شكّل التصوّف الإسلامي، رفقة التقاليد الروحية الهندية والصينية، إغراء روحيا للسّاعين لإرساء معنى لوجودهم من خارج أنساق الفلسفات الغربية في العقود الأخيرة. حيث تشهد معظم البلدان الغربية انتشار نوادي اليوغا والتأمل والروحانيات والرياضات الروحية، والتصوف بطُرقه المتنوعة أحد هذه المكوّنات التي باتت تغوي الدارسين والسالكين. ربما كانت أوضاع التوتر التي شهدها عالمنا في الحقبة الأخيرة، والتي أسهم تسييس الأديان في زيادة حدة تأجيجها، حافزاً لإعادة اكتشاف المخزون الروحي الذي توارى في غمرة الصرامة المؤسساتية والنزعة التشريعية المتشددة. من هذا الباب غدا التراث الروحي في الأديان الشرقية الهندية والصينية متابَعا ومحتذى، وبالمثل التراث الروحي العائد لدين الإسلام، رغم موجة الإسلاموفوبيا الضاغطة التي يتعرض لها.
ضمن هذا السياق العام، تنامى الانشغال بالتصوف اليهودي في الغرب، وليس بفعل ما يجمع الغرب المسيحي باليهود من تراث كتابي مشترك كما قد يُتصوّر. والجلي في الاهتمام بالتصوف اليهودي في الغرب، أن جلّ المنشغلين به هم من أبناء هذا التراث، أو لنقل من اليهود، في حين ما يميّز الانشغال بأنواع التصوف الأخرى، سواء ما عاد منها للتراث الإسلامي أو الهندي والصيني، فإن المتابعين أو الدارسين أو السالكين هم من الغربيين أساسا. وربما يُعَدّ أهالي تلك التقاليد المشار إليها –الإسلامية والصينية والهندية- من المقصّرين لو قارنا ما قدّموه بما يشتغل عليه الغرب.
في هذا المناخ المتطلّع إلى إعادة اكتشاف الميراث الروحي، أعدّ الدارس الإيطالي جوسيبي لاراس (1935-2017) مؤلّفاً رصينا صدر بعد وفاته بعنوان “التصوف اليهودي”، عرض فيه خلاصة قيّمة حول مضامين التراث الروحي اليهودي. ولاراس هو من كبار الدارسين اليهود الإيطاليين المهتمين بالحقبة اليهودية الوسيطة، وتحديدا بموسى بن ميمون. شغل الرجل مناصب بارزة في الحاخامية اليهودية في إيطاليا، كما تولى تدريس تاريخ الفكر اليهودي في جامعة ميلانو إلى جانب نشره جملة من المؤلفات القيّمة في الشأن.
والتصوف اليهودي كما يعرضه مؤلف جوسيبي لاراس، هو ذلك المسعى الهادف إلى خلق صِلة حميمة بين اليهودي وإلهه، بما يضفي على التصوف بهذا المعنى صبغةً روحية متوهجة تتطلع إلى بلوغ الوجد. حيث يسعى الصوفي إلى نحت مقارَبة في فهم المقول المقدّس يردفها عيش تجربة بما يتخطى المعاني الظاهرة. وبكلمة موجزة، الفكر الصوفي -ضمن السياق اليهودي- هو تطلعٌ لتجاوز ما هو مباشر وحسي والولوج إلى غور الأشياء، عماده تأويل الرموز التي تعمّر الواقع، وذلك بقصد بلوغ الدلالات الثاوية والمقاصد الخفية للمراد الإلهي. وعلى نطاق عام يتجلّى التصوف اليهودي، وفق الكتاب المذكور، ضمن خاصيتين متمايزتين: الأولى تصطبغ بصبغة الممارسة التقوية والثانية بطابع التعقل التأملي. ضمن الخاصية الأولى يلحّ التصوّف على عنصريْ التسليم والرضى بقصد بلوغ اليقين، بوصفهما السبيل والأداة لمراودة توحّد حميم لذات المتصوف مع إلهه؛ حيث تحوز الصلوات والأذكار والترانيم والأدعية، ضمن هذا السياق، مكانةً رفيعةً. في حين تصطبغ الخاصية الثانية، العقلية والتأملية، ضمن التجربة الصوفية، بالسعي إلى توضيح الصلة بين العبد وبارئه، أو بشكل عام بين الخالق والكون. وضمن الخاصية الأخيرة يندرج تواشج بين التصوف والفلسفة الدينية اليهودية إبان القرون الوسطى، حتى وإن لاح تمايز جلي للوهلة الأولى بين التصوف والبحث الفلسفي، بموجب النهج الذي تُقارَب به المسائل. فإن تكن فلسفة الدين تقوم على بناء منطقي، فإن التصوف يقوم على مغامرة حدسية ذوقية، كما لخّص ذلك سفر المزامير “ذوقوا وانظرو ما أطيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه” (المزمور 34: 8).
وبناء على مضامين التصوف اليهودي المتشعّبة، يمكن حصر الترقي الروحي وتوصيفه وفق ثلاثة مستويات: مستوى لاهوتي، ومستوى نفسي، ومستوى خُلقي. حيث ينشغل المستوى الأول باحتضان الكائنات الوسيطة بين الإنسان والإله، من ملائكة وأرواح وكائنات لامرئية؛ وينشغل المستوى الثاني ببيان كيفية تطوير الإنسان مداركه الحدسية باعتماد الرياضات الروحية بقصد بلوغ مقام الشفافية؛ في حين ينشغل المستوى الخُلقي ببيان سُبل تطبيق الترقي والتعالي في الحياة، حيث يتواجد الصوفي في الكون ويتسامى عنه، ويحضر في الخَلق وهو مهاجر لهم.
تبدو الإحاطة بالإطار التاريخي ضرورية، كما أوضح جوسيبي لاراس في القسم الأول من الكتاب المعنون بالفكر الصوفي، لإدراك التحولات والتطورات التي مرّ بها الترقي الروحي اليهودي. وهو ما يمكن توزيع التصوف ضمنه إلى أربع حقب بارزة. حيث نجد الفترة التوراتية المبكرة، التي يتعذّر فيها الحديث عن تصورات صوفية بيّنة أو صياغات صرفة. فالحياة الدينية في هذا الطور يلفّها ما يمكن أن نطلق عليه “الوعي الصوفي”، حيث تشيع مسحة دينية شفافة تطغى على رؤية الذات وعلى تمثّل الكون. تلي ذلك فترة قديمة، أو ما بعد توراتية: وهي فترة متميزة بكثافة التعاليم الباطنية، حيث التصورات الصوفية لا تزال في طور التشكل، حتى وإن عانقت كافة مظاهر الحياة الدينية. ثم تأتي فترة القبّلاه: وهي فترة ممتدة ومتداخلة، شهدت ظهور العديد من الأعمال المرجعية التي أرست معالم البناء النظري الصوفي. والملاحظ أنه غالبا ما هيمنت على هذه الفترة مضامين عمليْن بارزيْن هما ‘سفر بهير’ (السفر الباهر أو سفر المشرق) و’سفر الزوهار’ (سفر الضياء أو سفر الإشراق)، اللذيْن مثّلا حجريْ زاوية في التصوف اليهودي عامة. لنصل إلى الفترة الأخيرة وهي فترة الحاسيدية الحديثة التي شهدت بروز خط ديني، فكري وعملي، متأثّر بما دبّ في الشتات اليهودي من تململ ويغلب عليه المنزع التقوي، وهي فترة مشوبة بالصراعات التأويلية المتضاربة داخل الفكر اليهودي.
فقد تنازعت التصوف، ضمن تطور الفكر الديني اليهودي، رؤيتان روحية وفلسفية. يشرح موسى بن يعقوب كوردوفيرو أحد أعلام القبّلاه الفرقَ بين القبّالي، المنشغل بالأسرار، والفيلسوف، المنشغل بالمقولات العقلية قائلا: يبدو عمل الأول كمن يحمل كيسا على عاتقيه، يعي ما فيه ويدرك فحواه، في حين يبدو عمل الثاني، الفيلسوف، تتبّعاً عبر التعقل والاستقراء والملاحظة لاكتشاف فحوى الكيس. والجلي كما بيّن كوردوفيرو أن الفيلسوف مهما أجهد نفسه هو غير قادر على الإحاطة بغور ما يعتمل في ذات المؤمن، وهو في أقصى الحالات بمقدوره بلوغ وعي أفقي، أي ذلك الذي يحكم علاقة الناس الخُلقية بعضهم ببعض، مثل “لا تقتل” أو “لا تسرق”، وليس بوسعه بلوغ ذلك الوعي العمودي الرابط بين الكائن المتناهي والكائن اللامتناهي، لانتفاء قدرات الحدس لديه. فالجلي أنه حالما يتحقق مستوى من القرب العمودي لدى السالك الروحي، يغدو متيسرا له الفناء في ذات الله، وهو شكل من التصوف، كما يقدّر لاراس، تعود جذوره إلى فيلون الإسكندري، الذي يرتئي أن التواصل مع الرب يقتضي “الخروج من الذات”، أي بلوغ مقام ‘الوجد’، أو بعبارة أخرى، إلغاء مدارك العقل والحواس وإطلاق فوران الوجد.
في هذا الإطار يذهب صاحب مؤلف “التصوف اليهودي” إلى أن القبّلاه تقتضي دراسة معمقة وشاملة لمن أراد الإلمام بتطورات التصورات الصوفية، فدون ذلك يتعذر الإلمام الصائب بتشعبات التصوف اليهودي. فقد ظهر المسار القبّالي في التراث اليهودي متأخرا نوعا ما، وذلك إبان الحقبة الوسيطة تقريبا، مع منتهى القرن الثاني عشر. وضمن هذا الاجتراح يُعَدّ نص “السفر الباهر” الإطار الرمزي الحاضن للفكر القبّالي. كان ظهور “السفر الباهر” في شمال إسبانيا تحديدا في منطقة بروفانس، وهي الفترة ذاتها التي شهدت بروز العديد من الحركات اليهودية المتأثرة بالجدل الإسلامي في الأندلس. وبالتمعن في القبّلاه يمكن القول إنها المرجعية الأثيرة للتصوف وللباطنية وللثيوصوفية، توسّلت عبرها شتى السبل، الروحية والعقلية، بهدف بلوغ سرّ الألوهية ورسم السبل المؤدية لها. فالقبّالي هو سالك طريق الله، من خلال اكتشاف صفاته ومظاهر تجلياته، أكان ذلك بالانتهاء عن منهياته أو بمراعاة أوامره بقصد خوض معراج عماده تنزيه الروح والتعالي بها. والجلي أن التراث القبّالي الثري والمتنوع، قد تمحور على مدى قرون حول الزوهار، رافعا إياه إلى درجة القداسة جنب “الأسفار المقدسة”، ولا زال هذا المؤلف المحوري يحظى بالإجلال والتقدير إلى اليوم في الأوساط الصوفية على غرار التوراة والتلمود. فالكتاب الذي تمحور أساسا حول التأمل في مضامين التوراة، وإن لم يلتزم في ذلك منهجية واضحة وغلب عليه التطرق إلى مواضيع متداخلة في التفسير والتأويل لحلّ مسائل فقهية وعقدية ضمن القضايا المطروحة حينئذ، وإن نُسب الكتاب إلى الربي شمعون بار يوحاي، معلم المشنا الكبير، (المتوفى سنة 160م)، أي ضمن بيئة التأليف الفلسطينية (في منتصف القرن الثاني الميلادي)، فإن نقد بنية الكتاب ومضامينه تكشف أن التأليف وإن أعيد إلى فترة متقدمة، بحثاً عن مصدرية تأصيلية موغلة في القدم، فهو في الواقع نتاجٌ متأخرٌ يعود إلى القرن الثالث عشر، وهو ما يذهب إليه الباحث المعروف جرشوم شولام (1897-1982). حيث ينتقد شولام الإيغال في مصدرية الكتاب التاريخية (القرن الثاني)، وينسب صياغته إلى موسى ليون (1250-1305م). هذا وقد اعتمد الدارس شولام في نقده على التحليل اللغوي أساسا، مبرزا أن آرامية الزوهار تختلف أشد الاختلاف عن آرامية الترجوم والتلمود، ولا نعثر على صلة رابطة.
من جانب آخر يحاول جوسيبي لاراس في القسم الثاني المتعلق بانتشار الفكر الصوفي التعرض إلى محطات وقضايا مهمة في التصورات الدينية اليهودية، على غرار القول بالتناسخ وظهور الحركات المسيائية. إذ بموجب التأثير العميق للقبّلاه على التصوف، حاول العديد من الدارسين التطرق إلى موضوع الروح، وهي من المواضيع الشائكة التي تعددت الرؤى بشأنها. حيث نجد ما يشبه الإجماع بين القبّاليين في القول بهجران الروح بعد الممات جسد المتوفى والحلول في جسد آخر، لتعيش تجربة ثانية. وقد عبّر القائلون بذلك عن تلك الرحلة بمفردة “غلغول” التي تفيد الدوران، والتي ترجمها شموئيل بن تيبون بكلمة “التحول”. غير أن كثيرا ممن انتقدوا هذا التوجه اعتبروا الأمر حادثا تحت تأثير الديانات الوثنية التي طفح بها الشرق، والتي وجدت سندا في الديانات الهندية التي تذهب إلى القول بالتناسخ. يستند القبّاليون في دعم قولهم بالتناسخ (غلغول) إلى ما يرد في سفر التكوين، الإصحاح 38 وإلى ما يرد في سفر التثنية الإصحاح (25: 4-10). فإذا ما اقترف المرء خطيئة فإن روحه ملزَمة بعبور تجربة ترقٍّ نحو الطهر، بقصد استعادة النقاء الأول. وهذا الهجران والترحل للروح من هيكل جسدي إلى آخر، يمكن أن ينحطّ إلى الحيوان أو النبات وحتى إلى الجماد وفق المعتقد القبّالي.
من جملة القضايا الدينية الأخرى المطروحة في هذا القسم، مسألة تأويل سِفر نشيد الأنشاد المنسوب للنبي سليمان (ع). فالنشيد هو نصّ شعري جنسي بين عاشق وعشيقته. أثار عديد التساؤلات نظرا لجرأة التوصيف الماجن المعبّر عن حرقة غرامية حسّية بين عشيقين، كلف أحدهما بالآخر حدّ الفتنة. يستهلّ النص بتشوق العاشقة لمضاجعة حبيبها الذي عند ثدييها يبيت، ولتتكثف المشاهد الحسية. ولكن أمام الجنسانية المفرطة لنشيد الأنشاد اقتضى الخُلق الديني تأويل مضامين النص وإعطاءه تفسيرا رمزيا يسمو بالعلاقة بين يهوه وشعبه. والملاحظ أن لغة الغرام الفاضحة التي تطبع النّشيد ليست غريبة عن لغة العشق الصوفي عموما، تلك اللغة التي تعرف تجنْسنا كلّما ارتقى السّالك مدارج المحبّة والمكابدة.
فضلا عن ذلك، من القضايا الاجتماعية المهمة المطروحة في هذا القسم حركات الخلاص مثل السباتية والحاسيدية. فقد شكّلت مضامين الزوهار الرمزية حافزا قويا لجموع اليهود للتشبث بالدعوات الخلاصية. حيث حازت فكرة الخلاص المسيائي مكانة متميزة ضمن أنشطة هذه الحركات. كان سبتاي زيفي صانع ملحمة رمزية كبرى هزت الشتات اليهودي (1665-1667م) عُدّ فيها المخلص والهادي إلى جنة التوراة الموعودة؛ لكن اهتداء سبتاي زيفي إلى الإسلام والتخلي الفجئي عن ذلك المنزع المسيائي مثّل انتكاسة كبرى للحركة، تركت أتباعه في متاهة حقيقية. وبفعل النفوذ الروحي القوي لسبتاي لم يجد التأويل الباطني من تفسير لتحوله سوى بِوصمه بـ”القدّيس المذنب”. لم تكن الحاسيدية (الحاسيديم) في الواقع سوى ردّ فعل على السباتية، معتبرة أن الخلاص المرجو متحقق من خلال التوحد الحقيقي مع الله وليس بوساطة زعامة إعجازية يمكن أن تنحرف عن المسار القويم، كما حصل مع سبتاي زيفي. فاليهودي، وفق المنظور الحاسيدي، ليس معنيا بأحداث التاريخ أو التدخل في مسار الكون، على غرار ما فعله سبتاي زيفي، بل يتركز مفهوم الخلاص لديه في روحه لا في ملاحقة هدف طوباوي مسيحياني.
من هذا المنظور شكّلت الحاسيدية خلاصا مزدوَجا لليهود اجتماعيا وروحيا. وبحسب إسرائيل بن أليعازر (1700-1758) مؤسس الحركة، لا يتمثل جوهر الدين في معرفة التوراة، بل في الاتحاد الصوفي مع الرب، وهو ما يتيسر بلوغه بالتركيز على العبادة والتوراة. ودائما بحسب أليعازر فالرب هو حاضر في الكون ويملأ العالم وبالتالي هو قريب من اليهودي. وبحسب ما تذهب إليه الحاسيدية فإن “بعل شيم”، أو الحائز على سرّ الاسم الإلهي، يملك علم أسرار التتراغراما (يهوه)، الذي يمكن بواسطته اجتراح المعجزات.
حريّ أن نشير في ختام هذا العرض إلى أن كتاب “التصوف اليهودي”، على كثافته وعمقه، يغفل أو يتغافل عن التأثير الكبير للتراث الصوفي الإسلامي في التصوف اليهودي، المتطور في الأوساط الأندلسية، ناهيك عن محاكاة المقولات الصوفية الإسلامية.
الكتاب: التصوف اليهودي.
تأليف: جيوسيبي لاراس.
الناشر: جاكا بوك (ميلانو-روما) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2020.
عدد الصفحات: 106 ص.