توصل بفيديو يوثق لمسيرة قيل بأنها لمثليين خرجوا يتظاهرون في أحد شوارع مراكش ، والعهدة على من رمى الشريط في وسائل التواصل الاجتماعي . سمع ضحكات نسائية تتعالى من هنا وهناك . فحص الوجوه . بدا شكل أحدهم مشمئزا وغريبا . قصير القامة ، بدين بمؤخرة بارزة ، كبر رأسه ، وغلظ أنفه ، وأحمر الشفاه ، وتساقط أسنانه الأمامية ، زاد من تشويه خلقته . لم يحقد عليه ، ولم يتضامن معه . وقف في منزلة بين المنزلتين . الله خلق الرجل رجلا ، وخلق المرأة امرأة . رأى في الماضي حالات قليلة ونادرة تشذ عن القاعدة . لا تخرج إلى الشارع ، ولا تتظاهر . لكن الناس طلبوا من الله أن يسترها ، ويعفو عنها .
تخيل إذا خرج عليه هذا المثلي في منطقة معتمة وخالية من الناس ، سيطلق ساقيه للريح كما حدث لهادي .
ـ لكن ماذا حدث لهادي !
هادي رحمه الله عندما يكون مزاجه رائقا ، يروي لشباب الحي حكايات غريبة . قال لنا مرة بأنه رأى امرأة تشبه جارية خرجت من إحدى ليالي ألف ليلة وليلة ، لم يمسسها إنس ولا جان . حدث ذلك منذ زمن بعيد . رآها تلتحف إزارا أبيض شفافا ، شبه عارية ، قامتها الفارعة كعود الخيزران . يجري الماء في جسدها مثل غصن البان . تُنافس القمر بأن تصعد مكانه لتنير الكون . لم يكن في السماء قمر تلك الليلة . كأنه نزل إلى الأرض وتقمص صورتها . لوّحت له بيدها ، ثم مدت ذراعيها من بعيد ، كأنها تناديه ، وتريد أن يأتي إليها لتحضنه ، وتضمه إلى صدرها . كل المآسي التي عاشها في حياته مرت في شريط سريع أمام عينيه ، كأن الله استجاب أخيرا لدعواته الباطنية في أن ينام بجانب امرأة مثل باقي الناس ، يمنحها قلبه ، ويضع رأسه بين ذراعيها ؟ لا لم يطلب شيئا من هذا . هذه ليست امرأة عادية ، هذه ملاك هبط من السماء !
كان قادما في وقت متأخر من الليل . مر من طريق المسبح المحاذية لحديقة مولاي عبد السلام ، ما بين السور وباب المسبح على اليمين وراء الموقع القديم لثانوية ابن يوسف . الطريق خالية يغطيها ضباب خفيف ، وعلى اليسار ، امرأة تتهادى في مشيتها بين الحفر والأتربة والمرتفعات . كأنها ترقص ، وتتلألأ ضياء مثل الدر المنثور . أطلقت الضفائر السوداء خلفها ، يتلاعب بها النسيم البارد ، ويرميها فوق الإزار الأبيض . بدا المكان معتما . ضوء خافت يلوح من مصباح كهربائي بعيد . أسرع الخطو ، وهو يلتفت ، والمرأة تسير خلفه مادة ذراعيها ، كأنها تتوسل إليه أن يقف . أحس بدبيب يتسرب إلى جسده من تحت إلى فوق . تصبب العرق من جسمه . فجأة وقع ما لم يكن في الحسبان . نزلت إلى الإسمنت ، خفض بصره ، ورأى رجليها . انتابه الذعر ! يا للهول ! شيء لا يصدق ! امرأة بهذه الفتنة ، وهذا الجمال لها أقدام ماعز . تردد داخله صوت ينبعث من حكايات قديمة ترويها الجدات لأحفادهن :
ـ (عيئشة قنديشة)* ! هكذا وصفها الناس الذين خرجت عليهم في الماضي . في كل مرة تظهر بشكل مختلف . ها هي الآن تمشي وراءك بقدمي معزة !
أطلق ساقيه للريح . يحتاج فقط إلى قطع مسافة تقارب ثلاثمائة متر ليصل إلى شارع محمد الخامس . كلما أسرع أحس وكأن الشارع يدخل معه في سباق لا ينتهي . لم يقف حتى كاد قلبه يخرج من مكانه . شعر بجفاف في حلقه . نظر خلفه ، وجد شبح المرأة قد اختفى . جلس على الرصيف لالتقاط ما تبقى من أنفاسه . لعن دخان القنب الهندي الذي أضعف قلبه ، وحدّ من سرعته في الجري . وقف على رجليه . قال لنفسه يجب الابتعاد عن هذا المكان . قطع بضع خطوات في طريق الجبل الأخضر ، ثم عاد أدراجه . المكان أيضا مظلم في وسطه . خاف أن تخرج له المرأة التي تشبه قدماها قدمي معزة من بين الأشجار الباسقة داخل الجدار المحيط بفندق المرابطين . لا بأس من السير في الشارع . أعمدة الكهرباء والسيارات التي تمر بين الفينة والأخرى خير مؤنس حتى يصل إلى مقهى الكتبية ، ويميل على شارع فاطمة الزهراء ، ثم يدخل مع باب حي القصور . لولا أن حلقه لا زال ناشفا لتوقف لتدخين (سبسي)* أو اثنان . الأزقة تبدو قاحلة مثل الثلث الخالي من الأرض ، لكن الناس تغط في نوم عميق وراء هذه الجدران . يكاد يشعر بأنفاسها تهبط وتعلو ، وهو ما بعث في نفسه شيئا من الطمأنينة .
سأل نفسه باستغراب :
ـ ما الذي أصابك يا هادي ؟ من قلب حياتك رأسا على عقب ؟ لا تخرج إلى التجول إلا في الوقت الذي ينام فيه الناس . ولا تنام حتى يستيقظ الناس .
لاح باب المسكن على بعد أمتار من السقاية . توقف ، ونظر وراءه . مد يديه للماء ، بلل حلقه . غسل وجهه ، انحنى قليلا ، وشرب مباشرة من الأنبوب . نزع قبعته ، رغم انخفاض درجات الحرارة مرر الماء على جلد رأسه . أحس بأن الدم عاد يجري في عروقه ، كأنه استيقظ من البنج . أخرج (السبسي) و(المطوي)* وعود الكبريت . أخذ نفسا عميقا . عادت إليه الروح من جديد .
بعدها أقعده المرض ثلاثة أيام ، لم يغادر خلالها الفراش .
—-
المعجم :
ـ (عيشة قنديشة) : وقد سماها البعض عائشة البحرية وقيل بأنها امرأة آية في الجمال عاشت في (مازاغان) وتدعى مدينة الجديدة اليوم ، وكانت تخرج في الليل ، وتصطاد جنود الاحتلال البرتغالي ليغتالهم المقاومون . ثم تحولت إلى امرأة تنتمي لعالم الجن في حكايات الجدات لإخافة الأطفال، ودعوتهم إلى النوم.
ـ المطوي : كيس صغير من الجلد يوضع فيه القنب الهندي مقطعا إلى حبيبات صغيرة تشبه في حجمها حبيبات الكسكس .
ـ السبسي : الغليون الذي يدخن فيه القنب الهندي ، ويصنع من عود نبات الدفلى .
المغرب ـ مراكش 25 دجنبر 2019