من يقرأُ كتاب (الحداثة السائلة) لـ سيجموند باومان، أو كتاب ( نظام التفاهة) لـ الآن دونو، أو كتاب ( ضد المنهج) لـ ڤيير آپيند، وحتى كتاب ( الإنسان ذو البعد الواحد) لـ هربرت ماركوزه، من يقرأ هذه الكتب وأمثالها يخرج منها بوعي مضطرب في كثير من المسلّمات الأصيلة، والمستغرَب الطارئ في حياته على حد سواء.
ربما بدأتُ أشعرُ بعد ١٥ سنة من القراءة اليومية تقريباً، أن إدمان القراءة أسوأُ إدمان يمارسه الإنسان على ذاته الواعية وغير الواعية معاً.
ومهما يكن من شيء، أوَدُّ اليومَ أن أكتبَ عن ظاهرة تتجول في رأسي الآن:-
من زمان وأنا لا أحبُ المناسبات، ولا أرغبُ في الكتابة عن أحداثها. لذلك دعوني أشخّصُ لكم ظاهرة ثقافية تجذرت في وعي العالم كله على مستوى الأفراد والمجتمعات والأمم.
هذه الظاهرة هي(( ربط الحدث بالزمان أكثر من ربطه بالمكان )) من خلال استذكار الحدث في يوم معين من كل عام، من غير الحاجة إلى الحضور في مكان حدوثه” عادةً “.
أنا هنا أحتجُ على هذا النظام، وأزعمُ أن(( مكان الحدث أدلُّ عليه من زمانه)) وهذه الجُملة هي الغاية التي أكتبُ من أجلها مقالي هذا.
هناك مناسبات اتفقَ العالمُ كله على توقيتها والاحتفال بها في يوم معين من كل عام مثل، عيد العمال وعيد الأم، ومناسبات وطنية تخص الشعب الواحد، كيوم الاستقلال وعيد النصر، ومناسبات شخصية، كعيد الميلاد وذكرى الزواج.
فماذا يعني الاحتفال بحدثٍ ما بمجردِ مرور ٣٦٥ يوم من زمن حدوثه في كل عام. فعلى سبيل المثال، أليسَ الوقوف على جبل سنجار كلما أمكن ذلك أدعى لاستذكار جريمة الدواعش بحق الطائفة الأيزيدية من استذكار تلك الجريمة مرة واحدة من كل عام في مكان آخر.
صحيح أن ربط الحدث بالزمان أكثر من المكان هو إجراءٌ عمليٌ يُسهّل توثيق الحدث نفسه في ذاكرة العائلة وسجلات الدولة، مما يساعد على تخليد ذلك الحدث في وجدان الفرد أو المجتمع، وصحيح أن الحضور في مكان الحدث قد يكون مُكلفاً وشاقاً على الجهة المحتفلة به، لكن الاحتفال بالحدث في مكان حدوثه سيكون من الناحية الواقعية أكثر دلالة وتأثيراً واستذكاراً من مناسبة الزمان لذلك الحدث بعيداً عن مكانه.
وعلى أية حال، أعلمُ صعوبة تطبيق هذا الرأي، لكنه أعجبني من الناحية المنطقية على الأقل.
فقبل أكثر من شهر ذكَّرني الفيس بوك بعيد ميلادي، وهو لا يدري أنني لستُ بحاجة إلى أن يأتي يوم ٨/٢٦ من كل عام لأتذكرَ هل أنا مازلتُ شاباً أم أمسيتُ كهلاً. ففي السنوات الأخيرة التي عشتُها صرتُ أشعرُ بالتكاثر والتثاقل.
نعم… لقد أصبحتُ ثمانية أفراد بعدما كنتُ فرداً واحداً. وأصبح لديَّ بيت وسيارة ووظيفة وعلاقات اجتماعية متنوعة.
لدَيَّ بيتٌ أكبر من ذلك البيت الذي كنتُ أرسمه على ورقة درس الفنية، وسيارة أكبر من تلك التي أهدانيها أبي عندما أصبح ضابطاً في الحرس الجمهوري العراقي سنة ١٩٨٦، ومكتبة وفيرة بأنواع الكتب، وحديقة مليئة بألوان الورد.
ولدَيَّ عائلة تثرثر كثيراً، وتلهو كثيراً، وتأكل كثيراً، وتنام كثيراً، وتحبني كثيراً، وأحبها كثيراً أيضاً.
ولديَّ ذاكرة ملتهبة ومترهلة، تملؤها الوجوه والأصوات والمناسبات، ذاكرة أشد التصاقاً بي من ظلي. ذاكرة تملأ فراغي، وتؤنس وحدتي أينما كنت.
أتذكر جيداً عندما كان اسمي ضياء فقط، وكانت أمي تناديني”ضُوَه”.
لست بحاجة إلى أن تُذكِّرَني مناسبةُ عيد ميلادي بأن”ضُوَه” صار ضياء العذاب الذي يُشير اسمه إلى ثنائية كيميائية مُعقدة المعنى.
لست بحاجة إلى أن تُذكِّرني مناسبة عيد ميلادي بأن ” ضوه ” صار ضياء العذاب المهموم بكل هذه العذابات.