السلام عليكم والحمد لله رب العالمين الذين علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، اما بعد، هذه نظرة موجزة متواضعة في كتاب “ناقد الحجاز” للكاتب والمؤلف القدير عبد العزيز عتيق، أعددتها علها تفيد طالب العلم والباحث عن الفائدة، وأرجو ان تنال رضى من يرنو إليها…
النقد في العصر الجاهلي:
يمثل العصر الجاهلي نشأة النقد العربي، ففيه ظهرت المحاولات الأولى لنقد الشعر وإبداء الرأي فيه بالرغم من أنه كان مبنياً على الذوق الفطري، فكانت ملاحظاتهم وليدة فطرتهم التي تنفعل وتتأثر بما تسمع من قول، فتصدر الحكم للشعر أو عليه دون تعليل. فالناقد إذا استساغ قصيدة أو جزءاً منها أو حتى بيتاً أو نصَ بيتٍ اندفع إلى تعميم الحكم على الباقي، فيجعل من الشاعر أشعر العرب.
تحرك النقد الجاهلي في ميدانين: الأول منهما ميدان الحكم على الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض، وفيه اتجهوا إلى الألفاظ والمعاني وبناء الصور الشعرية، وأما الثاني فهو تَلقيب بعض القصائد الجيدة وتفضيل الشعراء على غيرهم، وفي كلا الميدانين فإن الناقد يصغي ويحكم غير معلّل للحكم، بل متأثراً بذوقه الفطري.
كان الشعرُ الجاهلي إحساساً أكثر منه عقلاً، فالعربي مرهف الحس بطبعه، ويعبر عن كل ما يشعر به، وكذلك كان النقد، فلم يتجاوز نقاد العصر الجاهلي إلى الناحية العليمة التحليلية.
وقد ذكر عبد العزيز عتيق في كتابه “تاريخ النقد الأدبي عند العرب” عدة صور للنقد في الجاهلية، وهي على النحو التالي:
1. تناول اللفظ أو الصياغة، فيأخذ الناقد عدم تمكن الشاعر من دلالات الألفاظ، ومثل ذلك ما أخذه طرفة على المسيب بن علس حين أعطى صفة الناقة “الصيعريّة” للجمل فقال: “استنوق الجمل”:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضاره بناجٍ عليه الصيعريّة مكدَمِ
2. تناول المعنى، كقول الأعشى حين أخطأ في مدح الحاكم واعتبر عدم اختباره من المدائح مع أنها تضعف الحكم:
ونُبِّئتُ قيساً ولـم أبْلُـهُ كما زعموا خيـرُ أهلِ اليمنْ
فجئتُكَ مُرتـادَ ما خَبَّروا ولولا الذي خَبَّروا لـم تَرَنْ
3. تناول الصورة الشعرية من حيث قدرة الشاعر على أدائها أو عدم قدرته، ومن ذلك احتكام علقمة وامرئ القيس إلى زوجه أم جندب في أيهما الأشعَر:
“…احتكم مع امرئ القيس إلى زوجته أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعراً تصفانِ فيه الخيلَ على رويٍّ واحدٍ وقافيةٍ واحدة، فقال:
خليليَّ: مُرّا بي على أم جُندَبِ لنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذَّبِ
وقال علقمة:
ذهبتِ من الهجرانِ في كلّ!ِ مذهبِ ولم يكُ حقاً كلُّ هذا التجنّبِ
ثم أنشداها جميعاً، فقالت لامرئ القيس: علقمةُ أشعرُ منك.
قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:
فَللسوطِ أُلهوبٌ ولِلساقِ دِرَّةٌ زلِلزَجرِ منه وقعُ أهوَجَ مِنْعَبِ
فجهِدتَ فرسكَ بسوطكَ ومَرَيتَهُ بِساقكَ. وقال علقمة:
فأدرَكَهُـنَّ ثـانياً من عِنانه يَمُـرُّ كَمَـرِّ الرائحِ الـمُتَحَلّبِ
فأدرك طريدته وهو ثانٍ من عِنان فرسه، لم يضربه بسوط، ولا مراه بساق ولا زجره. قال: ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامقة، فطلّقها، فخلف عليها علقمة فسُمّي بذلك الفَحل”
4. التطرّق إلى الغلوّ في المبالغة وعَدّها من عيوب الشعر، فقد عابت العرب على مهلهل الغلوّ في القول بادّعاء ما هو ممتنع عقلاً وعادةً، واعتبروه أول من سنّ هذه السنّة في الشعر، كقوله:
كأنّا غدوةً وبنـي أبينـا.. بـجنب عُنيزَةٍ رَحَيَا مُديـرِ
فلولا الريحُ أُسمِعَ من بحجْرٍ صليلُ البيضِ تُقرَعُ بالذكورِ
فقد كانت النظرة الجاهلية إلى المبالغة على أنها مما يفسد المعنى وينافي الصدق، وفي ذلك التفات مبكر ولو جزئي إلى عنصر الصدق في الشعر واتخاذه أصلاً من أصول النقد.
5. ومن صور النقد في العصر الجاهلي كذلك الحكم على عمل الشاعر بشكل عام، ومن ذلك “ما رويَ أن بعض شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب، وكان بينهم الزِّبْرِقانث بنُ بدر المُخبَّل السعديّ وعَبَدةُ بن الطبيب وعمرو بن الأهتَم وتَذاكروا في الشعر والشعراء، وادّعى كلّ منهم أسبقيته في الشعر، فقال المحكَّم ربيعةُ بن حِذار الأسدي: أما عمرو فششعره برودٌ يمانية تُطوى وُنشَر، وأما الزِّبْرِقان فكأنه أتى جزوراً قد نُحِرَت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، وأم المخبَّلفشعره شُهُبٌ من الله يُلقيها على من يشاء من عباده وأما عَبَدةُ فشعر كمزادة أحكم خرزُها فليسَ يَقطُرُ منها شيء”.
6. الحكم على بعض القصائد بأنها بالغةٌ منزلة عليا في الجودة بالقياس إلى غيرها، فقد كانوا يتخيرون قصائد بأعيانها، ويخلعون عليها ألقاباً تُجمِل رأيَ الناقد أو الحَكَم فيها. ومن هذا النوع روى أبو عمر الشيباني أنّ عمرو بن الحارث الغساني أنشده علقمةُ بن عَبَدَة قصيدته:
طَحَابِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَروبُ بُعَيْدَ الشَّبابِ عَصرَ حَانَ مَشيبُ
وأنشدهُ النابغة:
كِلينـي لِهَمِّ يا أميمـةَ نَاصبِ وَلَيلٍ أقاسيهِ بَطـيءَ الكَواكِبِ
وأنشدهُ حسّان قصيدتهُ:
أَسألتَ رسمَ الدارِ أم لَم تَسألِ بَين الجَوابِي فالبُضَيعِ فَـحَومَلِ
ففضلَ حساناً عليهما ودها قصيدته “البَتّارة” لأنّها بترت غيرها من القصائد.
7. كان لقريش دور في رقيّ النقد، وهذا من خلال بسط لغتها على القبائل الأخرى ووقوفها موقف الناقد المتخيّر في اختيارها أحسن الألفاظ والأساليب عند كل قبيلة، وتبعاً لذلك كان الشعراء ينظمون بلغتها، فما قبلوه كان مقبولاً ما رفضوه كان مرفوضاً.
النقد في صدر الإسلام
أولاً: النقد في عصر الرسول:
كانت الحياة الأدبية في عصر الرسول ضيقة النطاق؛ فانحصرت تقريباً في الهجاء والمدح والمفاخرات، وتبعاً لذلك فقد ضاق نطاق النقد أيضاً، لكنه اختلف عن العصر الجاهلي في كونه سار وفق معايير أخلاقية جديدة بحلية إسلامية، وأول من سار في هذا النهج كان الرسول – عليه الصلاة والسلام- حين يدور الحديث في مجلسه، فقد أعجب بالشعر إعجاب أصحاب الذوق السليم، وقد أثر عنه لكمات تعبّر عن مفهومه للشعر، فيقول: “الشعرُ كلام من كلام العرب، جزلٌ تتكلم به في بواديها، وتَسُلّ به الضغائن من بينها”، وقوله: “إنما الشعرُ كلام مؤلفٌ، فما وافق الحقّ منه فهو حسن، وما لم يوافق الحقّ منه فلا خير فيه”، وقوله: إنما الشعر كلامٌ، فمن الكلامِ خبيثٌ وطيّب”. فقد دعا عليه اللام إلى العدول بالشعر عن طريقه الجاهلي وصبغه بالصبغة الإسلامية، فالشعر عنده كلام من جنس كلام العرب يتميز بالنظم، وتمتاز لغته وألفاظه بالجزالة وقوّة الأسر، وميزان الشعر عنده يتمثل في مدى مطابقته للحق، فالحسن ما وافقه والسيء ما لم يوافقه.
لقد فترت بواعث الشعر في تلك الفترة، خاصة عند من اهتدوا إلى الإسلام، وزاد في ذاك الفتور اشتراك بعضهم في الجهاد، فقد خلقهم الإسلام خلقاً جديداً، وصبغهم صبغة جديدة حتى انقطعت الصلة بينهم وبين الجاهلية. وقد صرف القرآن الكريم كذلك الشعراء عن الشعر، خاصة عندما بهرهم بروعة أساليبه وبلاغته، فآثروه على الشعر، وعَدَلوا عنه الخطابة للحاجة إليها في استنهاض الهمم لنصرة الإسلام، وتحريك النفوس والخواطر للجهاد.
لقد سار نقد الشعر في هذا العصر في ميدانين؛ الأول منهما بين الشعراء المسلمين وشعراء المشركين وفيه حكمَ القوم حتى الخصوم للمسلمين على المشركين. والثاني يتمثل فيما كان بين حسان بن ثابت وسائر شعراء المسلمين، فقد دان القوم بالتفوق لحسان لما كان له من قوة الشاعرية، وقد فضله الرسول على غيره، فانتدبه ليدافع عن أعراض المسلمين وبنى له منبراً في المسجد ينشد عليه أشعاره، وذلك لأنه أول وأفضل من وافق الرسول عليه الصلاة والسلام في موقفه من الشعر، وهو الذي يقول:
وإنّما الشِّعرُ لـُبَُ المَرءِ يَعرِضُهُ على المَجالِسِ إنْ كَيْساً وإن حَـمَقَا
وإنَّ أشعـَرَ بَيـتٍ أنتَ قائِلـُهُ بَيتٌ يُقَالُ –إذا أنشَدتَهُ- صَدَقَـا
ثانياً: النقد في عصر الخلفاء الراشدين:
لم تكن العوامل في عصر الخلفاء الراشدين مشجعة للشعر ليتطور وينهض، فما خلفته الفتوح الإسلامية والمغاي لا يعدو ان يكون نماذج مشاكلة للنموذج الجاهلي، ولكن قد نلتقي أحياناً ببعض الألفاظ الإسلامية، وبعض الأساليب التي تنحو منحى الأساليب القرآنية، وأحياناً نلتقي ببعض المقطوعات والقصائد التي تعالج موضوعات لم يطرقها الجاهليون من قبل كالموضوعات الدينية، من جهاد وقتال وحث للنفس على الخلق القويم.
أكثر ما يُلتمس في الحركة النقدية في عصر الخلفاء الراشدين مواقفهم من الشعر والشعراء، وآرائهم فيهم، والملاحظات النقدية الصادرة من بعض معاصريهم من صحابة وغيرهم كذلك، فلم يقتصر اهتمامهم على النقد وحده، بل شمل اللغة العربية عامة، والغيرة على صحتها وسلامتها من اللحن وخاصة فيما يخص القرآن الكريم. فالعرب عند ظهور الإسلام كانوا يعربون كلامهم على نحو ما في القرآن الكريم، إلا من خالطهم من الموالي فقد كانوا يلحنون ويخطئون في الإعراب، فكانوا يحرصون على تعليمهم.
سار الخلفاء الراشدون على نهج الرسول وسيرته في نقد الشعر، فميّزوا بين شعرٍ وآخر، وحضّوا على ما هو حسن ومفيد، وعاقبوا على الشائن الضار، وتمثّلوا بالشعر في أقوالهم ودعوا إلى روايته والاهتمام به، وكان أولهم في هذا الميدان عمر بن الخطاب رضي الله عنهن وهو الناقد الأول بحق في هذه الفترة، وقد قيل عنه: “كان من أنقدِ أهلِ زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة”، وقد كان ذا ثقافة أدبية عالية، ينشد الشعر في كل الموضوعات، يستمع ليه ويستروح به، ويقوم بتوجيه النقد وتطويره، فالشعر لديه هو الذي يحقق المتعة الأدبية، ويسكن به الغيظ، وتُطفأ به الثائرة، ويُعطى به السائل، ويَنزع إلى الفضائل بصفة عامة، وما يهدف إلى عكس ذلك فهو انتكاسة وردّةٌ إلى الجاهلية يأباها الإسلام ويقاومها.
ومن أقوال عمر المألوفة في هذا الموضوع قوله: “نِعْمَ ما تعلمتْه العربُ الأبياتُ من الشعر يقدّمها الرجل أمام حاجته”، وقوله: “خيرُ صناعات العرب أبياتٌ يُقدّمها الرجل بين يدي حاجته يستميلُ بها الكريم ويستعطف اللئيم”. والشعرُ الخالد هو ما ينبعث من عاطفة قوية صادقة، ويخدم الحق والخير، وهذا الشعر عنده ممثل في شعر زهير بن أبي سلمى، فقد فضله على غيره من الشعراء بسبب جودته وإتقانه، ودعوته إلى السلام والخير، وإلى جانب زهير كاد النابغة الذبياني قد حظي بجزء من التفضيل، وإن كان الإعجاب بزهير أشد وأعظم.
دخل النقد على يد عمر طوراً جديداً لا عهد لنا به في العصر الجاهلي، فكان حكمه ادبياً مفصلاً يقضي فيه الناقد بتفضيل شاعر على آخر معللاً حكمه بالأسباب الفنية التي دعته إلى هذا، وقد اهتم عمر رضي الله عنه بالكلام البعيد عن الوحشية والغرابة، والبعد عن المعاظلة، والصور الشعرية القريبة، والعبارات الدالة على صدق التجربة، والتعبير عن القيم السليمة في المجتمع، وأن لا يقول الشاعر إلا ما يعرف، وألا يمدح الرجل إلا بما فيه، وبالتالي يعنيه “الصدق” كأصل مهم من أصول النقد.
أما بالنسبة للخلفاء الراشدين الآخرين، فقد عُرف بعضهم بالاحكام النقدية وتفضيل شاعر على آخر، ومنهم أبو بكر –رضي الله عنه- الذي قدّم النابغة على غيره من الشعراء فقال إنه أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً، ويعلل حكمه بأن النابغة يستقي معانيه من معين عذب سائغ، فتتقبلها النفوس تقبّلاً حسناً، كما أنه في معانيه بعيد العمق والغَور، وأنه يظل يُرَوّي فيما يغمض منها حتى يستخرجها استخراجاً واضحاً.
وعثمان بن عفان –رضي الله عنه- كذلك يعجب بشعر زهير لِما يتجلى فيه من الصدق، والصدق في القول هو المقياس الذي اعتمده عثمان بن عفان –رضي الله عنه- في حكمه، ويظهر في هذا جليّاً تأثره كسائر أصحابه برأي الرسول – صلى الله عليه وسلم- المستمد من تعاليم الإسلام، والذي حاولوا بمقتضاه أن يتجهوا بالشعر اتجاهاً إسلامياً، بحيث يعبر عن كل ما هو حق وصدق.
نجد كذلك للإمام علي –رضي الله عنه- كلمة نقدية تدلّ على ذوقه الأدبي، وتعبّر عن رأيه في السابق من الشعراء المتقدمين، فقد حُكي عنه أنه قال: “لو أن الشعراء المتقدمين ضمّهم زمان واحد ونُصبت لهم رايةٌ فَجَروا معاً عَلِمنا مَن السابق منهم، وإذا لم يكن فالذي لم يَقُل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي. قيل: ولِمَ؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرةً، وأسبَقهم بادرةً”.
ويروى كذلك أن الإمام علي – رضي الله عنه- فضل امرئ القيس، وللعلة الأولى في تفضيله الكندي، ومن هذا نلاحظ أن الغمام علي رضوان الله عليه لم يجرِ مجرى النقاد في عصره بالحكم غير المعلل، بل إن أساس الحكم عنده الموازنة بين الشعراء لمعرفة السابق منهم، والأفضل هو الذي لم يقل الشعر لرغبة أو لرهبة كامرئ القيس والكندي.
ويقصد الإمام علي –رضي الله عنه- بذلك أن الشاعر الذي ينبعث إلى القول بدافع الرغبة أو الرهبة قد ينزلق إلى الكذب تحقيقاً لرغبته أيّا كانت، أو دَرْءاً لخطر متوقع يرهبهُ ويخشاه، وبالتالي فإن الشاعر المُقدّم عنده هو الذي تجرّد عن الهوى والخوف وكان شعره وليد المشاعر الصادقة، وهنا يظهر ملياً تأثر الإمام علي بالرسول عليه الصلاة والسلام.
إذن جارى بعض الخلفاء الراشدين عمرَ في تطوير الأحكام النقدية ولكنهم لم يتوسعوا فيها، وبالنسبة للشعراء في هذا العصر والمثقفين فقد اقتصر نشاطهم على أحكام نقدية مجملة، فجهود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعض ما قام به الخلفاء الراشدون الآخرون، وتوجيهات ابن عباس للشعر وجهة إسلامية، كلها جعلت هذ العصر يختلف عن الشعر في العصر الجاهلي وعصر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: النقد في العصر الأموي: (عصر ابن أبي عتيق)
عاش ابن أبي عتيق في العصر الأموي، وقضى معظم حياته في الحجاز، وكانت رياح التغيير قد هبت على الحجاز، فانتقلت الخلافة إلى الشام والمعارضة إلى العراق، وشاع الفن والغناء، وانتشرت حياة البذخ والترف، كما ظهرت في مكة والمدينة مدرستان للقرآن والحديث والفقه والتشريع والأدب والتاريخ، وكل هذا أتاح للحجاز بأن تنتقل من البداوة إلى الحضارة، وقد عرف هذا العصر الغزل الإباحي والذي كان عمر بن أبي ربيعة زعيمه وتبعه الكثير من الشعراء فيه، وعرف كذلك الغزل العذري الذي عُرف به أهل البادية الحجازية أمثال جميل بن مَعمَر، وعُروة بن حزام.
عاصر ابن أبي عتيق معظم أحداث هذا العصر وشهد الكثير مما طرأ على بيئة الحجاز من تقلبات سياسية، وتطورات اجتماعية، وحركات علمية وأدبية، وشارك في بعضها، فمن الناحية السياسية كان زبيريّ الهوى، ومن الناحية الاجتماعية فقد شهد كل العوامل التي أتيحت للحجاز وأخذت تتفاعل فيه وتعمل مجتمعة على رقيّه ونهضته، كما شهد تأثيرَ الإسلام الذي بدأ يؤثر في نفوس الحجازيين وعقولهم وأخلاقهم، وشهد مغانم الفتوح التي أصابها أهل الحجاز، وشهد كذلك ازدهار الغناء العربي، بل كان يغنّي أحياناً، ويشجّع عليه، ويكرم أهله، ويرعى ذوي المواهب فيه، وشهد كذلك حركة علمية جادة تُعنى بالقرآن والحديث والفقه والتشريع، وأخرى أدبية فنية تهتم بالجديد في شعر الغزل، وتشجع عليه إنتاجاً ونقداً.
لقد نهض الشعر الحجازي وتطور في العصر الأموي، وغلب عليه الغزل الحضري الذي أخذ بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على بيئته ومجتمعه ينزع عن نفسه رداء البداوة شيئاً فشيئاً، ويدخل في رداء الحضارة شيئاً فشيئاً، وقد ظهرت نتيجة لهذه النهضة الشعرية نهضة نقدية تجاريها في روحها، فالنقد الأدبي في هذا العصر قد سهم فيه رجال ونساء والشعراء وغير الشعراء، كلٌّ منهم على قدر ذوقه ونوع ثقافته، ولعل هذا الاهتمام مردّه الاهتمام بالشعر ذاته، وقد بدأ النقد الأدبي يشق الطريق الصحيح، ولا يعدو ما سبقه على أن يكون نواة أو محاولات للريادة والكشف فياتجاه طريق النقد القديم.
تمثّل النقد في بيئة الحجاز في العصر الأموي بصور عدّة، تختلف من طبقة لأخرى، ومن شاعر لآخر، تبعاً لعوامل الثقافة والمعرفة والمكانة، وغيرها من العوامل وهي على النحو التالي:
1. نقد الشعراء:
هي أول صور النقد الموجود في الحجاز، يشبه إلى حدّ كبير ذاك النقد الذي كان موجوداً في الجاهلية وصدر الإسلام، وتتمثل في نقد الشعراء بعضهم بعضاً، سواء أكان هؤلاء الشعراء حجازيين أو غير حجازيين، وكان أوفى الشعراء نصيباً في ذلك عمر بن أبي ربيعة، وقد نالَ رأي أربعةٍ من معاصريه في صورة أحكام غير معللة؛ فيقول عن نُصَيب بن رَباح إنه أبرعهم في وصف النساء، ويقول جميل بن مَعمَر إنه أحسنهم في مخاطبة النساء والحديث إليهن. أما جرير فقد حكم له بأحكام غير معللة أكثر مرة، وأبرزها أنه أنسب الناس، وأنه وجد ما ضل عنه غيره، وكان للفرزدق فيه قول كهذا.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا النوع من النقد “أن سمع الفرزدق عمر بن أبي ربيعة ينشد قوله:
جَـر نـاصِحٌ بالوُدِّ بيني وبينها فَقَرَّ بَنـي يـومَ الحِصاب إلى قَتلي
ولمّا بلغَ قوله:
فَقُمْنَ وقد أفهَمنَ ذا الُّلبِّ أَنّما أتَيْنَ الذي يأتينَ من ذاك من أجلي
صاح الفرزدق: هذا والله الذي أرادته الشعراء، فأخطأته وبكت على الديار”.
بالعودة إلى الاحكام من الشعراء الأربعة نجدها غير معللة بسبب، تحتكم إلى الذوق، وتشبه إلى حدّ كبير ذاك النقد الذي رأيناه في العصرين الجاهلي وصدر الإسلام، وقد كثر هذا النوع بين الشعراء، فما يكاد يسمع شاعرٌ شاعراً آخر ينشد حتى يبدي رأيه فيما سمع دونَ تفكير وبحث، بل بالاعتماد على الذوق والفطرة.
2. المفاضلات بين الشعراء:
كانت المفاضلات وموازنات صورة من صور النقد الذي شهده عصر ابن أبي عتيق، ومعظمها مفاضلات مأثورة عن نقاد الجاهلية وصدر الإسلام، وهي مفاضلات عامة غير معللة،
ومن هذه المفاضلات ما هو عام، تكون فيه المفاضلة بين شاعر وآخر بشكل عام، ومن ذلك سأل رجل نُصيباً: أَجَميلٌ أنسبُ أم كُثَيِّر؟ فقال: أنا سألت كُثيّراً عن ذلك فقال: وهل وَطَّأ لنا النسيب إلا جميل؟! فكانوا يفضلون شاعراً على غيره من الشعراء في غرض معين أو عدة أغراض وربما في كل شيء.
أما النوع الثاني من المفاضلات ما كان جزئياً، كالمفاضلة بين شاعر وآخر في قصيدة أو قصائد معينة، ومن ذلك المفاضلة بين عمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر، فكان عمر يعارض جميلا في قصائده، فيفاضلون بينهما، فقالوا إن عمراً أشعر من جميلٍ في ارائية والعينية، وجميلا أشعر من عمر في اللامية، وكلاهما قال بيتاً نادراً ظريفاً، فقال جميل:
خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي؟
وقال عمر:
فقالت وأرخت جانب السِّترِ: إنّما
معي فتكلّم غير ذي رِقبةٍ أهلي
ومع هذه المفاضلات المعتمدة على الذوق نجد نفحات بسيطة من التطوير، فبعض النقاد يتجهون إلى تطوير المفاضلات، وذلك بالالتفات إلى جوانب أخرى في الشعر حين الحكم عليه، ومن ذلك حكم نوفل بن مُساحق على عمر بن أبي ربيعة وعبيد الله بن قيس الرقيّات، فكان عمر – في حكمه- أشهر بالقول في الغزل، وابن قيس أكثر أفانينَ الشعر، ومعنى هذا أن نقاد الحجاز في العصر الأموي أخذوا ينظرون في المفاضلات والموازنات الشعرية إلى تنوّع القول في الأغراض الشعرية كإحدى المزايا التي تحسب للشاعر في ميزان النقد عند التفضيل، وكذلك تطرقوا إلى الصدق الشعري في المعنى والعاطفة، أو إلى الشعر الذي يوحيه العقل والمنطق والشعر الذي يوحيه القلب والعاطفة وتفضيل الثاني على الأول، ومن ذلك:
” أنشد كُثيّر ابنَ أبي عتيق كلمتهُ التي يقول فيها:
ولستُ بِراضٍ من خليلِ بنائلٍ قـليلٍ ولا أرضـى له بقليلِ
فقال له: هذا كلامُ مكافئٍ ليسَ بعاشق! القرشيان أصدق منك؛ ابنُ ربيعة حيث يقول:
ليتَ حظّي كَلحظة العينِ منها وكثيـرٌ منهـا القليل الـمُهَنّا
وقوله:
فَعِدي نائلاً وإنْ لـم تُنيلي إنـه يُقنِعُ الـمحبَّ الرجـاءُ
وان قيس الرقيات حيث يقول:
رُقَـيَّ بِعَيشكم لا تَهـجُرينا ومَنّينا الـمُنـى ثـمّ امـطُلينا
عِدينا فـي غدٍ ما شئتِ إنّا نُحبّ- وإن مطلتِ – الواعدينا
فـإمّا تُنجزي عِدَتـي وإمَّا نعيشُ بِـما نـؤمَّلُ مِنكِ حِينا”
3. صور أخرى من النقد:
تتمثل هذه الصور في مآخذ بعض النقاد والادباء على الشعراء، أو مآخذ الشعراء على بعضهم بعضاً، وقد لَمَستْ هذه المآخذ جوانب مختلفة من الشعر، جوانب تكشف عن اختلاف ذوق النقاد وهواهم، كما تدل على اتساع مجال النقد وتطوره، وأكثر من حظي بهذه المآخذ هو عمر ابن أبي ربيعة، فمن النقاد مَن عاب عليه أسلوبه الإباحي، ومنهم عبدُ الله بن الزبير وأبو المقوم الأنصاري، وهشام بن عروة، فجميعهم ادركوا خطورة شعره على أخلاق الفتيات. ومن الأمور الأخرى التي أخذها عليه النقاد، وبخاصة صاحبه بن أبي عتيق هو نسيبه بنفسه، فقد أخذ عليه أنه يحبّ نفسه ويتغزل بها! وتبعه في هذا كثيّر عزة، وبثينة صاحبة جميل.
ومما التفت إليه النقاد في هذا العصر أيضاً عدم الجمع بين الشيء وما يناسبه من نوعه، أو ما لا يلائمه من ي وجه من الوجوه، وهو ما يسمى “مراعاة النظير”، و من هذا ما أنشده الكميت بن زيد في حضرة نُصَيب:
وقَد رأينا بـها حُوراً مُنَعَّمةً بِيضاً تَكامَلَ فيها الدَّلُ والشَّنَبُ
فعاب عليه نُصيب قوله: ” تَكامَلَ فيها الدَّلُ والشَّنَبُ” إذ استقبح هذا القول.
والتفت النقاد أيضاً إلى الشعر الوَسَط، أي الشعر الذي لا يبلغ غاية صاحبه ولكن يقع قريباً منها، فلا تقول له اخطأت أو أصبت، ومن ذلك ما أنشده الكميت في حضرة ذي الرمة:
هل أنتَ عن طلبِ الأيْـفـاعِ مُنـقَلِبُ
أم كيفَ يَـحسُنُ مِن ذي الشَّيبةِ اللَّعِبُ؟
فقال ذو الرمة: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدرُ إنسانٌ أن يقولَ لكَ أصبتَ ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به ولا تقع بعيداً عنه، بل تقع قريباً.
وفي هذه المرحلة أيضاً بدأ الحديث يدور حول السرقات الشعرية، ومن ذلك أن لقي الفرزدق كثيّراً بقارعة البلاط، فقال له: يا أبا صخر، أنتَ انسبُ العرب حين تقول:
أريدُ لأنسى ذكرها فَكَأنّما تَمَثَّلُ لـي ليلى بكلِّ سبيلِ
يُعرّض له بسرقته من جميل بثينة، فقال له كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول:
ترى الناسَ إذا ما سِرنا يسيرون خلفنا وإن نَحنث امأنا إلى الناسِ وَقَّفوا
وهذا البيت أيضاً سرقه الفرزدق من جميل، وفي هذا دليل على انتباههم للسرقات منذ عهد مبكّر.
عرض النقاد في ذلك العصر كذلك لصفات الألفاظ، فعابوا من الشاعر أن يتراوح أسلوبه بين جزالة البدو ورقّة الحَضَر في التعبير عن المعنى الواحد، ومن ذلك ما ذكره الهيثم بن عدي أن قال له صالح بن حسان: هل تعرف بيتاً نصفهُ أعرابيّ في شَملة، وآخره مُخَنّثٌ من مخنثي العقيق؟ فقال الهيثم: لا أدري، قال: قد أجّلتكَ فيه حولاً، فقال الهيثم: لو أجلتني حولين ما علمتُ. قال: قولُ جميل: “ألا أيّها النُوّامُ ويحكم هُبّوا” هذا أعرابيفي شَملة، ثم قال: “نُسائلكم هل يُقتلُ الرجلُ المُحِبُّ؟” كأنه والله من مخنّثي العقيق”.
ومما أخذوه على الشعراء أن يقلّد بعضهم بعضاً في أسلوبه الشعري أو طريقته الفنية التي عُرِفَ بها، وذلك كتقليد جميل لعمر بن أبي ربيعة في حواره القصصي. وقد جاء في الأغاني أن عمر بن أبي ربيعة حين أنشد بثينة وقالت له: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهنّ الوجد بك، قال لها قولَ جميل:
وهما قالتا لو أنّ جـميلاً عَـرَضَ اليومَ نـظرةً فَرآنا
بينما ذاك منهما وإذا بِي أعملُ النَّـصَّ سَيْرةً زَفيانا
نظرت نحو تِربِها ثم قالت قد أتانا – وما علمنا- مُنانا
فقالت: إنّه استملى منكَ فما أفلح، وقد قيل: اربِط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلم من جَريه تعلّمَ مِن خُلُقِه” وهي بهذا تشير إلى تأثر جميل بطريقة عمر في الحوار القصصي وعجزه عن بلوغ مستواه في ذلك.
هذا هو عصر ابن أبي عتيق الذي عاش فيه، وتأثر بأحداثه وانفعل، وقد اشتهر بالفضل والنسك، والصلاح والعفاف، كما عرف بالظرف والدعابة والفكاهة، والميل إلى اللهو والمزاح والغزل، وإلى جانب ذلك فقد كان مولعاً بالغناء، محباً للأدب والشعر، ناقداً له، فسعى إليه معاصروه ينشدوه أشعارهم فينقدها بعين الحاذق البصير بما فيها من مواطن القوة والعف.
ابن أبي عتيق الناقد:
ظهرت في الحجاز العديد من الشخصيات النقدية التي أثر عنها الكثير من النقد، وأكثرها إثراءاً شخصية ابن أبي عتيق، فقد ملأ الحجاز نقداً ظريفاً لأكثر شعراء الغزل في عصره، وكان يعتمد في نقده على ذوق مرهف وحِسّ مترف، وقريحة وقّادة، وبصيرة نافذة في التمييز بين جيّد الشعر ورديئه، صحيحه وزائفه، وإلى جانب ذلك كله كان محيطاً بثقافة عصره ومعارفه، وثيق الصلة بحياته الأدبية، عليماً بتيّاراتها واتجاهاتها، متجاوباً معها.
من الأساليب المميزة لابن أبي عتيق في النقد هو اتخاذه أسلوب السخرية الضاحكة إلى حد الإيجاع أحياناً، وكأنه أراد هذا ليمثل الروح الحجازية بما فيها من رقة وظرف، وأن يجاري روح الشعر المعبّر عن حياة الحجاز المرحة اللاهية، وبالتالي يلائم بين روح الشعر وروح النقد.
لابن أبي عتيق آراء نقدية كثيرة في عدد من شعراء عصره، لكن أكثرهم اهتماماً وعناية بالنسبة له هو عمر بن أبي ربيعة، فقد كان مصاحباً له داعماً لشعره حتى اتهمه نقاد عصره بالانحياز إليه، لكنه كان يقوم بهذا ليدفع عمر نحو الغناء والنظم وملئ الحجاز بالإبداع والغناء، وبالتالي يخدم الشعر، وإنه في مجاراته له لم يكن مُطلَقاً، بل وضع حدوداً لم يتعداها، فهناك حدود لِما يصِح أن يوافق صاحبه أو يخالفه فيه من حيث المبدأ والقيم الأخلاقية والسلوك.
لقد جاء نقد ابن أبي عتيق في صور متعددة، وهي صور جزئية تضمنت آراءه وملاحظاتِه النقدية، و هذه الصور على النحو الآتي:
أ. التعليقات:
وتتمثل في صورة تعليقات ظريفة ليست في صميم النقد، وإنما تأتي على هامشه، وهي إن دلّت فإنها تدلّ على ذوق الناقد، وبصره بالشعر، وبما يستجاد أو لا يستجاد منه. وتتميز هذه التعليقات بالإيجاز والدعابة الساخرة، والتلميح دون التصريح، ثم بالعبارة التي تحاول محاكاة الشعر في لغته وبلاغته.
لا تدخل هذه التعليقات في النقد إلا من باب التجوُّز، ولكنها مما استحدثه نقاد الحجاز من أمثال ابن أبي عتيق، والمخزومي، وهناك الكثير من الأمثلة على هذه التعليقات نورد منها مثالاً واحداً:
“أنشد عمر بن أبي ربيعة قصيدة ذكر فيها جاريةً له توسّطت في الصلح بينه وبين إحدى صواحبه، وقد وصف عمر هذه الجارية في القصيدة بقوله:
فبعثنا طَـبَّةً عـالـمـةً تـخلِط الـجِدّ مراراً باللعبْ
تُغلِظ القولَ إذا لانت لَها وتُراخي عند سَوراتِ الغضبْ
لَم تزلْ تَصرِفُها عن رأيها وتـأنّـاها بـرفـقٍ وأدَبْ
فقال له ابن أبي عتيق: الناس يطلبونَ خليفةً منذ قُتل عثمان في صفة قَوّادتِك هذه يدبّر امرهم فما يجدونه!”
ب. مقياس العاطفة:
عرض ابن أبي عتيق في أخباره إلى نقد العاطفة في شعر بعض معاصريه، ومقياس الحكم على العاطفة عنده مستمد من مقياس النقّاد السابقين، فيتمثل في مدى صدقِ العاطفة أو عدم صدقها؛ فالعاطفة الصادقة في نظره هي ما تنبعث من أسباب صحيحة غير زائفة أو مُفتَعَلة. فصدق العاطفة عنده عنصر من عناصر الجمال في الشعر، وعلى الشاعر أن يكون أميناً مع نفسه وعواطفه، فلا يعبّر إلا عمّا يشعر به أويعنيه حقاً، وقد كان أحياناً يوازن بين الشعراء من حيث صدق عاطفة كلّ منهم، ومن أمثلة ذلك أن حضر ابن أبي عتيق عمرَ ابن أبي ربيعة وهو ينشد قوله:
ومَن كانَ محزوناً بإهـراق عَبرَةٍ وَهَـى غَربُـها فَلْيأتِنا نُبكِـه غَدا
نُعِنْهُ على الإثكالِ إنْ كانَ ثاكِلاً وإنْ كان مَحرواباً وإنْ كانَ مُقصَدا
فلمّا أصبح ابنُ أبي عتيق أخذ معه خالد الخِرِّيت وقال له: قُم بنا إلى عمر. فَمَضيا إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئناكِ لِموعِدِك. قال: وأي موعدٍ بيننا؟ قال: قولُك “فَليأتِنا نُبكِه غدا”. قد جئناك، والله لا نبرح أو تبكيَ إن كنتَ صادقاً في قولك، أ, ننصرف على أنك غير صدق، ثم مضى وتركه.
ج. مقياس المعنى:
اتخذ ابن أبي عتيق أربعة مقاييس لقياس المعنى والحكم عليه، وأول هذه المقاييس هو الوضوح والغموض، فما يحتاج إلى تُرجمان يترجمه ليس بشعر، والمقياس الثاني هو الصدق والكذب، فيرفض المعاني التي يغالي في ها الشاعر ويغرق، ويرفض كذلك ما امتنع عقلاً وعادةً، فيأخذ على الشاعر أنه يكذب على نفسه وعلى الناس حين يدّعي ما لا يقدر عليه حقّاً وصدقاً، فينتقده بسخريته المعهودة، وهو في هذا آخذ بمقياس الجاهليين في نظرهم إلى المبالغة، فيرى في التبليغ والإغراق والغلوّ مفسدة للمعنى ومنافَيَةً للصدق.
ومن مقاييس المعنى التي اتخذها ابن أبي عتيق كذلك مقياس الصحة والخطأ، فالخطأ قد يصيب المعنى أو يتطرّق إليه من ناحية الجهل بالمدلول اللغوي للألفاظ، أو الجهل بالحقائق، أو من ناحية مخالفته للواقع والطبيعة، أو عدم مطابقته لحال المتكلم أو نوع ثقافته، فيرفض أن ننسب كلاماً إلى متكلم لا يليق بثقافته أو بحاله الفكري وعلمه، ومن المقاييس أيضاً التي قاس بها المعنى “الوفاء بالمعنى”، وذلك بأن يستوفي الشاعر كلّ ظلال المعنى وأن يأتيَ به تاماً كاملاً. وفي هذه المقاييس كلها كان ابن أبي عتيق يحكم على الشعراء ويوجه لهم النقد الساخر الموجع، وهي جليّة في الكثير من أخباره.
د. الموازنات الشعرية:
وُجِدَت الموازنة في النقد العربي منذ زمن طويل، فكن التفضيل بين شاعر وآخر، وبين شعرٍ وشعر، ولكن الاحكام فيه كانت في أغلبها عامة غير معللة، وامتد هذا النوع من الموازنات إلى النقد في بيئة الحجاز أيام بني أمية، كالموازنة التي فضّل فيها كُثيّر جميلاً على نفسه، ولكن إلى جانب هذا الموازنة فقد ظهر صور أخرى لها، يبنى فيها الحكم على التعليل، فيلتفت الناقد إلى جوانب غير مسبوقة، وكان ابن أبي عتيق الوحيد الذي اتجه إلى توسيع مجال النقد من هذه الناحية، ففي الموازنات التي عقدها بين بعض الشعراء يتجاوز التعليل إلى بحث قضايا كمن صميم النقد، ومن هذه الموازنات العديدة نورد الموازنة التالية:
“زاره في المدينة كُثيِّر عزّة فاستنشده فأنشده كُثيّر قصيدته التي مطلعها:
أَبائنةٌ سُعدى؟ نعم سَتَبينُ كما انبَتَّ من حبلِ القرينِ قَرينُ
حتّى بلغ إلى قوله:
وأخلَفْنَ ميعادي وخُنّ أمانتي وليس لِمَن خان الأمانةَ دينُ
فقال له ابن أبي عتيق: أَعلى الأمانة تبعتَها؟ فانكفّ- كُثيّر- واستغضب نفسه وصاح وقال:
كَذَبنَ صفاءَ الودِّ يومَ مَحِلِّهِ وأنكدنَني مَن وَعدُهنَّ دُيونُ
فالتفت إليه ابنُ أبي عتيق فقال: وَيْلَك! أوَ للدَّين صَحبتهنّ يا ابن أبي جمعة؟ ذلك والله أملح لهنّ، وأشبه بهنّ، وأدعى للقلوب إليهنّ. وإنما يوصفنَ بالبخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. سيِّدُك ابن قيس الرقيّات كان أعلمَ وأشعرَ منك، وأوضَعَ موضعه منهنّ! أما سمعتَ قوله:
حَبَّ ذاكَ الدَلُّ والغُنُـجُ والتي في طَرفِها دَعَـجُ
والتي إن حدّثتْ كذبتْ والتِي فِي وعدِها خَلَجُ
وترى في البيت صورَتَها مثلما في البِيعةِ السُّرُجُ
خبِّرونـي هل على رجلٍ عـاشقٍ في قُبلةٍ حَرَجُ؟
فقال كثير للسائب راويته الذي كان معه: قم بنا من عند ها، ثم نهض ومضى”
نلاحظ مما سبق أن ابن أبي عتيق تناول شيئاً جديداً على النقد في تلك الفترة، وهو صدق التجربة الشعرية، وينبع هذا الصدق من معايشة التجربة لا من تخيّلها، ومن اتعمق في فهم طبيعتها وأبعادها ومن التعامل معها على أساس القيم العاطفية، وانطلاقاً من وجهة النظر هذه تأتي موازنة ابن أبي عتيق كاشفة عن حقيقتين؛ أولاهما أن الموازنة تمّت بين كلام شاعرين وهي مشفوعة بالعلل والأسباب، والثانية أن ابن عتيق التفت إلى صدق التجربة وأثرها في قيمة الشعر وميزان النقد، وهذه الالتفاتة مبكرة ، ولكنها محاولة في سبيل تطوير الموازنات الشعرية الانتقال بها خطوة عى طريق النقد القويم.
لم يكتفِ ابن أبي عتيق بمقياس صدق التجربة في موازناته، بل اعتمد على دقّة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج، ومتانة الحشو، وتعطُّف الحواشي، ووضوح المعاني، وبساطة الفهم، فهي قيم جمالية نقدية لا بد من الاستعانة بها لادراك موان القوة والضعف في الشعر، ويزيد على هذه القيم صدق العاطفة والتأثير في عواطف ومشاعر السامعين وبلوغ الوفاء بالغرض والتعبير عنه.
ابن أبي عتيق وتشبيب عمر بنفسه:
أنشد عمر بن أبي ربيعة ابنَ أبي عتيق في أحد الأيام قائلاً:
بينما يَـنعَتنَنِـي أبصرنَنِـي دونَ قِيد الميل يعدو بـي الأغرّْ
قالت الكبرى: أَتَعرِفنَ الفتى؟ قالت الوُسطـى: نعم هذا عمرْ
قالت الصغرى وقَد تَـيَّمتُها: قد عرفناهُ… وهل يخفى القَمَرْ؟
فقال له ابن أبي عتيق: أنت لم تنسُب بها، وإنما نسبتَ بنفسك! كان ينبغي أن تقول: قلتُ لها فقالت لي، فوضعتُ خدّي فوطِئَت عليه!
التحوّل في مقياس النقد
أخذ المجتمع الحجازيّ في العصر الأموي يتحضّر بفعل عوامل شتّى جديدة طرأت عليه من الداخل والخارج، وكان الطابع الغالب على الحياة الحجازية الجديدة في هذا العصر هو طابع الترف في كل شيء، وقد مسّ هذا الترف الشعر، فتغلغل في موضوعات ومعانيه وصوره، كما مسّ ديباجة هذا الشعر المتمثلة في في ألفاظه وصياغته وأسالبيبه، فهي ديباجة أبعد ما تكون عن الجفوة والغلظة، والتعقيد والالتواء، والغموض والإبهام، وما أشبه سماتها بسمات الحياة الظاهرة والباطنة التي كان يحياها شعراء الغزل في الحجاز.
ونتيجة لهذا ظهر في الحجاز جانبين من النقاد، كلّ منهما يسير وفق مقياس يرضيه ويناسب تفكيره، وكان الجانب الأول ممثلاً في دعاة ومؤيدي الغزل الصريح وعلى رأسهم عمر بن أبي ربيعة، فقد كان المغنون يتلقّفون الجديد منه ويضعون الألحان ثم يتغنون به والكثيرون ينشرونه هنا وهناك لما له من تأثير يشبه السحر عليهم، ومن النساء من كانت تدوّنه في دفتر وتدخل به على نساء اخريات، بل كانت الكثيرات يأتين إلى الحج من أجله.
على الجانب الآخر كان التيار المعارض لهذا الشعر، يرفضه لأن منافٍ للقيم والأخلاق الإسلامية، وهم المتشددون في دينهم من أهل الحجاز، فيرفضون ما في الغزل الصريح من إباحية يُخشى منها على أخلاق النساء، وتلك الطائفة هي التي كانت تقيس الشعر على مقياس الرسول –عليه الصلاة والسلام- والذي استوحاه من تعاليم الإسلام وقيمه الأخلاقية، والقائل: “إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحقّ منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه”.
فهو مقياس يتخذ الحق أساساً له، ويدعو إلى التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق، فالحسنُ من الشعر طبقاً لهذا المقياس هو ما وافق الحق، وما لم يوافق الحق منه فباطلٌ لا خير فيه، والرسول بهذا أراد أن ينحرف بالشعر عن طريق القيم الجاهلية، وأن يجعله إسلاميّ الروح والمضمون والاتجاه، وبذلك يكون عاملاً من عوامل البناء لا الهدم في المجتمع الجديد.
أدى تتبع النقد للشعر إلى تطوره بتطور الأول، وهذا التطور أدى إلى ظهور مقياس جديد في تلك الفترة في النقد لم يتنبه له إلا ابن أبي عتيق، وهذا المقياس متمثلاً في قوله عن شعر عمر ابن أبي ربيعة:
“لشعر عمر ابن أبي ربيعة نوطة في القلب، وعلوق في النفس، ودرك للحاجة ليست لشعر، وما عُصي الله جلّ وعزّ بشعرٍ أكثر مما عُصي بشعر ابن أبي ربيعة”
ونفهم من هذا القول أن الشعر الذي يلبي نزعات النفوس في عصره، ويدفعها بجمال تصويره وقوة تأثيره إلى عصيان الله في سبيل إشباع رغباتها المكبوتة قد صار من الأصول أو القيم النقدية التي تؤخذ في الاعتبار عند إرادة التفضيل بين شعر وشعر، أو بين شاعر وآخر، وابن أبي عتيق أول من نوّه بهذا المقياس، ولفت الأنظار إليه في مفاضلاته الشعرية، وأبرزه في أحكامه التي قرر بها واقعهاً ملموساً، واتجاهاً موجوداً في شعر معاصريه الحجازيين.
الخاتمة:
رأينا في هذا العرض المتواضع كيف تطور النقد تدريجياً من الذوق والانطباع في العصر الجاهلي إلى اعتماد مقاييس معينة في العصر الأموي، وكل ذلك ناتج عن عوامل عدة، أهمها ظهور الدعوة الإسلامية والفتوحات والانفتاح على الثقافات الأخرى، وأيضاً كأمر طبيعي ذلك التطور في حياة الأفراد وأفكارهم
ورأينا كذلك تلك الميزة التي امتلكها ابن أبي عتيق في النقد، من مصداقية ونزاهة في الحكم، واعتماد مقاييس مميزة، وقبول للشعر باختلاف أصنافه والقول والرواية والنقد فيه، فهو بحق من اهم وأبرز النقاد الذين رسموا الطريق الصحيح لاستمرارية النقد ومواكبته الشعر وموضوعاته المتجددة بتجدد العوامل والظروف الحياتية
“الحمد لله ربّ العالمين”
—