فنار العزلة/قداس البريكان الكوني
على حافة العالم يتشكل عالم آخر ، بعد إن تطوى كل الأشرعة المكتظة ويستريح المسافر الدائم على بقعة من الثلج كونتها ريح قديمة آتية من لامكان غالباً ؛ في ذلك الموقع الذهني المحدد بعقلانية بياض البدء تتكون بناءات فوضى عالم متجدد زلق لتبدأ أولى خطوات المسافر بعد استراحة قصيرة من الرؤية المشحونة بالتأمل الداخلي العميق نسبياً ؛ هناك ؛ في ذلك المكان الافتراضي تُعلَنْ نهاية صفحة من رحلة العالم الشاقة وبداية قداس لروح شاعر كوني ، وقف بغرابة مطلقة على حافة العالم دون أن يغمض عينيه لحظة ، وحيث بدأت معه حداثته في سلسلة من العلاقات الكونية قبل أن ينشئ أي علاقة أخرى ممكنة.
حداثة الشاعر محمود البريكان من النوع الكاسح المدمّر Cataclysm تجوز بعنف تلك الأنواع من حداثات التقليعة البسيطة ، أو الحداثة الناتجة عن ردود أفعال بإزاء أحداث أو أوضاع بعينها ؛ إنها حداثة كامنة في ذاتها ولا تترك بنىً حضارية أو فكرية إلا وقوضتها ، كما أنها في الوقت نفسه لا تتوانى عن طرح بديل مشحون بالتساؤلات والرغبة في المعرفة من جديد لملء فراغ العدم بإشارات أشدّ قسوة من كينونته الخاصة ؛ ولتكون قاعدة مثمرة من الحدوس العالية بإزاء عالم يرفض التغيير إلا على نحو عاصف ! فيقترح البريكان نموذجه لنا ( = معادله الموضوعي ) آتياً من رحم الماضوية الميثولوجية ( على الثلج ريح قديمة / زفزفة الريح / تعيد ذكرى حلم غابر ) ( قداس لروح شاعر على حافة العالم – 1970 ) . فأثث البريكان قصيدته من مكونات درامية توراتية معروفة ، وترك المقطع الأول منها بلا عنوان – وكأنه يريد من المتلقي أن يبحث عنه في المعارف القديمة ، أو ربما يكون هو صوت الشاعر نفسه في آن أيضاً . أما المقطع الثاني / الصوت(2)( الدبّ الأكبر يظهر في أفق آخر ) فقد جاء من معارف فلكية أولية للمراقبة الإنسانية القديمة ليلحقها بالصوت (3)( بنات نعش تختفي في الفلك الأحمر ) وهي معلومة فلكية أيضاً . لقد استخدم الشاعر معارف الإنسان الفلكية الأساسية لرسم صورته الشعرية ، كما أكد على معارف فيزيائية تتعلق بالحياة في القطب كما في الصوت (2) ( الريح القطبية لا تنقل رجع الصوت / لا تنطلق الصرخة / لا يتذبذب في الريح سوى نفس الموت ) . ويتلاعب البريكان بين معنيي الريح والرياح على نحو دقيق فيتطلب من المتلقي دقة في التفكّر أيضاً .
تكمن حداثة البريكان الكونية في تأمل الحدث الخلقي السريع والمكثف الذي يتظافر بعمق مع التخطيط الفكري المسبق والقصدية الفائقة قبيل الكتابة ، فالبريكان هو الذي يكتب القصيدة ولا تكتبه هي في اندفاعاتها وفورانها فتأتي مرسومة على ورق هندسي نحتاج فيه إلى أدوات خاصة لفك تكويناتها الداخلية . وتتمظهر قصيدة ( قداس لروح شاعر على حافة العالم ) لتريَ حداثة كونية مبكرة في الشعر العربي الحديث ، في اعتبار العالم الخلقي / الآني محض دراما منظمة يمكن للشاعر وحده أن يرويها فقط من خلال مركزه الكوني / المعرفي . وقد أفاد البريكان في تأثيث قصيدته تلك من المعلومات المهمة والكثيفة التي ترجمت عن آينشتاين ونظريته النسبية وما أحدثته من إثارة في عقد السبعينيات من القرن المنصرم . وهكذا فقد فتحت تلك النظرية الباب للشاعر لكي يطل على حافة كوننا الأحدب من موقعه الأرضي لبث تساؤلات شعرية فلسفياً مرة أخرى ، وبدا الأمر جدّ واضح في موقف الجوقة ( عند خطوط الحدود / تندمج الأزمنة ) لقد راعى البريكان تحول الزمن إلى صفر عند حافة الكون !.
وفي القداس البريكاني ثمة إعلان عن إعلان المتخيل بالأرضي ( = الأحلام + الحوادث ) إذ يتمازج ذلك أو يتقاطع عند حدود الحياة والموت : بين الحقيقة والمطلق ؛ بيد أن البريكان حتى في لحظة الوقوف تلك يبدو غير عابئ بالمطلق ، اللهم ، إلا بتلك الإشارات الخفية الناتجة عن ابتسامات الأموات للأحياء ؛ تلك الملاحظات النهائية عن لا جدوى البداية وعبثية ما كان ، فلا يخبرنا بها إلا الأموات وحدهم لأنهم سبروا فداحة اللعبة من مكانهم . ثم أن الشاعر يأتي في تلك اللحظة المهيبة – وهو الآن بعد رحيله الاضطراري يكونها – ليسجل كل ما حدث في رحلة طويلة غامضة وفاقدة لمعناها . هاهو يشن هجوماً ضمنياً حتى على ما قدمه آينشتاين لنا من إمكانيات تفسيرية محضة إذ لا شيء مضافاً في لحظة ( ترتسم الطفولة البيضاء في صفحة النهاية ) وهي صفحة لو توقفنا بإزائها قليلاً لوجدنا إن كل معاني النقاء والطهر الطبيعيين الناتجين عن فلسفة ( ياسبرز ) تتحول إلى غموض لعين في النهاية .
أن حداثة البريكان المتعالية يمكن أن تجد لها معنىً من خلال تفتق الحزن الإنساني الدائم من جراء الخلق والوجود الإجباري فيه ، وربما يكون في الوقت نفسه متعة معقولية في شنّ ذلك الهجوم من التساؤلات حول السرّ من الوجود ؟ وقداس البريكان الجماعي الذي يبدأ بنا ينتهي فيه وحده ؛ لأنه الذات الشاعرة الوحيدة المعنية بفضّ السر على الأقل ، ولكن ، حتى البريكان المدجّج بآينشتاين يعجز عن الإجابة بسبب تلك الابتسامة الغامضة الإشارية التي يرسلها الأموات للأحياء دائماً . أنها الحدس نفسه عن البداية والنهاية عن الخلق والمصير والعالم والمطلق المنتظِر ( بكسر الظاء ) عند حافة الكون . وهكذا من فنار العزلة يمكننا مراقبة كل شيء مع صعوبة بالغة في إعطاء تفسيرات معقولة وممكنة فما بالك بتلك التفسيرات التي تقدم قناعات كاملة ؟!
لاشيء في ظل تلك الرحلة المجانية التي ألقينا فيها في لحظة ما وأجبرنا على الخوض فيها سوى الموت ( = نقطة التحول إلى معرفة أخرى ) فهو كامن فينا وفي الوجود أيضاً . ولذلك يعمد الشاعر الكبير محمود البريكان على وضع نهاية غير حتمية لدراما عالمه مثلما يراه هو حيث تتقاطع الحدود الفيزيائية وتنكفئ الأفكار على أعقابها في لعبة الخلق والإنسان ، وما قصيدة ( قداس لروح شاعر على حافة العالم ) إلا محاولة لإثارة التساؤلات دون تقديم أية إجابة ممكنة . ومن هنا فهي إعلان مبكر لولادة حداثة كونية نقلت الشعر العراقي الحديث إلى مرحلة متقدمة على زمانها في التطلع الشعري المستقبلي .
——————————-
د. رياض الأسدي: قاص من البصرة وناقد