمة، ونسينا واجباتِنا الثقافيّةَ وأشياءَ أخرى، فعسى أن نَخرجَ مِن عُنقِ الزّجاجة!
*ليسَ لدينا خطّة عملٍ واضحة، لا في المستقبلِ القريب ولا البعيد، وأنا أتحدّى أيّ سياسيٍّ أن يقولَ أنّ لديهِ خطّة عمل، إنّما كلُّ تصرُّفاتِنا هي ردّاتُ فِعلٍ، وعلى قدْرِنا نحنُ نُجَسِّرُ، وسياسةُ التّجسيرِ هي الأهمّ، فلو اتّحدْنا واحتضَنّاكم مِنَ البداية، لكانَ وضعُنا اليومَ مُختلفًا، لكنّنا بِعْنَاكُم، وفي البدايات نَعَتْنَاكُم بالعُمَلاءِ، ونحنُ اليومَ نُريدُ التّجسيرَ وبقُوّة!
مُداخلة عفيف شليوط الثانية: أصدَرَ عدّةَ كُتبٍ عن توظيفِ الأسطورةِ في الأدب القديم والحديث، وله مُحَكَّمةٌ في الأدب القديم والحديث، وخاصّةً في الأدب الشّعبيّ والتّراث. إنّهُ د. نادر قاسم رئيس قسم اللّغةِ العربيّةِ في جامعةِ النّجاح، دكتور في الأدب الحديث والأدب الرّوائيّ، وأستاذ في جامعة النجاح في نابلس، نشرَ العديدَ من الأبحاثِ والدراسات المحكمة في الرواية والشعر والنقد الحديث، والأدب الفلسطينيّ والأدب الشعبيّ. وسؤالي: الجانبُ الذي اشتهرَ في الجانب الفلسطينيّ على الغالب هو الشّعر، ولاسيّما شعر المقاومة، وخاصّة الرّعيل الأوّل من الشعراء، أمّا بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى كالرّواية والمسرحيّة والقصّة القصيرة، فلم تُحقّقْ ما حقّقهُ الشعرُ مِن شهرةٍ وانتشار، فما هو تفسيرُكَ لهذهِ الحالة؟
مُداخلة د. نادر قاسم: حولَ تراجُعِ الفنِّ القصصيِّ والقصّةِ والمسرح، مُقابل الحركةِ الشّعريّةِ في الأدب الفلسطينيّ على وجهِ الخصوص، أستطيعُ أن أقولَ في عُجالةٍ، هناكَ أسبابٌ عامّةٌ خارجةٌ عن إرادةِ المُبدع، وأسبابٌ خاصّةٌ نابعةٌ مِن المبدع نفسِهِ، والسّؤالُ الذي يَطرحُ نفسَهُ، التّوازنُ بينَ الخطابيْن الأيدولوجيّ والتاريخيّ مِن ناحية، والخطاب الفنّيّ مِن ناحيةٍ أخرى، هل هو قاعدةٌ مُطلَقةٌ أم نسبيّة؟ وهل التّركيزُ على الخطابِ الأيدولوجيّ في الكتابةِ النثريّةِ والرّوائيّةِ القصصيّة، هو السّببُ في تراجُعِ الفنّ القصصيِّ، على اعتبار أنّ هذا على حساب الخطابِ الفنّيّ المُتعلّقِ في اللّغة والبناءِ الفنّيّ؟ صارَ التّركيزُ على الموضوعِ وعلى الخطاب الأيدولوجيّ والتّاريخيّ، على حساب الخطابِ الفنّيّ، بعكس الشّعرِ الذي جاءَ مُكثّفًا مُوجَزًا، واستطاعَ أن يُوازنَ إلى حدٍّ ما بينَ الخطابيْن. الأمرُ الآخرُ أستطيعُ القول، إنّ التركيزَ على الخطابِ التّاريخيِّ في العملِ الرّوائيِّ والقصصيِّ والمسرحيِّ، عادَ بكثيرٍ منّا إلى كتابةٍ ريبورتاجيّةٍ صحفيّةٍ حقيقةً، في غياب اللّغةِ الدّراميّةِ في الكتابة، مقابلَ معرفةِ الخطاب الفنّيّ قد يَعودُ بكتابةِ نصٍّ مليءٍ، وإذا أردنا أن نُركّزَ على البناء الفنّيّ، فنقعُ في مشكلةٍ أخرى، وهي الفذلكة اللّغويّة والنحت الصّياغيّ، وصولًا إلى تركيبةٍ جَماليّةٍ لا تقولُ شيئًا للقارئ، إذن ماذا نفعل؟ إذا ركّزنا على الجانب الفنّيّ، نصلُ إلى هذا البناءِ الصّناعيّ والفذلكاتِ اللغويّة، وإذا ركّزنا على الجانب الأيدولوجيّ التاريخيّ الفكريّ، نصلُ إلى أنّ هذا على حساب اللغةِ والأسلوب والبناء. إذن؛ أين هي المشكلة؟ لهذا أخذ الكثيرُ مِن الأدباءِ يكتبون روايةً أو روايتيْن، ثمّ يتوقّفون عن كتابة الرّواية، ويتحوّلون إلى كتابةِ المقالةِ الصحفيّةِ والتقاريرِ السّريعةِ اليوميّة، بدلًا مِن كتابةِ الرواية، وكأنّهم اكتفوا وانتهت تجربتهم هنا، بعكس الشعر الذي بقيَ حاضرًا منذ عهدِ الرّوّادِ إلى الحاضر، ويتفجّرُ باستمرارٍ، باستثناء تجربة إميل حبيبي في كتابة الرواية، والتي حاولَ فيها أن يُوازنَ بين الخطابيْن، التاريخيّ الأيدولوجيّ والخطاب الفنيّ اللغويّ، ولهذا أستطيعُ أن أقولَ، ليسَ لدينا في الأدب الفلسطينيّ، وخاصّةً في الداخل الفلسطينيّ، أدبٌ روائيّ بالمستوى المطلوب، والقصّة القصيرة قد تكون أقربَ إلى النّضج أكثرَ من الرواية، وهذا هو السببُ الرّئيسُ، بأننا لم نوفّق بين الخطابين الفنّيّ اللّغويّ، والخطاب التاريخيّ الأيدولوجيّ!
“حيفا على ورق القصيدة” ندوةٌ أقامتها جامعة النجاح مع رشدي الماضي وعفيف شليوط، وحقيقةً كان اللقاء مُثمرًا ومُهِمًّا جدّا، وهناك لقاءاتٌ كثيرةٌ وندواتٌ ومؤتمراتٌ تُعقَدُ باستمرارٍ عن الأدب والثقافة الفلسطينيّةِ في الداخلِ مع جامعةِ النجاح الوطنيّة، تكادُ تكونُ أسبوعيّةً، لكن حقيقةً، نحن بحاجةٍ إلى تواصُلٍ أكثر.
مُداخلة عفيف شليوط الثالثة: د. غانم مزعل من حيفا، ويُحاضرُ في جامعة النجاح في نابلس، تخصّصَ في الأدب المُقارن، وتخصّص محاماة، أصدرَ كتبًا وأبحاثًا في اللغةِ العربيّة والعبريّةِ والألمانيّة، وقامَ بترجمة قصائد مِن اللغةِ العبريّةِ إلى العربيّة. سؤالي: هنالكَ في العالم العربيّ اهتمامٌ بالمشهدِ الثقافيِّ الفلسطينيِّ في الداخل الفلسطينيّ، ولكن هذا الاهتمامُ في مرحلةٍ معيُنةٍ انحسَرَ، ووصلَ الأمرُ أحيانًا إلى عدم التعاملِ الرّسميّ معَ الجزءِ الباقي على أرضِهِ وفي وطنِه، بحُجّةِ ما يُسمّى التطبيع، ولم تحظَ الأجيالُ التي نشأتْ بعد الرّعيلِ الأوّل بالاهتمام الكافي، رغمَ وجودِ أسماء وثقافة أدبيّة جيّدة تستحقُّ الاهتمام، فكيف يمكنُ حسب رإيك، إعادة هذا الاهتمام بنا مِن قِبلِ العالمِ العربيّ؟
مُداخلة د.غانم مزعل: قال اميل حبيبي” “لا شكَ أنّ البقيّة الباقية في حيفا ويافا والناصرة وكلّ الداخل، لا حاجةَ إلى تبريرِ سبب بقائِها، فلا يسألُ مَن بقيَ في بلادِهِ لماذا بقي، والمقتولُ لا يُسألُ لماذا قُتلَ، بل القاتلُ يُسألُ لماذا قَتَل؟!”، وذلك عندما حصلَ إميل حبيبي على جائزة الإبداع الإسرائيليّة، هوجمَ مِن قِبلِ بعض المثقفين في العالم العربيّ. صراع إميل حبيبي والعربِ في الداخل هو صراعُ بقاءٍ وصراعٌ على الذاكرة، وإذا ما مُحِيتِ الذاكرة فهذه قمّة الهزيمة، ولا شكّ أنّ إميل حبيبي وجماعتَهُ، ويجبُ أن نقولَ وبصراحة، لو لم يكن الحزبُ الشيوعيّ في الداخل، لذابتِ الثقافةُ العربيّة في “إسرائيل”، فمن حمى ثقافتُنا العربيّة هو الحزبُ الشيوعيّ، والمُثقفون الذين بقوْا في بلدِهم ونُعِتوا بالخوَنة، وقوطِعوا وأُلقِيَ عليهم الحرمانُ، كما كانت الكنيسة تُلقي الحرمانَ على المثقفين في ألمانيا وإيطاليا، إلى أن جاء الكاتب المشهور غسّان كنفاني، واكتشفَ الكُتّاب في الداخل، وسلّطَ الضوءَ عليهم، ومنذ تلك الفترة بدأ العالمُ العربيّ يَقول، إنّهُ لا أدبَ ولا كتابة إلّا في الداخل، وهذا اعترافٌ صحيحٌ وجلدٌ للذات في العالم العربيّ، وتأسّف جدًّا لِما قالهُ عن كُتّاب الداخل. كانت قطيعةٌ وحرمانٌ، وحُوصِر الكُتّابُ العربُ في الداخل حصاريْن: حصارٌ مِن قِبلِ السُّلطةِ الإسرائيليّة، وحصارٌ مِن الإخوة، ولكن جاءَ الاعترافُ متأخّرًا، ولكن أفضلَ مِن أن لا يأتي بالمَرّة. ومِن ثمّ بدأت الاهتماماتُ والنشرُ في العالم العربيّ، واكتشفوا أنّ البقيّةَ الباقية لديها كتاباتٌ ومبادئُ، وبدأ الاهتمامُ وكتابةُ رسائل الماجستير والدكتوراه عنهم في الواقع.
*بالنّسبة إلى أنّه يوجد لقاءٌ ثقافيٌّ ما بين الأدب العربيّ والعبريّ، وأمرٌ آخرُ يجبُ أن نُشيرَ إليه، أنّ الكُتّابَ العربَ ونذكرُ على سبيل المثال لا الحصر، محمد غنايم، وأنطون شمّاس، وسلمان ناطور وآخرون، قاموا بعملٍ نوعيٍّ وترجموا لنا كثيرًا من الأدب اليساريّ العبريّ إلى اللغة العربيّة، ومحمود درويش سُؤل: هل أنتم العرب الفلسطينيّون تُترجمون لنا؟ وكذلك العالم العربيّ أرادَ مُحاصرةَ الترجمةِ العبريّة، وهذا غباءٌ ألّا تُترجمَ أدبَ الآخر إلى لغتك. ترجَموا لنا كثيرًا ِمن اللغة العبريّةِ، وعرّفوا العالمَ العربيّ على كتاباتِ اليسار الإسرائيليّ، فأجاب محمود درويش: “أنا ابنُ جميع الثقافات، ابنُ الثقافةِ اليونانيّة والكنعانيّة والعربيّة واليهوديّة، والعربُ في الداخل عبْرَ الترجماتِ أرادوا أن يُحوّلوا وعيَ الأفرادِ إلى وعيٍ جَماعيّ، فحينَ نسافر إلى باريس، نشتري التذكرة ونُمضي أسبوعًا في باريس، وفي أحسن الأحوال نلتقط بعضَ الصّور التاريخيّة، ثمّ نعود إلى البلاد، وقد نلتقي فرنسيًّا ونتكلم معه جملةً أو أكثر، ولكن لا نتعرّف على الثقافة الفرنسيّة في هذه الرحلة، ولكن عندما أقرأ كتابًا مُترجَمًا من الفرنسية أو الإنجليزية والعبريّة إلى العربيّة، فأنا أدخلُ إلى أزقّةِ البلد الآخر، وإلى الصالة مع الآخرين، فهذه هي أهمّيّة الترجمة، فعبْرَها أتعرّفُ على الشعوب، فالكاتبُ لا يَخلقُ الواقعَ، إنّما يُصوّرُهُ. وطبعًا أُترجمُ الأدبَ الفلسطينيَّ إلى لغاتٍ أخرى، وأترجمُ جراحي كفلسطينيّ، وعندما يعرفُ الآخرُ جراحي يَتعاطفُ معي ويتفهّمُ قضيّتي، فلا يعني الانتماءُ التّماثُلَ، والتّماثُلُ لا يَعني الانتماءَ، فأنا لم أكن في كولومبيا أو جنوب إفريقيا، ولكن حين قرأتُ ترجمات غبريئيل ماركيز، بدأت أحبُّهُ وأحبُّ شعبَهُ، وأشعرُ بالأطفال الذين سُمّموا وقُتلوا واستُغِلّوا في تجارة المخدّرات، وعندما أقرأ الأدب الإفريقيّ، أشعرُ بتعاسةِ الأطفال الذين يَشتغلون بالكاكاو، وأعمارُهم لا تزيد عن 15 سنة، لذلك أنا لا أشرب الكاكاو، تعاطُفًا معَ الأطفال الُمستَغَلّين!
*سُؤلَ نجيب محفوظ: تعدادُ العالم العربيّ بالملايين، لكن لماذا لا يوجدُ كُثُرٌ ممّن حصَلوا على جائزة نوبل؟ كان جوابُهُ فلسفيًّا وبسيطا: لكي تحصلَ على جائزة نوبل يجبُ أن تكون مُبدِعًا، وعندما لا تكونُ ديمقراطيّة، فلا يوجدُ إبداع.
*اليومَ هناكَ اهتمامٌ كبيرٌ بالشعراءِ وكُتّابِ القصّة والرواية والمسرح في الأدب الفلسطينيّ، سواء في الضفة الغربيّة أو في غزة والشتات، أو في الداخل. وأعطي مثالًا واحدًا عن د. عمر عتيق الزميل الناقد، وقد كتب دراساتٍ عديدةً عن شعراء عرب 48، ويُعدُّ دراساتٍ هو وغيرُهُ لشعراءَ جُددٍ وشباب، ومِن جهتنا نحن في جامعة النجاح الوطنيّة، نوجّهُ طلّابَنا إلى كتابةِ رسائل ماجستير في الحركة الثقافيّة، وفي حيفا على سبيل المثال، ونبحث عن قصيدة حيفا في الأدب الفلسطينيّ، والتي تناولتْ مدينة حيفا، فهناك دراساتٌ كثيرةٌ، ونُقّادٌ يتناولونَ شعراءَ غيرَ مَن عرفناهم.
—