(غبار الصمت)
في زمن الانتظارات الرطبة والعطن، نسجت أمة من عناكب دولتها على النوافذ المضببة وعلى الأرواح المستنزفة زرقتها باكرا، على دولاب الملابس العاري والأبواب التي ترتعش بشيخوخة، البسط الشعبية المتيبسة كما الأرحام التي لم تطأ منذ أمد غير قريب. الصمت المتكدس على الساعة المعطلة، الأقفال المتزاوجة، الستائر المنزوعة اللون، الضحكات المندسة كعلكة في ثقوب الجدران المصابة بالبهاق، خيالات الوجوه المتعرقة وبرودة الصمت الذي أغرقت المكان منذ سنين بغبار الغياب.
على مهل، صرير الباب يسمع الآن. انفراجة صغيرة ينهمر من خلالها جدول من ضوء الشمس يطفو فوقه جسد فتى لامع كقطعة زجاج أسود صقيل وقعت من واجهة الليل الهائلة.
أصوات أنثوية خافتة تتعالى تدريجيا بشكل ممسرح :
رجع مسعود رجع…، مسعود، مسعود، مسعوددددد،،، يضاعف نفسه الصدى ألف مرة،
: مسعود، مسعود، مسعود عود،، دد دد ….
فجأة يسود صمت وعتمة.
…….
(أم غايب )
في أواسط السبعين، ببشرة سوداء معتقة موشمة في الحنك والكفين برسومات وطلاسم خضر غريبة، تنطوي بجسد نحيل جدا تكاد تكنسه الريح بطريقها، بعض النسوة يصفنها ب (المسكونة) إشارة لعالم الجن الموازي ، هناك سرديات غير موثقة عن قدراتها على التواصل مع المخلوقات الماورائية وغير المنظورة في الجلسات النسوية في البيوتات القديمة اعتادت أن تقص عليهن أحسن القصص كحكاء ماهر أو نبي ، عن (غايب) ولدها حين يدور الحديث، يسالمها عن “غايب” الغائب.
: (غايب) خذوه العسكر للحرب وما عاد من يومها.
يستفسرن منها: أي حرب منهن، الأولى الثانية الثالثة الرابعة .. الالف . بلدنا يحارب حتى الريح.
ترد: حرب الشتاء افتكر .
يجبن: وحتى هذه , حروبنا بيها ستين شتا وستين صيف، يا أم غايب.
بتردد ترد :هو لبس ملابس شتا ومشى للحرب بعدها ما أدري عنه… يضحكن. يخمن النسوة أنها الحرب التي دارت بين العراق وبين أكراده في الشمال. يصلنها بخير ولكن لا يدخلن غرفتها لسبب ما. يحملن إليها على رؤوسهن (صواني الرحمة)، طعام يوزع لاستحصل ثواب قراءة سورة الفاتحة للموتى. تشكل فواجع البلد مصدر رزق لها، الثمانينيات خاصة، زمن المعارك الطاحنة التي تستمر لأيام مكونة مصادر خصبة من الشهداء. كانت “صواني الرحمة” لا تنقطع ، رزق وافر، نزيف من مدنين وعسكريين. ثم جاءت حرب الخليج الذكية جدا! كذلك مسالخ المنتفضين الجنوبيين في آذار، معدومي التقارير الأمنية، ضحايا السرطانات المنتشرة في البصرة كمالانفلونزا. سلاسل متصل وان شهد تغير نوعي بالثوابات بسبب الحصار وشحت المواد الغذائية.، لكنه تحسن بعد مجيء الأمريكان والدولارات والمليشيات المحترفة بالاستثمار بقطاعات القتل المربحة، يشاكسنها النسوان.
: لو فرضنا الناس ماتموت . من أين تعيشين يا أم غايب, ها ؟
:السيد الشعيبي مايتركني أموت جوع أنا و (عيالي)، حشا. ترد بثقة المؤمن بربه.
في غلاء متصاعد كما الأبخرة، يجود عليها الميسورون بصدقاتهم، ليشعروا بعدها براحة ضمير ويناموا بعمق، تعاش أيضا من هذه الثغرة الإلكترونية ببرمجيات الأغنياء النفسية التي تقودهم كل مرة ل (أم غايب)، يرشونها ويرشون الله من خلالها ليغفر لهم خطاياهم، أو يقللها على أقل تقدير. وإن كانوا لا يهتمون أصلي عندما يجتازون علاماته المرورية يوميا ويدهسون إنسانيتهم بتعمد.
ما يمنحونه يدفع عجلات يومها مع (عيالها) إلى خانة أخرى في التقويم ولو بصورة مزرية. عندما ينقطع المدد الذي تتلقاه (العلقة) أم غائب، تفترش بسطحية على أرض متربة في سوق “البصرة القديمة” في منطقة الصفاة لتبيع الملابس المستعملة. لمن يعبر مُسْرِعًا سيصعب تميزها بين أكوام العباءات السود الرثة والملابس المتعبة اللون والمهترئة. بجسدها الهزيل والمقوس على نفسه كما أقواس السعف التي تصنع في أعراس البصرة، تعود بما استرزقته ل (عيالها) عند الغروب. عندما يسوء الحال تتبضع مجانا من بقايا عربات الخضار، بصل ذابل، طماطة نصف متعفنة، دجاجةمريضة ملقاة، أي شيء يتبقى من الباعة عند انقضاء اليوم. إذا عرفت أن ما يباع للناس أصلا تالف ومغشوش تجاريا، لك أن تتصور ما سوف تكون محتويات كيس المسكينة أم غايب حينها.
(قصر أم غايب)
أم غائب! عنوانها قصر معقولة.؟؟
يقهقه موظف الاحوال المدنية وهو يثبت عنوانها في السجلات الحكومية. تسكن أم غائب في غرفة تسميها (دار) عند أطراف حديقة بمساحة خمسين فدان تعود لقصر ضخم يسكنه السيد الشعيبي. هو كبير عائلة عريقة وغنية في البصرة، منحها غرفة (البستونجي) المزودة بمرافق صحية .يمتد ممشى من غرفة أم غائب إلى باب صغير في السور الخارجي على الشارع العام. يعيش السيد الشعيبي الكبير منفردا متواريا عن الأنظار منذ سمعت الناس باسمه لأول مرة. ويشك انه لايزال حياً أو موجود أصلاً. تصنع أم غايب (مرهفات)، مراوح يدوية من خوص النخيل بزخارف نباتية. ترسلها للسيد الشعيبي بواسطة خادمة (رسول )فهو الوحيد الذي يدخل عليه خلوته ويديرأملامكه بوكالة شفهية. يسألنها النسوة بفضول عن السيد الشعيبي هل تشاهده يتنزه في الحديقة الخيالية المكتظة بالنخيل والأعناب والزيتون؟ كيف يبدو؟ ولِمَ لم يتزوج؟ هل يعشق ؟ وكم عمره، ووو… تجيبهم
: هووو ,كيف أطالعه وهو من هو وأنا (وصيفة) عند سيدي… لا يانسوان , حشاه من الزواج.
(مسعود)
السماء بتردد تبصق زخات متقطعة ثم تمسك ثم تعاود فعلتها وهكذا طوال الليل. تسمى أم غائب هذا الوضع (دمعة مسعدة)، وما يدريك ب (المسعدات) وشحت دموعهن يا أم غائب؟ لم تكوني (مسعدة) في يوم من الأيام على ما أعتقد. ترص في لثتها (السويكة) وتغير الموضوع بخفة.
: اليوم شويت سمك صبور بالتنور ، تعال أتغدى معانة، أنت وكل السامعين لحكاوينا.
يوم بصراوي محمل برطوبة البحر , دبق وكسول غير أنه يحمل رائحته، تستشعرمجيئه منذ الصباح، عربيد ليل، لامع كزجاج أسود مصقول. هل تتذكرون؟ مملوح دمه يلعب، يطرق الباب وقت الظهيرة فتفتح له وتتلقاه بقبول حسنا. سيدعوها ( يمه ) وتدعوه ( أولدي )، يجالسهم على سفرة الطعام، يتفحص (عيالها) بَصَرِيًّا بطريقة المسح الضوئي ويتفحصونه بريبة.
: مد أيدك قبل لا يبرد الزاد يمسعود يا يمه.
يأكل بخجل، يترخص منهم أن ينام لأنه متعب. يقول انه جاء مشي من (الرفاعي) في الناصرية إلى البصرة.
يتقافزن البنات في حضن أم غايب ، تسرح شعورهن وتربط لكل واحدة شريط أحمر على مفرق رأسها..
أسمته مسعود لعله يجلب السعد لبناتها.
: لكنك لا تعرفين له أصل وفصل؟ تسألها إحداهن وهي تتلصص عليه من وراء ستارة.
: مازال دخل من الباب هذا بن أصول يمة ، مانط على الدار.
خاويتة مع “الأشقر”، وتملحوا بالزاد، ما يفرقهم إلا الموت.
(العيال).
يتهامسن بدلال مشبع بالرسائل الجنسية. وحده “الأشقر” رافض لمسعود. هو ذكرهم الوحيد قبل مجيء (متعوس) كما أسماه بقلبه، تعرفه وتعرفنا على ال (العيال).
: بنياتي، (وردة) و (نعيمة) وهذه الوكيحة الفلفل اسمها (تحرير) لأن ولدت يوم تحرير “الفاو”، هذا الأشقر أخوك، رجلنا وحامينا. تستدير وتشير لظل القصر الهائل الملقى على الدار المنزوية والمتداعية،
: هذا بيت سيدنا الشعيبي، وهذه حديقته، أسرح وامرح بس لا تأكل من شجراته يا يمة . ناهينا عنها لاتسمع للخادم (أبو بگيع )لان مرامه نعصي سيدنا الشعيبي.
تتنقل تحرير بين السيقان الممتدة على الأرض وقت النوم. تتعمد إثارة الذكرين كل مرة، يرقبها كمن لا يراها مسعود، بينما الأشقر كان يحاصر فار أزعجهم في زاوية، تحرير تتخاطف بين عيون مسعود وبين مكان إعداد الطعام في أحد زوايا الغرفة عند (الجولة) النفطية الملقاة على منضدة صغيرة والتي تحمل باقي أدوات المطبخ، قدرين وبعض الصحون والملاعق، لا تملك أم غايب مطبخ، تلصق صورا ملونة من المجلات لمطابخ أجنبية على الجدار الموازي للمنضدة، وبذلك تدلل سيميولوجيا على مطبخها الذي يتغير كل سنة بتغيير صور المطابخ الملصوقة، تمتلك ثلاجة صغيرة، تحوي بصورة دائمة قناني ماء معبأة من الحنفية، وبأحسن الأحوال قطع خبز أو خضار ذابلة، في الرف الجانبي لباب الثلاجة مكان دائم لحفظ فكي أسنان متحركة، تخلعهم في كل ليلة لتريح لهاتها، تقول
: خايفه يضيعن مثل ما خايفه عليكم تضيعون من بعدي يمه .
(الأشقر، تحرير، مسعود)
يتفق الجميع أن الأشقر لتحرير، إلا تحرير!، ليس من أحد متأكد لهذه اللحظة من أنها للأشقر، مرة سألتها وردة فتهربت من الجواب، أوصلت وردة ذلك للأشقر الذي لم ينم ليلتها، اعتمد تدليلها والتقرب منها عسى ولعل (يجيبها للدرب) كما يقول، كل هذا قبل مجيء مسعود، يسميه الأشقر (متعوس)، هو أصغر منه بحولين تقريبا وأشد منه مرونة وقوة، يغار منه، لكن لا يخشى غدره لأنهما تمالحا بالطعام.
ترتسم بأفق الدار بما يشبه السينوغرافيا جيوش تحتشد وحروب تعد لتعلن على سهوه من الجميع، أم غايب قلقة، تسترشد ب (دليل الزمان لمعرفة النسوان) لتفهم تحرير المتقلبة كطقس هندي، ترطب جفاف التواصل بين مسعود والأشقر بالكلمات المنمقة والحنية المفرطة، لاتاتي أكلها شجرة القرب بين نارين وأنثى،:
:أخيتي” أم صياح” شوري عليه.تسال إحداهن في مأتم لشهيد طازج ذهبن لعزائه.
: خلي البنية تختار وطلعي منها . نصحتها
: بس الأشقر لتحرير وتحرير للأشقر:
هذا أول، الأول تحول يا أم غايب .
تجد أن لا جدوى . سترفع مرساتها الأيام وتبحر إلى جزر المتوقع واللامتوقع، ستسحلنا معها حتما دون إرادة. تئن بلحن ونص قديم.
: ياخوي محلاه الخشب لو لزه ( السييف ):
كلها صبيان تجر المجاذيف …:
ياريتني ادهينه وادهن ايديهم …:
ياريتني خيمة واظلل عليهم…
تدمدم مع نفسها بحزن، وهي تهيئ (ال گدو ) لتدخن.
ليل آخر يلقي بعباءته المعتمة على الدار، تنام فيه العيون أما الأفئدة فتصطخب وترتج وهي تجنح على أكتاف الشط بلا دليل.
(شباطيات)
في طريقها لقضاء حاجتها ليلا، اعترضها مسعود بشهوة وحضنها تاركاًاثر مخلبه في فخذها. الكل نيام إلا مجسات الأشقر، يرقبهما من تحت اللحاف ليستبطن ردة فعلها التي ستقرر مسار حرب النجوم القادمة في هذه الليلة. هل تجنح إلى مسعود؟ أم إليه؟ لدقيقة كانت منسحقة تحت إبطي مسعود. فجأة انتفضت ودفعته عنها وعادت للفراش تلعق شفتيها من طعم فمه الحلو كتمر البصرة. غادر مسعود بربع انتصاب وثلاثة أرباع رضا عن ما حصل . كبت الأشقر غضبه وهو يتساءل مع نفسه هل تتعمد تحرير أثارت غيرته؟ من يفهم الأنثى أياً كانت؟ من؟.
( طم … طم … طخ..طم )
عصرونية جميلة، هكذا بدأت، أم غايب تعود مريضا يرقد في مستشفى البصرة التعليمي. بدافع من الفراغ وبحثا عن منافذ للكبت تتحزم تحرير وأخواتها من الخاصرة. ترقص مطلقة للريح مستديرات جسدها المثيرة. تطبل نعيمة على تنكة دهن “الراعي” الصدئة وعلب حليب ” نيدو ” الفارغة.
طم طن طم طخ ، طم طم طخ . بينما وردة تغني بلذة أغنية كتبها مراهق لم يجد ثقب بشري لقضيبه فحول عوزه إلى نص ايروسي مباشر وحقيقي. أما اللحن فكان لقوادة هرمت فتركت عند مجمع أزبال (شارع بشار) الشهير ببيوت الدعارة والذي ضمته اليونسكو مؤخرا لقائمة التراث العالمي حفاظا عليه من المليشيات “الوقحة”.
نعود لعفوية تلك العصرونية، يحتسي مسعود الكثير من (جن)و بيرة ” فريدة”.
يتعاطى الأشقر كمية كبيرة من الحبوب المخدر صنف (الكريستال). كلاهما يريد أن ينفجر بالآخر دون أن ينظر في عينه خجلا من الزاد والملح. من يخرج سالما من هذا النوبة القاتلة سيفرغ شهوته بأفخاذ تحرير، مقابل مغري في نزق شباط البلاط، بينما ترقص تحرير وأخواتها في عالم آخر يجري الآن احتكاك ذكوري مميت فوق سطح الدار، يشتبكان كسنوريات برية، ناب حديدي حاد يخترق رقبة الأشقر، يسقط بين ذراعي مسعود ملطخا شعره الأسود بالدم الحار.
تتراقص (تحرير) بحركات جنسية تدل على عطش الأنثى المتجدد. يمتلئ الجو بعرق الرغبة
: ردح، ردح، أي، أي، عليهم عليهم عليم، شالو شالو شالو.
تتعالى الضحكات المتداخلة مع الغناء والصخب والنشوى. لم يسمعن الأشقر وهو يشخر بوجع حاد في الرقبة ويردد بحروف مكسرة بين حباله الصوتية الناطة من عنقه قبل الموت ” خخخ تح … رير… رر ر”.
لم يسمعن صوت (طببببب) قفزة مسعود الهارب بعيون غائرة شاردة ومرتعبة ووجه مسلوب الحياة أكثر من ضحيته الأشقر.:
أي، ردح، أي. شالو شالو عليهم عليهم. يمين يمين، يسار يسار.
يتعانقن ويتمايلن، يسقطن بعدها أرضا من الضحك والتعب واللهاث
تستثمر وردة تحرر تحرير من صرامتها لتسألها،
: مسعود لو الأشقر، ها؟ اختاري. يا حلوة الحلوات، ياقطة يا مقطقطة.
ترقص تحرير بكل جسدها ومجساتها ومخالبها. جذلا تهز رأسها يمينا ويسارا كبندول ساعة غير مضبوط: (محتارة أدور أنا أدور أنا…) تردد أغنية بصراوية قديمة.
في الخارج، يسيل الدم من سقف الدار ببطء قافلة نمل، يهبط على النافذة.، تتراءى قطرات ومسارات حمراء زاحفة بتعرج على الزجاج. تلمحها نعيمة.
: يا بنات، السماء تمطر دم. تقول بسذاجة وهي تنظر من الداخل للزجاج. تسدل الستارة الباهتة اللون على النافذة وتلتحق بحلقة الرقص مع اخياتها .
(صبحونية أخيرة).
أول من عرف بما حصل قبل ان يحصل حتى كان السيد الشعيبي . كان يداعب رأس نخلة برحي حينها. صمت أو حنق لما حصل غير أنه لم يتدخل كالعادة. “حيلهم بينهم” دمدمت شفتاه الأزلية بصوت للداخل. البنات عرفن بالأمر متأخرا. انقلبت البهجة إلى فاجعة وتبادل الفرح والحزن الأدوار بخفة ريشة.
ينطلق صراخ أنثوي حاد يشبه مواء ألف قطة تهرس في خلاط. لم يكترث أحد ففي شباط من كل عام تتفجر الرغبات الشابة لتصير نكاح وسفاح مليوني وعلني ينتج صغار يملئون سطوح البيوت القديمة المنخفضة. تجاهل من سمع الصرخات مصدرها. وانشغل بما يعنيه.
في الصبحونية المشؤومة تلك تحمل (أم غايب ) الأشقر على كتفها، تسير ببطء وألم كمن كسرت له أربع ضلوع، تنعاه بصوت بصراوي محترف الحزن ومتقن الصنعة.
: يمه يا شواربك الشوك، وفوك الكتف نجماتك تلوك، ربيتك ترف من هزة للكاروك …
يلطمن ويمرغن أجسادهن بالتراب إلا تحرير صمتت كالبازلت. الصدمة أفقدتها النطق… تجمع أشياءها في “صرة”، تمسكها بفمها وتهرب إلى المجهول.
: أمنا، أمنا… يتهافتن (وردة) و (نعيمة) على أم غايب التي تترنح عند الباب وتسقط. يتقافزن على جسدها الملفوف بعباءتها والممدد في عتبة الدار. وردة تنجب وهي مستلقية على وجهها تجن فتقضم ذيلها، تأكل نصفه وتفقد الوعي. نعيمة تبكي ثم تصمت تقوم بعدها بضرب النافذة برأسها وهي تموء وتموء حتى آخر الزمان. تهجر الدار وتبتعد عيون العابرين عنها. تضمر حكايات أم غايب في الشفاه وتكن نسياً منسيا. تشرع الدار نوافذها وأبوبها بانتظار أن يأتي يوما ما، عربيد ليل، لامع كزجاج أسود مصقول، كما أخبرتكم مرارا، في زمن (الانتظارات) الرطبة والعطن.
اها قبل أن أنسى. لا زال السيد الشعيبي يبحث عن وصيفة ليسكنها غرفة “البستونجي” مع قططها. يراقبهم ويرزقهم عن كثب بما يجود. يعيد الحكاية مرارا، كسراً للضجر.