حسين السنيد :
انا الحاج حسان .. و هناك من يسميني الشيخ حسان . من قرية النبهان , حيث يسكن تقريبا800 شخص , يعتاشون على تربية الاغنام ويسكنون في بيوت الطين .هي قرية بعيدة جدا , مثل مئات القرى البعيدة, التي ليس فيها قصة جديدة و لكن سماءها صافية وخضارها مدهم . و هذه القرية ( ايضا مثل مئات القرى الاخرى) تبدو كأسرة كبيرة من الاعمام و الاخوال و بنات الاخ والاخت . ساكنوا هذه القرية يرون العالم باسره من خلال ثقب واحد , وهو قرية النبهان! اتصدق لو قلت لك ان في هذه القرية من لم يذهب الى اقرب مدينة طيلة عمره !!
مااسمك ايها الرجل الواقف في الظل ؟ اني اتحدث اليك وليس الى نفسي!
انا جئت لقرية النبهان قبل 9 اعوام , بنيت لنفسي بيتا طينيا صغيرا على طرف القرية , جئت غريبا ولم يكن انذاك اسمي الحاج حسان او الشيخ حسان ,بل كنت ” حساني ” .عملت معهم , زرعت , رعيت اغنامهم ,حزنت و فرحت معهم , انصهرت تماما مع النبهانيين فاصبحت بعد 9 اعوام الحاج او الشيخ حسان , احد وجهاء القرية . ثم تزوجت منهم .
لماذا لا تتكلم ؟ الم اسل منك اسمك ؟ عموما ساسميك الظل الاخرس,لانك في الظل ولانك اخرس ايضا , حتى لاتبقى من دون اسم .يوم كنت اعمل نفس عملك كنا نبتدع لانفسنا الاسماء.
لا اعرف اين انا الان ؟ هل يمكنك مساعدتي ؟خرجت منذ الفجر من القرية قاصدا شجرة السدر , الا تعرف شجرة السدر الشهيرة ؟ تلك التي تعالج المرضى ؟يقولون ان كل مريض شفي ببركة السدرة رجع ليعلق عليها قطعة قماش ملونة . و بعد كل هذه السنين اصبحت شجرة السدر كغيمة ملونة نازلة على الارض.
اين انا الان ؟ المكان مظلم جدا , و رائحة الخل تكاد تقتلني , أأنا في مخزن للخل ؟ يداي مقيدتان و احتاج ان اتغوط , وكذلك عطشان واريد ماء . كم اكره الاماكن المظلمة , و كم اكره رائحة الخل التي ما تبرحني منذ 9 اعوام . المرة الاخيرة التي كنت في مكان مثل هذا , لم تكن يداي مقيدة , بل كانت في يدي بندقية و سكينة في حزامي العريض الرمادي اللون .
ياالهى ..انه نفس الكابوس و نفس الرائحة و نفس الاحساس . هذا المكان يشبه الكابوس الذي يداهمني دائما بمجرد ان تتعانق جفوني . أأنا نائم ؟ ربما ساستيقض بعد قليل حينما تأتي الام وبنتها .
انا اهذي مرة اخرى ..اتكلم دون وعي .انا خائف و اشعر بالبرد يقص عظامي .
قبل 9 اعوام كنت في عصابة قاطعي طريق , الف حول رأسي عقالا احمر و اغطي وجهي بقناع اسود و بيدي بندقيةانكليزية قديمة و في حزامي سكينة بنصل مصقول .مع مجموعة من امثالي المشردين , اتذكر اننا كنا نسينا صور اباءنا وامهاتنا و لم نعد نتذكر عن مدننا وقرانا شيئ , حتى اسماءنا كنا ابتدعناها لانفسنا مستغنين عن اسماءنا الممنوحة لنا يوم الولادة. و ذات ليلة مقمرة سطونا على بيت في قرية ماعرف اهله بمهارتهم في صناعة المخللات, ضربنا الاب حتى سقط مغميا عليه ..او ميتا لا اعرف و اخذنا منهم ما عندهم ,. و كانتا زوجته و ابنته اليافعة تقفان جانبا بعيدا عنا”. و البنت كانت حشرت نفسها مرتجفة بين سيقان الام. مشهد التصاق البنت بالام , بوجهها المستدير الابيض والعيون السود, اثارني .. اثارني حد الغليان وانا الذي لم ار سوى التصاق الحمير التائهة في الجبال ببعضها ؟تفرست في تلك العيون السود و القامة الطويلة و السحنة البيضاء الناعمة . و قررت ان افعل فعلا آدميا ولو لمرة واحد, هكذا قال لي ضميري . فسحلت المرأة و ابنتها نحو غرفة , فتحت الغرفة فلفحتني رائحة الخل , اجتاحت عيوني وانفي وفمي واذني في لحظة واحدة . صعقت تماما من حدتها و لكن لم اتراجع , عرفت اننا في مخزن للمخللات , اسقطت الام على الارض . مزقت ثوبها بحركة واحدة , و حين لاح لي الشحم الابيض كبدر مستتر خلف غيوم سوداء , شعرت برائحة الخل تستقر اكثر في رأسي . كانت ترفس كالعجل المذبوح , تبكي وتصرخ وتستنجد بصوت عال . مسكتها بقوة ذئب جائع , هذا الطريق لا رجعة منه ابدا . التصق جسمي بافخاذها الممتلئة. كانت انعم من الماء , انعم من القطن , شعرت باني اقف على اول درجة من سلم الانسانية بالتصاقي بانسان بدل حمار . رائحة الخل بدأت تسري من رأسي الى جوفي وتسبح في شراييني , تصب الى نقطة عميقة في بدني لم استطع تمييزها .
كنت نائما على المرأة ,مسيطرا عليها تمام السيطرة , هجمت علي الفتاة من الخلف , و نبتت اضافرها في وجهي , و عضت باسنانها الارنبية فروة رأسي من الخلف . قذفتها كقطة صغيرة فسقطت على احدى قرب الخل , و انكسرت القربة وكانت الفتاة تموء , تدفق الخل اكثر , كنت محاصرا بامواج الخل الهادرة من الخارج ومن جوفي . زوبعة الخل تلك اغرقتني فاغمضت عيوني , غارت في الرائحة وتملكتني و صرت تحت سيطرتها.
فتحت باب المخزن سكرانا , في حلكة الليل كانت عيوني حمراء كقطعة من كبد . شعرت بنشوة غريبة . صوت بكاء المرأة و بنتها كانت ترن في اذني ولم استطع ان اميز هل انا اسمعها بالفعل ام انها ما تبقى من الاصوات الممزوجة برائحة الخل .
وقفت مع رفاقي اعلى التلة , لمحت ضوء المخزن المشتعل . اشعلت سيكارة و كنت اشعر باحساس غريب يغمرني . هل هو الفرح ؟ ام الفخر . ام الندم ؟ ام النشوة ؟ عموما كان احساسا غريبا له وجه من كل هذه الاحاسيس . نظرت الى فوهة بندقيتي , اخرجت سكيني . و حفرت على المقبض الخشبي الامامي خطين متقاطعين . ولا تسألني لماذا خطين متقاطعين ؟؟ كنت اريد ان اترك اثرا يذكرني بهذه الليلة الليلاء دائما .
عذرا .. يبدو اني تكلمت كثيرا .. من انت ؟ لماذا لم تتكلم؟ لم استطع ان ارى وجهك ايها الظل الاخرس . هل لديك سيكارة ؟ او كوب ماء ؟ هنا ايضا تنبعث رائحة خل , فهل هذه الرائحة المنبعثة مني ام هذا مخزن للخل ؟
عموما,ساكمل حتى لو امتنعت عن الكلام .. بعد هذه الليلة لم تفارقني رائحة الخل , كنت اتعرق فتفوح من ابطي و صدري , اتكلم فتنبعث من فمي رائحة خل حادة . تصور اني كنت اذهب للنهر مرات عديدة في اليوم , اغطس كل جسمي في الماء . اخرج وماتلبث ان تعود تلك الرائحة . استعنت بعطر المسك و الاعشاب المعطرة . ولكنها كانت لاتفارقني . اصبحت منقوعا بالخل !
طردوني من العصابة لانهم لم يتحملوا رائحتي ولقبوني ” المخلل ” , فقررت ان اذهب لابعد قرية و ابدأ حياة جديدة ,بعيدا عن الرائحة .
اهل القرية طيبون , ساعدوني في بناء بيت طيني , واشتغلت معهم , وبعد فترة كنت واحدا منهم و كانت الرائحة تنمحي شيئا فشيئا حتى صارت غير محسوسة . تزوجت فتاة منهم . في ليلة عرسي و بعد ان رقصنا و اكلنا وغنينا وضحكنا . وبعد ان فضضت بكارة زوجتي و هلهلت النساء . اردت ان انام محتضنا حياتي الجديدة .. نمت متخما بالسعادة .
فداهمني الكابوس ..
ذات المخزن .. ذات المرأة .. ذات الفتاة .. ذات الرائحة .. ,قبل تسعة اعوام ,كانت عيون المرأة السوداء بنفس الجذابية تسحبني لنفسها . انقضضت على المرأة , و الفتاة بكت , حشرت قضيبي في جوف المرأة . فتحولت عيونها السوداء الآسرة الى سائل اسود برائحة خل , راح الخل يجري من انفها وفمها و اذنيها , قززني المشهد فنهضت , فتدفق الخل الاسود من فرجها , تقيأت, فتقيأت خلا اسود . هربت , ركضت صارخا من دون وعي ,صرخت حتى شعرت بغليان السائل الاسود اللزج في حنجرتي . فتحت عيوني فوجدت عروستي تنظر لي فاغرة فاها. كانت رائحة الخل تحتل غرفة عرسي . لقد عادت الرائحة .و الكابوس لم يتركني ولو ليلة واحدة بعد ليلة عرسي. نفس المشهد , نفس الرغبة , نفس الاصوات , فكرهت النوم , قررت الا انام , ولا اسمح لهذا الكابوس ان يسلب مني سعادتي . فتركت النوم , كنت اعمل في النهار و كلما اصابني النعاس ,اذهب الى النهر و اسقط نفسي في الماء البارد فيطير النوم . و كذلك في الليل اشعل نارا و ادخن بشراهة ولا انام و عند الفجر اكون غاطسا في النهر .
قالوا اني ممسوس وان جنا قد تلبسني . و اشاروا ان اذهب لشجرة السدر , فهي تشفي الممسوسين و العاقرين و المجانين و المسلولين . ركبت بغلتي قاصدا السدرة المقدسة , فانا اريد ان انام و ساطلب هذا الطلب من السدرة . كنت في منتصف الطريق فاوقفتموني انتم , قلت لكم ليس معي شيئ . اذا اردتم البغلة فخذوها . و اتركوني . لماذا جلبتموني الى هذه الغرفة المظلمة الرطبة ذات الرائحة الكريهة ؟
انا معك ايها الظل الاخرس ؟ اجبني فانا اكلمك . تبا لك يا حيوان .
ماذا تفعل ؟؟ اهذه بندقية ؟ انزلها عن وجهي يا كلب , من هو مثلي لاترفع البنادق بوجه فانا قضيت نصف عمري ارفع البنادق بوجه الناس . انزلها يا احمق.انزلها ايها الظل الاخرس …
انا الظل الاخرس , هكذا لقبني الحاج حسان.. و انا احد افراد العصابة التي جئنا بهذا الرجل الى هذه الغرفة التي نأتي بها دائما التائهين الذين نلتقطهم من الطرق الوعرة و نسرقهم و نقتلهم بعد ذلك . كنت اقف في العتمة استمع الى مايقول الرجل , تلمست في العتمة القبضة الخشبية الامامية لبندقيتي و مررت اصابعي على الخطين المتقاطعين المحفورين عليها . بدون شك انها نفس البندقية . تنبعث من هذا الرجل رائحة خل عجيبة .تثير الغثيان عندي . رفعت بندقيتي ( بندقيته قبل ان تصبح لي) بوجه , فذعر وصرخ :
-ماذا تفعل ؟؟ اهذه بندقية ؟ انزلها عن وجهي يا كلب , من هو مثلي لاترفع البنادق بوجه فانا قضيت نصف عمري ارفع البنادق بوجه الناس . انزلها يا احمق.انزلها ايها الظل الاخرس …
ثم اكمل
مهلا ..مهلا .. هل تستطيع بندقيتك ان تجعلني انام ؟ كل ما اريده ان لا ارى كابوسا . اريد ان انام بهدوء للحظات . بلا كابوس , بلا صراخ , بلا خل.
حين التصقت فوهة البندقية بجبينه , تدفقت رائحة الخل مثل بركان غاضب قاذفا الحمم من قلب الارض . و كنت اشعر ان رائحة الخل تتملكني و هي من حركت اصبعي لاضغط على الزناد على الرغم مني.
سقط الرجل بجسمه الثقيل الممتلئ و ارتجفت الجدران من هول سقوطة المدوي, خرجت من الغرفة( بالاحرى هربت!!) , حين وقفت في الباب , استطعت ان ارى في ضوء خيوط النور المتسللة الى الغرفة عبر فتحة الباب ان عيونه وفمه واذنه و حنجرته يتدفقن بسائل اسود قاتم . رائحة الخل كثرت واصبحث زوبعة و صفقت الباب . ركضت صوب النهر و قفزت فيه , خوفا من ان تحويني رائحة الخل تلك , واصبح انا الاخر منقوعا بالخل.
ربما لاتصدقونني ؟ ولكني رجعت في الظهيرة الى الغرفة , فلم اجد جثة الحاج حسان , ولكني وجدت خيط من سائل اسود زحف صوب الوادي. و اقسم لكم ..اني اسمع من الوادي صيحات غير واضحة المصدر تقول : اريد ان انام …اريد ان انام . و مع الصرخة هذه تنبعث من ذلك الوادي رائحة خل غريبة تنفر منها كل الطيور والعصافير .
اه .. اسمعوا ..انه الصوت نفسه, انه يصرخ الان , انصتوا .. انصتوا .. هل سمعتموه ؟
—