من هذه العوالم الساحرة تنبثق لحظة الكتابة في أوقات متفرقة، حين يطل الشاعر من حدائق الزمن والأمكنة برؤيا مختلفة ، يجد الفضاء قبالته فيمد بصره نحو الأفق، وتارة تصطدم الفكرة بمصدات شاخصة وأخرى وهمية، تبدأ خرائطها على ورق التذكر، تنمو مثل الفكرة ، تتسع، تتشظى لتنتج مدنا أخرى، بأنهارها الكبيرة والصغيرة، بمنعطفاتها، شوارعها المزدحمة بالكلمات واليافطات التي تشبه إلى حد ما أحلامنا المحشورة في رؤوسنا الصغيرة.
•حديقة أولى
وأنت تطل من خلال حديقة منزلك القديم نحو نهر يقع نهاية شارع عريض في مدينة هادئة، نمضي كل يوم حيث تنمو على جرفه النباتات الواطئة الطرية، فيما تغمر الجهة المقابلة الأكوام الطينية المترسبة من منظومة المد والجزر في شط العرب، هذا هو نهر الحوامد في التنومة، ستبحث عن تفاصيلها.
الأنهر الفرعية المتشعبة من مسالكها الرئيسة يغفو على أكتافها النخل، فيما السعف المتدلي يرسم لوحات ربانية ساحرة على وجه النهر بعد أن تنام الشمس على عذوقها المتدلية، تبهجنا لحظة الوصول إليه، بعد أن نقتحم مشاريب متنوعة يحفرها الفلاحون لتوصل إلى زروعاتهم الماء، يتفننون برسم وتوزيع (مشارات) الخضروات على شكل مربعات ومستطيلات مكسوة بخضرة تتمايل مع هبوب الرياح الخفيفة، يسحرنا تمايلها مع هبة كل نسيم، وأخرى وهي يمتد طويلا بأذرعها المنحنية، هكذا تتنوع المساحات في التنومة فيما النساء يحوشون الرطب والتمر المتساقط في محيط النخلات المتقاربة.
نبتكرها لنغادر سجن الحياة نحو فضاء شاسع لعوالم البوح، نبتكر همومنا ونعالجها بالرسم على حائط الروح، تقترب الأزقة من بعضها وتتداخل الأنهار في نهر الكتابة، وسط التماعات الشمعة على محيا النهر، كان النورس يدخل في عدسة المصور المنشغل في تدوير زوم عدسته ليتفاجأ بأجنحة النورس محشورة في كاميرة الحياة، هذه قلب اللقطة التي نتوجسها احيانا، لكن ما عساني نفعل باللقطات المحجوبة خلف غبارات الوقت وشفرات اللحظة الهاربة.
•حديقة ثانية
يحرص الشاعر من حديقته الأخرى على متابعة ( التفاح الحرام) في ساعات متأخرة من الليل، احيانا يشق الفجر صمته ليتسرب الضوء الأبيض من خلال النافذة الخارجية، وهو يراقب حركة الممثلين البارعين في تقمص أدوارهم- أدوراهن ليثير الدهشة في اللعب الغامض على المكائد للحصول على وجه اجتماعي من الطبقة المخملية، تتصارع النساء الشقراوات على الرجال الأثرياء، بطرق محتالة وخطوات مدروسة في إزاحة بعضهن عن طريق الرجل الكهل صاحب النفوذ والقصور الفخمة والسيارات الفارهة، حتى تنصدم إحداهن بخيانته مع فتاة أصغر منها سنا.
تتوالى الأحداث وتتواتر المشاهد تحت ظلال جسر البسفور وإطلالة القصر على البحر، تقف حائرا أمام حركة الكاميرا ، فيما يحجب اللقطات الأخرى النورس بخفقة جناح صغير، تنعكس الحالة على موائد الطعام التي تتباهى امرأة القصر الشقراء أمام ضيوفها من الطبقات الراقية، كل هذا ممكن جدا لكن ما أن تنتهي أحداث المسلسل حتى تكتشف الفوضى التي خلفتها على وقتك وانقلاب وقت النوم وتعسر متابعة احداث الحياة الأخرى، هنا تناول الشاعر قلمه ورسم خطة نص جديد في عوالم مغايرة.
•حديقة ثالثة
لكتابة نص أدبي جديد لابد أن يغادرك الملل، ترصد حركة – الطبكة- وهي ترسو على حافة ذراع ممتد في شط العرب، بحركة تقترب من المرسى لتُنزل حمولتها من الناس على الضفتين، وتلمح العوامات المتآكلة وقد استخدمها الصيادون مكانا لرمي – الشص- في عمق معقول متأملين صيدا وفيرا من سمك طازج، هذه هي الفكرة المتوالدة لنصوص أخرى.