لو حكى ذلك بالتفصيل الممل اليوم، لما صدقه الناس. سيقولون بأنه عاش في زمن آخر، وكوكب آخر.
اشتدت موجة الاختطاف والاعتقالات. قرر الاختفاء عن الأنظار، حتى تطلع الشمس. منذ شهور وهم يبحثون عنه. رأى أحدهم يجلس بجانب دكان بائع الفحم والغاز. في المرة الثانية رأى شخصان غريبان يقفان أمام دكان البقال، ويتبادلان معه الحديث كأنه صديق حميم. في كـل مرة يجدهم يراقبون مدخل الزقاق، يغير الاتجاه، ويعود من حـيث أتى، من غير أن يشعر أحد بذلك.
مضى عام كامل، والبيت على مرمى حجر، لكن العـين التي لا تنام تمنع الشمس من الشروق، فيعود أدراجه.
هذه المرة جرفه الحنين إلى النوم في فراشه، وتناول القهوة التي تعدها أمه. الحنين والحب نقطتا ضعفه.
وَهَنَ* توجُّسه. لم يلاحظ شيئا، ربما غيروا خطة الانتـشار والمراقبة.
أشبع حنينه بخبز وقهوة أمه. تلذذ حركة أناملها، وهي تداعب خصلات شعره الناعم في صمت حتى نام ملء جفـــونه. لم تكن تعلم أنها تودعه، فقط أحسّت مثل أجمل الأمهات بخوف غامض، سرق النوم من جفنيها.
مَدّهُم الهدهد بالخبر اليقين. جاء الزوار في منتصف الليل، كمن يبحثون عن غريم منذ زمن بعيد، وأصبح وجودهم يتوقف على القبض عليه حيا أو ميتا. طوقوا الحي بكامله. وهو غارق في الحـلم، خلعوا الباب، وانقضوا على الغرف مثل الوحوش الضارية.
خطفوه من فراشه بثياب النوم، وأحكموا قبضتهم عليه، بعد أن أشبعوا أهله ضربا وشتما. أخته تصرخ. أمه تُمسك بذراعه ، يدفعها بغل بقوة حتى ترتطم بالجدار، وتسقط مغمى عليها. تلذذوا بصراخ الأطفال، وهلع الكبار. قلبوا البيت رأسا على عقب. فتشوا عن البنادق والقنابل والمنشورات. أي شيء يمكن أن يؤدي إلى شنقه، أو يغرقه في السجن إلى الأبد. لم يعثروا إلا على بعض الكتب فانتفضوا غاضبين. حطموا أواني المطبخ. تمنى لو عثروا على قطعة سلاح ، وخرجوا مبتسمين.
استيقظ الجيران، وأطلوا عبر الشقوق على أشباح تتحرك مــن خلف ظلام الأبواب، وقلوبهم ترتجف من شدة الرعب.
هؤلاء زوار بلا هوية، يعملون في أقبية تحت الأرض، ومن يأخذونه إلى ظلامهم قد لا يعود.
بعد ذلك بدأت رحلة عذاب طويلة ومؤلمة. أكثر من سنتين وأسرته تبحث عنه في مخافر الشرطة والمستشفيات والسجون. لا خبر عنه، كأن الأرض انشقت وابتلعته.
لا بد أن يشكر الرب لأنه نجا مـن الموت، وبقى صامدا خلف هذه العين ذات الجفن المعدنية، حتى دقت ساعة الحرية.
وجد اليوم نفسه وحيدا، يعيش على الذكرى. مُنزَوٍ هناك في ركن الغرفة، يُحذّق في نجوم السماء. يبتسم ويُراهن على أن الشمس لا بد أن تشرق.
المعجم:
ـ وهن : ضعف
مراكش 23 مارس 2021