بجتاحني طوفان من الحزن، أشعر أنني أؤدي دورا تافها فوق خشبة مسرح اللامعقول؛ يضرب الهذيان عقلي؛ ثمة مشاعر متناقضة، نظرت في المرآة فهالتني تلك التجاعيد التي تجذرت، بحثت بين أوراقي عن شيء أفتقده، تعودت أن أدون أهم أحداث عمري؛ نجاح أو زواج، قصاصات تكون تذكارا من الزمن الجميل، لا أدري ما الذي جعلني أعود إلى تلك السجلات الصفراء، هي باهتة مضت دون رجعة، ما الذي أخفيته؟
ربما قصيدة شعر ترنمت بها، رسالة ضلت طريقها، أوراق ورد مجففة، ها أنا أعتاش على الماضي، تسربت أحلامي ماء من بين أصابعي، لم يبق لي من هذا كله غير خيوط عنكبوت من عالم انطوى، أخذوا معهم الزمن الجميل ومضوا، كلما سرت في طريق يطاردني طيف منهم، سرت أشبه بريشة تذروها الريح، هل أنا التائه من عالمه أو الهارب من أيامه؟
يخايلني شك أنني إنسان آخر، من كنته يوما مات، اندثر وما عاد يعرفه أحد.
ضربت الفوضى حياتي أشتاتا، لا رجاء في يوم مليء بالهموم، وتشوف إلى غد محاط بأسوار من الحزن القاهر.
جئت إلى هنا وحيدا، لم يكن يسمع بي أحد، في عالم مصاب بالجنون تبدو الأشياء بلا نفع، الشمس مصابة بالنزق؛ إنها لا تستريح أبدا، تعطي دفئها دونما مقابل، يتعاقب الليل والنهار في ساقية يوشك أحدهما أن يفترس الآخر، إنها فوضى تهز كياني، لم يرأف بي أسود الوجه، قدمه الغليظة وهراوته الكريهة تركا على ظهري ندوبا لن تمحى، علامات قهر لحمل وديع افترسه ذئب.
تخفيت وراء قناع من عدم الاهتمام؛ الرجل الذي فقد ظله، المقهور داخل قوقعة من فوضى خانقة؛ إنهم يخطفون الأحلام ومن ثم يبتاعونها قطع غيار من أجساد بشر سرقوا في غفلة من حرس أصيبوا بتخمة النزق.
طلاء من زيف يتداوله الناس في بلاد تدلس على نفسها، تموت داخل إهاب منطو في شرنقة بالية، ليتني بلا عقل؛ ربما نمت تحت كوبري أو على قارعة الطريق، تتابع نشرات الأخبار في لحن جنائزي، تضرب الأعاصير بلادا كثيرة، تستعر النار في حدائق الليمون؛ تتحول بحيرات البجع إلى مقالب نفاية كريهة.
تتكدس الخرافات في عقول بريئة؛ يزرعون الشوك ويغتالون الياسمين. يطاردون اليمام؛ لا ذنب له غير طيبته الزائدة عن حد التصور، حتى صرير ألأقلام يزعجهم؛ يقطعون جسد الكلمة ويخفون معالمها، أي وحشية تلك؟
لست وليا من أولياء الله الصالحين؛ هؤلاء الذين تعالوا على جراحهم، لي رغبات دنيئة تغالبني؛ أنثى تعبث بلحيتي، سيارة فارهة كما يمتلك أقراني، أرصدة في مصارف المدينة، وجبة ساخنة في مطعم مشهور، مقعد في طائرة، أحلام بأن تتحدث عني صحف الصباح.
ألست بشرا؟
لم أنا دون الآخرين لا أمتلك حافظة نقود خضراء، يتعداني المارون بحافلات النقل، ينكرون أن لي قلبا، يبتعدون كل واجد في سبيله، إﻻ أنا، ميقات دقيق للمتخلفين عن الحياة.
كﻻ لست وصيا على أحد؛ ليذهب الآخرون إلى الجحيم؛ من سرقوا يومي، إنهم لم يتركوا لي كسرة حلم يوصلني إلى مرفأ النجاة، تركوني وسط البحر أصارع همومي التي ابتلعتني، تعاطيت دواء الصبر الكريه، لست راضيا بذلك الدور البائس؛ موظف في دلئرة تميت في إحساس النبوغ، أخط توقيعي في سجل العمال، إنهم يتعاملون معي كما لو أنني صفر على الشمال لا قيمة له.
علي أن أبتعد، يسخرون مني، يرون أن من لديه قلب مصاب بفرط السذاجة عليه أن يغادر مدينتهم، ليس هذا فقط بل لا حق في الحياة، رأبتنم كيف ينسى الناس الحب؟
لقد انقلبوا وحوش ليل مظلم، بعدا لمن أبعدني إلى تلك الأمكنة الفاسدة، تصج برائحة الغدر، أمشى على أبر صدئة، يأبى الهم إلا أن يسرق ساعة أبحث عنها بين تلال من الأشواك.
انطويت على ذات منكسرة، يؤلمني أن أكون عاجزا، ليس هناك مرارة أقسى من الانزواء بين أربعة جدران سوداء، تمنيت الجنون وما استطعته، خلت أنني في بلاد أخرى، تسمح للساني أن يتفوه بما يريد، يرفع صوته عاليا، ينام وقتما يريد، يستنشق هواء نقيا، يمرح في لهو، يجري طفلا؛ يقلد الطيور في مغازلة وجه القمر، فجأة تتابعت صور كريهة، عيون متلصصة؛ آذان تسمع الهمسة إذ هي نجوى.
غضب محموم يدمي، كراهية وحقد دفين، ليت كل هذا اندثر، إنهم يتناسلون شياطين الخراب، يتبع بعضهم أثر بعض.