1
السماء تُمطر في الخارج. فتح النافذة، ووقف بجانبها يتأمل زخًات المطر، وما تحدثه من إيقاع، وهي تتساقط تارة بطيئة ورقيقة، وتارة سريعة وقوية. لفحته ريح باردة. رأى في سن الشباب بأن الأمطار أولى أن تسقط في الأرياف والبوادي، فهما أكثر حاجة إليها من إسمنت المدن. لكنه عشق أن يسير كالسكران بدون مظلة، يغتسل بالمطر مثل الشجر. لم يسبق له أن فعل ذلك عن قصد. فقد ترك الأمر للصدف التي نادرا ما تجود بتحقيق ما نحب.
2
لم تكن الدروب في الماضي خالية من الأطفال مثلما هي عليه الحال اليوم. بالأمس كان الأطفال يحتفلون بسقوط المطر. يجرون في الأزقة برؤوس عارية، يتلذذون قطرات المطر، وهي تمتزج بعرقهم، وتُبلّل شعرهم ولباسهم وأحذيتهم، وتغسل وجوههم، وهم يرددون بصوت عذب:
ـ (الشتا تاتا تاتا
أولادات الحراثة
آصبي صبي صبي
آولادتك في قبي
أمك تجري وتطيح
بّاك ادّاه الريح
آ المعلم بوزكري
طيب لي خبزي بكري
باشْ نْعشي وْليداتي )
بعضهم يتوقف عند هذا الحد. لا يعلم بأن للأغنية بقية ذات حمولة سياسية أخفاها عنه الكبار، تجنبا لأوجاع قد تجر عليهم مشاكل لا قِبَلَ لهم بها مع العين التي لا تنام.
وعندما يدخلون في المساء إلى البيوت يدفئون أيديهم وأرجلهم وينشفون ثيابهم المبللة فوق نار (المجمر)*. يسرقون أصغر حبات البطاطس الحلوة من المطبخ، يشوونها ويتناولونها بتلذذ، وهي طازجة.
3
بعض الأطفال والشباب لا يحبون اليوم المطر. ينزلون من سيارات الأهل، ويسيرون ببطء تحت مظلاتهم نحو الأسواق والمحلات الكبرى. يخفون أجسامهم البدينة بفعل الكسل، وقلة الحركة في معاطفهم التي تمنع عنهم البلل. يقتنون ألبسة جديدة، يعلمون بشكل مسبق أشكالها وأنواع نسيجها وأثمانها وألوانها، فلا يأخذ منهم البحث عنها وقتا طويلا. ثم يتناولون أكلة سريعة في الخارج، ويعودون إلى بيوتهم. يختبئون في غرفهم تحت الأغطية الناعمة، أو يشعلون المكيف الهوائي. أغلبهم متجهم، إذا حدثته ، ينبس بكلمة، أو اثنتين مبديا عدم الرغبة في الكلام، ثم يسرح بهاتفه في عالم ما وراء البحار. وإذا نزعته منه، أخذته نوبة من الهستيريا، وملأ البيت صراخا. وفي صباح الغد تهيئ له ماما الفطور، وتخاطبه بالفرنساوي ، وتأخذه إلى المدرسة.
يزرع الزوج كذبة خفيفة على مائدة الغذاء في منتصف النهار، ليجني ثمارها في المساء. فهو مدعو لحفل بمفرده. تقف سيارة (الرونج روفر) أمام ملهى ليلي ترقص به الشيخة (الطراكس)
ابتلعت الرأسمالية الكثير من الناس، وشوهتهم بعد أن حولتهم إلى صيادي همزات*، ومدمني مؤخرات.
4
يقف أحمد صحبة أطفال الجيران في الدرب تحت السقيفة، يتابع لعبة (البينو)*، وينتظر دوره. المطر يتساقط بشكل خفيف، ويتسرب معه برد قارص، قادم من جبال الأطلس المكسوة في هذه الفترة بالثلوج. وقت الغذاء لا يزال بعيدا. يعود سعيد من البيت، يحمل قطعة خبز محشوة بحبات الزيتون الأسود بعد أن نزع منه النوى، ويقدم له مضغة ليتذوقها. أما علي فقد حشا خبزه بقليل من غبار السكر، وزيت الزيتون.
يرتدي الأطفال ألبسة متواضعة، ومتشابهة تقريبا. سروال (الدجينز الصحراوي الأزرق)، وحذاء على قد الحال، أو صندل من البلاستيك بجوارب مثقوبة في أغلب الأحيان، وقميص صوفي تهدلت أكمامه. يلبسون عن طيب خاطر ما يُشترى، ويُقدم لهم. والمحظوظ من يسمح له والده بمرافقته من أجل القياس فقط، لا الاختيار. وعندما يرتدون قميصا، أو حذاء جديدين، يُقبّلون أيادي أو رؤوس آبائهم، وهم سعداء يضحكون، وينتظرون فرصة الخروج من البيت لاستعراض اللباس الجديد أمام باقي أترابهم.
5
كبر الأطفال، وذهبوا إلى المدرسة. في أقل من أسبوع حفظوا الطريق. تجندوا بعد ذلك للذهاب بمفردهم. حمّسهم الكبار بأنهم أصبحوا رجالا، وعليهم الاعتماد على أنفسهم.
بدت لهم المدرسة جميلة وفسيحة، تتسع لعدد كبير من الأطفال من مختلف الأعمار. يجلسون على مقاعد خشبية، تنتظم بتناسق كبير داخل فضاء القسم. المعلم ببذلته الأنيقة يدون على السبورة تاريخ اليوم، وعنوان الدرس بخط جميل، ثم يجلس في مكتبه، ينادي بالأسماء قبل أن يستهل الحصة. كل طفل يسمع اسمه يقف، ويجيب:
ـ حاضر يا أستاذ.
المطر يتساقط في الخارج، والمعلم في وسط الحصة ينشد داخل القاعة، قطعة (يا إخوتي جاء المطر)، ويطلب من الأطفال أن يُرددوا خلفه بنفس اللحن: (هيا نجلس تحت الشجر). أحمد بوكماخ* يحتفل أيضا مع الأطفال بقدوم المطر.
6
تخلصوا من جحيم الفقيه سي العربي. عندما يدخلون المسجد يجلسون أمامه فوق الحصير في غرفة واسعة، وشديدة البرودة تأتيها الرياح من اليمين والشمال، وهو يتربع بجسده البدين فوق دكة عالية بجلبابه الصوفي، ويضع بجانبه قضيب زيتون يانع. يرددون خلفه ما يتلوه من آيات من الذكر الحكيم بأصوات تصل إلى الخارج، ولا يبدأ الجحيم إلا باستحضار ما حفظوه.
جاء الدور على أحمد ليجلس أمامه. بدت له أذنا الفقيه طويلتان مثل نعلين من البلاستيك، ووجهه أسمر عريض، وقد نبتت فيه حبيبات صغيرة، غطت الكثير منها لحية كثة، بدأ يغزوها الشيب من الأطراف والوسط. يسهو على كلمات لا يفهم معناها، فينفلت خيط الآيات من ذاكرته. يتوقف! يُعيد من البداية علّهُ يتلقّف الكلمة الضائعة، لكن بدون جدوى، وكأن الشياطين تعمدت إخفاءها عنه. تمتد يد الفقيه خلسة إلى حنجرته، يصطاد تفاحة آدم، ويضغط على جلدتها بقلم من قصب حتى يرتفع الولد من مكانه، وكأن طائرا جارحا يشدّه من حنجرته، ويطير به إلى مكان عال، ثم ينزل بالسوط على وَرْكِه. لا تعود إليه الروح، حتى يرخي الفقيه أصابعه، فتتحرر رقبته من اللّسعة التي تشبه في ختامها لسعة العقرب. أما آثار السوط فستبقى علامتها الزرقاء موشومة على الورك، وأعلى الفخذ تحرق الجلد لأيام طويلة.
(أنت تذبح، ونحن نسلخ)، عرف مقدس يسمح للفقيه، ثم المعلم فيما بعد، أن يفعلا بالأطفال ما يشاءان. كابوس لم يستطع أحد في ذلك الوقت أن يتحرر منه.
استسلموا لقدرهم معتقدين بشكل جازم بأن جميع الأطفال في العالم يمرون من نفس الجحيم.
أه لو فعلتنها يا سي العربي اليوم ! لفضحوك في وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، ونشروا صورك، واتهموك بانتهاك حرمة الأطفال! وأضافوا إليها جرائم لم تخطر لك على بال، وزجوا بك في غياهب السجون.
6
حل طائر (طبيبت)* اليوم باكرا يتجول داخل البيت بعد الانتهاء من وجبة الفطور. وقد نهى الكبار عن مسه بسوء. فهو طائر مقدس، وفأل خير، يعاقب الله كل من يعتدي عليه بالشلل أو العمى أو غيرهما من العاهات. لذلك يتركه الناس يلتقط بكل حرية فتات الخبز من فوق الموائد، وحب القمح المنشور في الشمس فوق السطح، أو في وسط المنزل. والبعض يعتقد بأنه سينال على ذلك أجرا كبيرا يوم القيامة. وإذا سقطت فضلاته على رأس أو ثياب أحدهم، فهو يعلم بأن الله يعده بخير عميم، سيناله في القريب العاجل من الأيام.
7
في الأمسيات الباردة يسير الأطفال في الأزقة بأجسام نحيفة مثل عود الخيزران. تلتصق الذراعان بالجسد لمنع البرد من استغلال أي فجوة بين الأطراف. قِدر من فخار أحمر اسْوَدَّ قاعه بالنار، مربوط أسفل عربة يدوية صغيرة، يقف خلفها رجل خمسيني وأمامه صحن أبيض كبير من ثمار البلّوط، يتصاعد منه بخار يشد انتباه المارة. ثمرات بنية تميل إلى السواد ناضجة وهشة وحلوة مثل السكر. مُدٌّ مُعَلّب داخل قطعة وَرَق بريالين، يُسيل لُعاب الصغار والكبار. وعلى بعد خطوات عربة أخرى تبيع الفول البني المسلوق، ويُنثر فوقه الملح والكَمّون، فيُصبح مع حاجة الجسم إلى الطعام في الأيام الباردة ألذ من الشواء.
8
أغمض عينيه لفترة، وأعاد فتحهما. صور تجيء من بعيد، وتمضي مثل سنا البرق. أحس كمن يقبض على الماء، وتخونه فروج الأصابع.*
المعجم:
ـ أشتا تاتا : الشتاء ـ الحراثة : الفلاحون ـ صبي : تساقطي ـ قُبّي : قطعة الجلباب التي تغطي الرأس ـ تطيح : تسقط ـ باك اداه الريح : أباك أخذته الرياح ـ طيب لي: اطبخ لي ـ بكري : باكرا ـ باش : لكي
ـ المجمر : فرن صغير من طين يوضع فيه الفحم ، ويطبخ عليه الطعام ، أو يغلى فوقه الماء لعمل الشاي.
ـ لعبة البينو : البينو قطع صغيرة ومستديرة من هوائي الدراجة تشد بخيط ويضربها اللاعب برجله إلى أعلى، ولا يتركها تسقط على الأرض، ويفوز في اللعبة من حصل على أكبر عدد من الضربات.
ـ همزات : ج همزة أي صفقة مشبوهة تدر أرباحا خيالية
ـ أحمد بوكماخ : معلم ومؤلف سلسلة اقرأ التي اعتمدتها وزارة التربية ككتاب مدرسي بسلك التعليم الابتدائي بالمغرب في ستينات القرن الماضي
ـ طبيبت : طائر مقدس يتواجد بكثرة في منطقة تانسيفت الحوز بالمغرب
ـ ( كمن يقبض على الماء، تخونه فروج الأصابع) : العبارة مقتبسة من بيت شعري لقيس بن الملوح.
مراكش 12 / 11 / 2020