عبدالكريم الساعدي :
إلى: الشهيد عبدالله عيسى، الطفل الفلسطيني الذي ذبح في حلب
في لحظة غفلة يقع في الشِباك، تحاصره عيون طافحة بالتوحش، متّشحة بالخراب، تبرز لهم ملامح البراءة طفلاً مذعوراً، منكسراً، يطلق فزعه، تبزغ على الشفاه ابتسامات صفراء، تتهامس، تبشر بصيدها الثمين، السكين تبرق في فضاء مضمّخ برائحة الدماء، تداعب عنقه الجميل، تحاصره التكبيرات، عيناه تستحمّان بموجة رعب، يلملم حتفه، المدى يغلق بابه، المسافة الممتدّة بين شجرة الزيتون وبحيرة الأسد تتقلص، تتلاشى، يستبدّ به عشق النجاة، يهزّه صوت أبيه:
– يا ولدي، كلّما نهشتك المحن، اقطف من بستان الحلم زهرة قرنفل، علّقها على باب القلب، وابتسم.
يغمض عينيه، يبتلع شيئاً من خوفه، يرهف السمع لعزف سماوي، يتأمل طيفاً من فسحة الغياب، يعتلي سرج العشق، يهبط هناك، تشاكسه شرفته المطلّة على بحيرة هادئه، تهدهده ارتعاشة موجها، يسحره ألق فراشاتها الملوّنة، تستفزّه أشجارها المزدحمة بأصوات الطيور، يغمره ضياء فجرها العابق بنشوة الأحلام؛ السكين تتربص اللحظة، تشاكس عروجه، يسقي عروق كبريائه، يمدّ بساط الشوق لطائر جميل، ناصع البياض، زاهد، يتلو أنشودة الفجر في ظلّ لحن شجي، يطرب الأسماع. كانت عيناه في مواسم الفرح، تنظران بشغف إليه، يصيخ السمع لتراتيله، تبهجه رقصته، لم يعد مذ تَعمّد فضاء المدينة بغبار البارود؛ بيد أن شرفته ظلّت مشرعة نوافذها. الأيدي تلتفّ حوله، رقبته تلهث على حافة السكين، تبعثر صراخه، يحلم بالفناء، بالرحيل إلى عشّه؛ يغمره فيض من الوله، يحبس دمه، يخلع موته، تتشكّل أنفاسه جسراً، ينكشف الستر، يعبر ناحية شرفته مزدحماً بالوجد، حاملاً زوادته على طرف غصن الزيتون، ينتزع ذكرياته من رحم الغربة، يطوف سبعاً حول المخيم، يعود إلى نسغه، يجوب أطلال الخراب، يفتح أبوابه المختنقة بالذهول، يلثم نهد الأرض؛ فيصبح بساط العشب سجادة للصلاة؛ يتدثّر بالذكر، يغطي الأجساد الهامدة بعباءة آذان الفجر، يصعد محتجباً بضباب كثيف؛ يحمل صرة أسفاره، يهبط على ضفة شرفته المهملة، يحاور اللحظة، تدهمه بتغريد الطائر، ينتفض مجنوناً بالشوق، تلهث عيناه في حنان، تجوبان الآفاق، تشتعل اثنتا عشرة شمعة لرؤيته، يحطّ، يسمع نبض ألفته، يمدّ جناحيه، يعانقه، يشمّه، يقبّله، يعاتبه:
– لماذا تأخرت؟.
تدمع أعين الأشجار والفراشات والطيور، تتساقط الدموع فرحاً، تختلط بماء البحيرة الهادئة؛ وقبل أن يُشيع رأسه، وتُلطخ أيدي الظلام بدمه، يفتح عينيه، يحدّق في مرايا السماء، يلجم فزعه، يصفع التماعة السكين بابتسامة هازئة، يتهجّى لحن الفناء، يرتّل بخشوع آية اللقاء:
– حمداً لله، أنّك عدتَ إلى البحيرة، أيُّها البلشون الجميل.
———————
*البلشون: طائر يعيش بالقرب من المياه، يمتاز بطول سيقانه ورقبته، ويطلق على البلشون الأبيض أيضاً( مالك الحزين).
—