عباس راضي:ابحث عن كائن سماوي
عباس راضي
حاوره في بغداد:جواد كاظم اسماعيل
·عقد سنواتي الثلاثين انفرط على جغرافيا متعددة الأمزجة.
·أنا ابحث عن كائن سماوي التقيتها تحت نجمة نحس وهي تتردد على أزقتي لفترات متقطعة ومتباعدة بصور متشابهة ولكنها ليست صورة واحدة.
·الكتابة معبدنا الذي لابد أن نرتاد، لنصل إلى المطلق.
·الدافع الأساس لكتابة القصيدة هو دائما زائر ٌ يلامس شغاف الروح ويكرر صدى البحر وتكسراته بداخلي.
من بين طين وماء تشكل لون وجهه وبرزت ملامحه العبثية.. فكان النهر أول المتصافحين معه لذلك لاغرابة أن يكون لهذا القادم رفقة ومعاشرة لكل شيء حي في هذا العالم الساحر, ليترك في كل موضع يتنفسه بصمة تحكي لنا قصة الوجود الأول ومسيرة البحث عن الخلود.. فهو الحرف والنقطة التي تشكلت على هيئة إنسان , هذا الإنسان الذي بحث عن وطن والوطن يبحث عنه ولازال في محنة البحث متواصلاً … لايعنيه من هذا الكون شيء سوى رسم السعادة لكل من فيه روح وتختصر السعادة لديه في قبول الإنسان لأخيه الإنسان وترك الأقنعة المزيفة جانباً.. هو هذا من خلقته الأقدار ليكون شريكا لكل أنين ونشيج لاسيما أنين الأمهات المغلف بقداسة السماء . انه الشاعر الجنوبي حد اللعنة عباس راضي العامري.دخلت عالمه المسحور خلسة في إحدى أزقة بغداد حيث يقيم فكان معه هذا الحوار…….
*من هو عباس راضي العامري، هذا المسكون بالحب والحزن ؟
أنا انسان لا زال يبحث في المسافات عن وطن أضاعه في الرابعة عشرة من عمره حين امتهن الرحيل المتكرر عن طريق سفينة تعشَّقها النهر من تحتها والمطر الغزير من فوقها في صباح جنوبي معترض على ما كان يقوم به النظام من مطاردة للثوار الذين خسروا انتفاضة 1991 عسكريا ً بعد ان تواطأ مع النظام كل من له قدمان يمشي بهما على الارض عدا بعض الاحرار في العالم.. غادرت حينها عن طريق اهوار الناصرية الى منطقة صفوان الحدودية ثم الى صحراء اخوتنا العرب الذين فضلوا ان يرسموا لنا صورة صادقة من الحياة البدوية الاولى بعد تسلمنا اول خيمة عربية بلون الصحراء.
أنا قروي بسيط يؤمن بأن سعادة العالم تُختصر في قبول الانسان لاخيه الانسان وترك الاقنعة مهما أسميناها واضفينا عليها أسماء مقدسة ونورانية شفافة.. وان نوظف احجار المعابد واجواءها لنصل الى الحقيقة الاولى لا أن تفصلنا عن المطلق لنخلد الى الارض بكل تعاستها…
*علماء الاجتماع يقولون الإنسان أبن بيئته فما تأثير البيئة على تجربتك الشعرية ؟؟
اختلاف البيئة هو من أثر في تجربتي فعقد سنواتي الثلاثين انفرط على جغرافيا متعددة الأمزجة .. فبعد أول دموع لي على ضفاف هور الحمّار أجبرنا فيضان 1988 على الانتقال الى مركز مدينة الناصرية وقتها افتقدت اشيائي الأولى (…) وبعد 1991 .. صحراء رفحاء شمال السعودية وكتابات ابن الفارض والنفـّري وتسجيلات لمظفر النواب سكبت بداخلي غربة اخرى خصوصا واني كنت احتسيها سراً خوف الفتاوى المعلبة التي يقتنيها القندهاريون.. أما نداوة شيراز ونزق البحر في قزوين وفلسفة ملا صدرا والمعابد القديمة في قم وروعة “اسعد” و”ابو كميل ” و”ابو حالوب” ؛ اصدقائي المجانين، وما يخبئون خلف جنونهم وصعلكتهم من سؤال لاهوتي جاد، وعيادة أمي المتكررة لمعبد (كامكار) الابيض كزائر ليلي دائم للعلاج من مرض [ضيق التنفس].. فهي مفردات كان لها أثر كبير على ممارستي لحياة أخرى قد يجدها كثيرون انها خليط من كفر بأشياء وجنون بأخرى وإحتضار أمام غيرها..
*هناك قول لأحد الشعراء يقول فيه_ أنا كالهنود الحمر لا أهدأ حتى تقرع أمامي الطبول .. فمتى يهدأ عباس راضي ؟
مَن حولي من اصدقاء يدعون أنني هادئ جدا تختبأ خلف هدوئي عصبية هائلة وثورة من الاعتراض على أشياء اراها لا زالت بحاجة الى تصحيح.
ماذا تمثل لك الأسماء التالية: ( الوطن، الغربة ، النوارس ، السماء ، الهور)
الوطن: غربة مضاعفة
الغربة: عاهر بثوب قديسة
النوارس: ما يزيد شتيمتي للبحر
السماء: نافذة لهروبي من هذا اللغط لا زالت مغلقة لكثرة خطاياي
الهور: لا زلت افتش فيه عن سومري أضعته
*هناك رأي يقول أن النساء كثير والمرأة واحدة فماذا تقول أنت ؟ وهل أخذت هذه المرأة وقتها الكافي من قلب عباس راضي العامري ؟
أؤمن بنسبية الأشياء والمفاهيم ولا اعتقد أن شيئا ً – سوى المطلق والألم- له وجود واحد وفي كل مكان.. ومن ابحث عنها كائن سماوي التقيتها تحت نجمة نحس وهي تتردد على أزقتي لفترات متقطعة ومتباعدة بصور متشابهة ولكنها ليست صورة واحدة .. انا بانتظار حضورها البهي عند كل حزن.
*إذا هذا هو اختصار لقصة “حلوة الظل” القصيدة والمرأة؟
صحيح ، ولكن حلوة الظل تجلي أخير لذلك الكائن السماوي .. ولا زال مسيح الله يدعوها لتزور كنائسه البيض.
*كيف جئت إلى عالم الكتابة وكيف ترى هذا العالم المسحور بالدهشة والقلق..؟
هذا العالم هو معبدنا الذي لابد أن نرتاد، لنصل إلى المطلق، رغم حزنه وقسوته إلا أن الاحتكاك بالألم ينير عتمة الروح ويسقط ما يترسب بدواخلنا من “خطايا”.. والكتابة جزء من مفردات نزوعنا الأبدي نحو ذلك الفضاء البرزخي.. جاءتني الكتابة كما جئت أنا إلى العالم لأحل فيه دون مزايلة.
*من يقرأ كتاباتك يتلمس الرومانس وأحيانا الشجن الشفيف فما العلاقة بين هذا وذاك لديك ؟
روعة الألم والشجن ووجوده في كل مكان يجعل النفس شفافة وملامح القبور واضحة وسلالم ارتقاء الحب إلى من نسعى إليه في كدحنا اليومي بمعابدنا سهلة الارتقاء.. فالرومانس وليد كل ذلك الحزن وتتويج للذة الاحتراق الذي يبعثه الطيران حول نار البؤس والغفلة عن الروح الموضوعي لدى الإنسان.
*هل تؤمن بالثورة أو بصورة أدق التمرد على المفاهيم السائدة في كتابة نصوصك ؟
القصيدة والمقال.. والكتابة بشكل عام، وليد نكبة تعيشها الإنسانية في إحدى زوايا حضورها.. والكتابة هي استجابة لمثير خارجي أو نفسي .. نريد ان نحطم اجدره لنكشف عن الصحيح منه أو استجابة لدمع يتدفق داخل حنايا الروح فيخرج على شكل قصيدة ..
الجديد في كتابتي لا يعني بالضرورة تمردا ً على السائد بقدر ما هو عودة للصحيح مما اختطه من سبقونا وبذلوا الجهد والوقت وكذا الأرواح من اجل أن يترسخ.. ما أرى من لغط حول رونق الفكر الصحيح جعلني متأنيا ً ومقلا ً .. فأنا لا اكتب الا حين لا اجد من يقول ما اريد قوله على مستوى المقال .
*ما الحافز الذي يمنحك لكتابة نص جديد ؟
القصيدة تسحبني من الذؤابة لاكتبها حين تتجسد بداخلي .. والدافع دائما زائر ٌ يلامس شغاف الروح ويكرر صدى البحر وتكسراته بداخلي ، حينها لا اخرج من دوامة الالم الا والقصيدة مضمخة بدمعي تتنهد خجلة كمن مارست الخطيئة لاول مرة.
*ما هي مخططاتك وأهدافك وما أهم قناعاتك التي تدافع وتعاني من أجل الكتابة عنها ولها ؟
الحقيقة دائما ً ما يدفعني للكتابة.. ولكن حقيقتي ربما تختلف عن مسميات اخرى لأشياء يعتقدون بأنها حقيقة.. صحيح ان الحقيقة واحدة نحن من يكثرها..
حاليا ً أعمل جاهدا ً مع ثلة من الاصدقاء لترسيخ مفاهيم استجدت في واقعنا الاجتماعي او انها كانت موجودة لكنها مختبأة زمن الديكتاتورية.. لنؤسس لها مكونين ركيزة ثابتة لشعب مقهور؛ يعيش مغالطات التجارة في الدين والسياسة وبراغماتية بائسة.. أسعى مع من يشتركون معي في الفهم لهذه المفاهيم ان نؤثث ما تكسر من صحيح على خارطة الوطن ونسعى لكشف الابيض من الخطوات السياسية والدينية الرائعة كما نراها.
*هل تستطيع الكتابة إن تفعل شيئاً في ظل الاحتلال والقتل المجاني وغياب الهوية الوطنية في خضم هذه التقلبات والمخاضات العسيرة التي يشهدها عراقنا اليوم ، أم لاوجود دور للكتابة في فعل شيء خلال هذه المشهد المشوه بالدخان والدم والأغتراب ؟
الاحتلال مساوق للزنا بكل تقاسيم فشله وقبحه.. ولا ينتج سوى الاصفار..
أن تكتب شيئا ً في ظل هذا التشوه والانزياح نحوه.. يعني أنك لا زلت تنبض ولا يكفي ان تتنفس وسط ضجة شواهد قبور لموتى اليأس .. ولكن من يكتب لينفخ روحا ً في جسد المواطن الذي اضطر لكتم أنفاسه وبالتالي ليعيد الروح اليه من جديد فهذا هو المتبتل في محراب الحقيقة.
*من يتبع من برأيك السياسي أم المثقف..؟ ومتى تفكك الأزمة المزمنة بين المثقف والسياسي العراقي..؟
ترسيم ملامح لـ(أزمة) بين المثقف والسياسي ، أزمة أنسانية بحد ذاتها ، من يكن سياسيا ً فمن لوازمه الذاتية المفروغ منها ، هي كونه مثقفا ً إنزاح الى مساحة الثقافة السياسية بشكل اكبر من غيرها .. وبالتالي كيف نفكك بين لازم وملزوم عقليين؟!
أما اذا كان المقصود قطيعة بين مثقف يؤمن بروح هذه الرسالة و( متسيس) جعلت منه الظروف صاحب ربطة عنق وأوراق يتأبطها كمن يحمل أسفارا ً لا يفقهها، فالكلام مختلف تماما ً عن الاول وهو بحق كلام دقيق وعلى (المتسيس) ان يتبع المثقف إذا أراد ان يتحول من حالة (حمل الاسفار) الى ان يكون سياسيا ً مثقفا واعيا ً لا ان يكون سياسيا ً بما له من ربطة عنق و اوراق.
*المعروف عن العراق هو بلد الشعر والشعراء فهل هو كذلك في مجال القصة .؟ ولماذا؟
الكثرة لا تعني الافضلية وما في العراق من قصة تدلل على ما اقول وما عليك الا ان تقرأ قصص لؤي حمزة عباس ومنتظر ناصر ومحمد خضير ..
*ما رأيك بالقول السائد “مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ”؟
الشعب العراقي قارئ محترف وهذا ما يكتب له.. اما هذه المقولة بالخصوص فكان وراءها دافع سياسي .. وإن كان من يكتب لا يعني بالضرورة أنه افضل ممن يقرأ والتاريخ كشف عمق من (يقرأ) في العراق ومنجزه الكبير على مستوى الكتابة.
* هل تؤمن بالخطوط الحمراء في المشغل الإبداعي ؟ أم أنك تكتب دون أن تضع أمامك مثل هذه الخطوط ؟
فرق بين أن تكون في معبد (آمون) الفرعوني وما عليك سوى رفع يديك مضمومة الاصابع على صدرك وتنحني راكعا ً أمامه دون ان تنظر الى ملامح احجاره ،وبين ان تكون مبصرا ً لما يدور حولك وعليك ان تستعمل بصرك في فحص ما يدور .. الخطوط الحمر يافطة معبدية قديمة ركلناها بجرأة سؤالنا المعرفي الذي حطم بدواخلنا صنم الركوع دون فحص.. وأما خطوط الاخلاق واحترام الذات والآخر فهي مبادئ إنسانية تضيف لفحصنا نورا ً آخر لتكون رؤيتنا منطقية .
*متى ينتابك القلق ؟ ولماذا.؟
عندما ارى من احسن الظن بإيمانه .. يكتب عن اهم البراهين التي تثبت وجود العلة الاولى!!! وعن كيفيتها ويشرح ادق تفاصيلها مثبتا ً وجودها ، كافرا ً بها!! .. حينذاك اعلم ان شيئا ً يخرج عن مساره والانسانية بخطر .. وأن الطافحين وراء المادة يمارسون شركا ً انسانيا ً آخر بعيد عن التوحيد .
*ديوانك ” صخب المسافات” متى سيبصر النور؟
لقد أبصر عتمة هذا الوقت وسيكون في سجن الاوراق إذا أطمأننت على قوت يومي، ولست متعجلا ً ظهوره فهذا لا يعني لي شيئا ً.
*من إطلع على مسودة روايتك ” البحر.. صديق الوجع” من النقاد قال بأنها ستكون ضجة في تاريخ الرواية العراقية.. مالجديد فيها؟
سيعرفه القارئ بعد خمسة أشهر تحديدا ً ان شاء الله.
اليها وهي تنتظر مسافتي ما يرشح من الالم
(1)
يعانقها شوقي ، يلامس يدها
فتفزع صارخة ً الم يأت بعد ؟!
الشراشف البيض اندفعت تزاحم العائدين ،
حين تيبست تراقب مَن حولها :
ألم تصل المسافة التي أخذته؟!
أمس انفرطت دمعة شوق منها ..
تمشت بين اوجاع غربتنا..
احسست أن السلالم تلعنني
للسلالم لعنة الآبهين بموتنا ،
(2)
عيون الغرابة التي تحيلنا الى دموع
تستغرق احلاما ً من الانتظار
(3)
الصبايا التي في خيالنا
خيول ، صهيلها القُ الذكريات
بحور حنيننا اليها لا زالت ظمأة
تستفيق على شعوب ٍ ،
تتناوب في توريث الوجع
(4)
لا تنسيني في هذه المتاهة
فانني ، لا اجيد فن البحث
داخل تجاويف الزوايا الميتة.