على ناصية ذلك الطريق بيت صغير ليس كباقي البيوت. بيت بدون جدران، بدون نوافذ. بيت سقفه السماء ، وفراشه الإسمنت. جدرانه كرتونية يكاد يسع صاحبه، وأحيانا يسع بعض القطط التي تفر من رماح البرد المميت.
ذات مساء وأنا أعبر الشارع باتجاه مقهاي الأثير ، كنت في الغالب أنعطف يمينا لأقتني جريدة تؤنس وحدتي، بعدها أتجه مباشرة صوب المقهى. بيد أنني هذه المرة سلكت زقاقا ضيقا يفضي إلى الشارع الرئيس، ليس لسبب وجيه غير إني أردت أن أختصر المسير.كنت أسير سير المتمهل ألتقط بعيني المارة المكفهرة ملامحهم وسلوكاتهم الغريبة .
بادرت بالانتقال إلى الرصيف الأيمن حيث يكتظ الناس لاقتناء ما يفترشه البائعون من بضائع مختلفة.كنت أعرض نفسي للاصطدام بأكتاف المارين الشديدة ،انحشرت بينهم وأصوات الباعة تضج أذني اللتين لم تعتادا على مثل هذا اللغط. أحاول أن أغمض أذني برمي طرف عيني اليمنى على البنايات العالية والأضواء والسيارات والسماء الصافية. وماهي إلا دقائق معدودات حتى استطعت النجاة، انعطفت يمنة ثم يسرة بعدها ولجت المقهى.
جلست على مقعدي الذي يطل على الشارع من خلال واجهة زجاجية، أخذت أبتلع عناوين الصحيفة .كانت تضج بمقالات عن القتل والنهب والسرقة والاغتصاب، وي كأن العالم أصبح مملكة غاب !!.
وضع النادل قهوتي الكلاسيكية على الطاولة بعدما تبادلنا التحية بلباقة، أرتشف القهوة فتدب النشوة في عروقي دبيب المياه من التربة إلى الجذور، ثم من الجذور إلى الخشب، ومن الخشب إلى الساق، ومن الساق إلى الأوراق.
وجهت نظرى إلى الواجهة الزجاجية أرقب السماء التي أغلقت نوافذها ،واغتربت بداخلها الغيوم التي عزفت عن المطر عزوف الشباب عن الزواج. وعلى غير العادة بصرت بما لم أبصر ، بصرت بعلبة كرتونية متوسطة الحجم بعرض عمارة لم تتضح لي معالمها جيدا .خرجت من المقهى بعدما أديت ثمن قهوتي، وعبرت الشارع إلى الرصيف المقابل . خطوت خطوات لأستطلع أمر ذلك الكرتون فترآى لي خيال صبي نائم ، غاطا في نوم عميق.
طفل متشرد بئيس يفترش الأرض يقضي ليلته بعدما هده التعب ، يحوم بين الحاويات جامعا ما يطيق من العلب. كان مالها يكفي أن يسد رمق معدته الخاوية،يتنقل ببيته الصغير كل ليلة، ويركنه أسفل البنايات، وبعد أن ينبلج الصبح يستيقظ ليسعى سعيه. وحينما يهده التعب يجلس في الرصيف المقابل للحديقة يشاهد أترابه وهم يلعبون على مرأى من أهلهم. يعيشون يومهم بيومه بل ساعتهم بساعته.. لا يأخذهم التفكير ولا التخطيط لغد.. ولا يفكرون كيف سيكون؟ وماذا سيعملون؟.
كان يشعر بأنه مطحون في ركن منسي من هذا الكون، يشعر برغبة في البكاء كلما تذكر مضارعته أمواج الحياة العاتية. نحن لا نختار حياتنا، نسير في سفينة القدر التي ترسي بنا إلى حيث تشاء أن ترسي.
سرت شارد الذهن ،يحملني حذائي إلى المكان ذاته الذي صقل رجولتي. جلست على رصيف البؤس الواطئ، أرنو إلى تقاسيم الحديقة التي صقلت رجولتي، أفكر في هذا الطفل الذي يسكنني و يطاردني ، بلغت أشدي وهذا الطفل لا زال جرحه مطمورا بين ضلوع تلك الحديقة..