
كل عام يحتفل الناس في شتى بقاع العالم بسنة جديدة، ويعتبرون السنة التي كانت جديدة قديمة، والسنة الحالية ستصير قديمة بعد اثني عشر شهرا فقط، وهي مدة ستمر بسرعة البرق في هذا العصر الموسوم بالسرعة، هكذا يمكن اعتبار عمر كل منا مسافة زمنية كل يوم يعتبر مساحة مقتطعة من هذه المسافة ،و ستنتهي في يوم ما، وكأن كلا منا يعمل بتعبئة محددة البداية والنهاية كما الهاتف المحمول .
إننا حين نولد، نولد كي نقطع مسافة نهايتها موت سيطال كل الكائنات وفي مقدمتها هذا الكائن المتفوق المتميز الذي سُخِّر له البر والبحر وما يحملانه.
إنه هذا الإنسان الذي يجهل البداية والنهاية مما جعله يستعلي، يتهور، يستهين بمثيله الإنسان، يعتقد أنه إنسان وغيره دون الإنسان، بهاته الصفة انتشرت الموبقات والرذائل ، هضمت الحقوق واستبيحت الحرمات، البعض حليم والبعض سقيم، البعض يعتقد أنه خلق كي يستعبد غيره بلا حجة سوى ما يرسمه ليقهر الغير للانسياق له.. البعض يفتري ويهدم بيوت غيره كي يبني على أنقاضه منازله بسواعد عمال يهضم حقوقهم فلا يأخذون من جيبه سوى دريهمات معدودة لن تؤثر على ثروته الطائلة التي تكفي لمعيشة أسر عديدة…
جل الناس يظنون أنهم سيخلدون، ولن تطالهم يد الموت، لذا فإنهم يحاولون أن يكتنزوا ما يستطيعون من الأموال والأثاث…إنهم يخشون من فقر قد يحل بهم بعد سنوات إن لم يأخذوا حذرهم من الصرف للمال في أي سبيل.
أما الفاهمون الذي يوقنون بأن العمر سنوات ستمضي وتنتهي كما بدأت، فقد بدا لهم أنهم ليسوا سوى مجموعة من الأيام، واعتقادهم ذاك جعلهم يواجهون الحياة بحكمة الفاهم الذي لايؤثر عليه ما مضى، وما سيأتي، تصدقوا على المحتاجين، عالجوا المرضى، أعانوا الأرامل واليتامى، صالحوا بين المتخاصمين، هاجروا التفاهات التي من أجلها تزهق الأرواح لتترك وراءها ندم الفاعلين الذين لم يتبصروا جيدا ما يصدر منهم،إنهم السابحون في الخيالات والأوهام التي تغرق مرتاديها في أمواجها لتحول نفسها الواقع الحقيقي لا ما يحياه من يواجه الواقع بعِنَبِه وحنظله، بعسله ودفلاه، بسواده وبياضه، بامتلائه ونقصانه، بآهاته وقهقهاته…
إنه الزمن يجري، لا يتوقف، هو كالنهر يواصل طريقه فمن شاء اغتسل من مائه، ومن شاء شرب منه، ومن شاء سقى حقوله ودواجنه منه…
إنه الزمن لا يعرف ذا أوذاك، مساحة بيضاء كالورقة، نكتب عليها بأفعالنا قصائد الحب والكرامة، أو قصائد الضلالة والإذلال…كل فعل وكل قول يصدر منا كتابة على جسد الزمن، إما أن يسعد الغير أو يشقيه…
إنه الزمن، إن لم تكن كيِّسا عميق التأمل سديد التفكير يخدعك الآن كما خدع من سبقوك، وغشاهم الندم كما غشي سابقيهم.
إنه الزمن لكل منا قطعة منه تحمل قصة شارك شخصياتها الزمان والمكان والأحداث لمدة بدأت وانتهت…
إنه الزمن لكل منا فسحة منه تتيح له المشاركة في مسرحية تحمل أدوار شخصيات حددت لها،شخصيات منها من ستموت في بدايتها، ومن ستستمر حتى وسطها، ومن ستنتهي بانتهاء آخر فصل فيها.
لقد مات أجدادنا وأجداد أجدادنا، ونحن أجداد فيما سيأتي من الزمن، سننضم إلى لائحة الذين عاشوا ثم ماتوا…ماتوا بعد أن وضعوا بصماتهم المختلفة على وجه الأرض…
يتجدد الزمن، يولد أناس، يموت آخرون والعبرة بما سيتركونه، فبعضهم مات وبقي خيره وخلقه علامة خالدة تحيل عليه، وبعضهم مات وما زال دخان خطاياه تزكم الأنوف، وتخنق الأنفاس.
فلنراوغ الزمن كي ينقاد لما يعلي مقامنا ونحن نقدم للإنسانية أجَلّ ما نستطيع من الفضائل التي جعلت من الإنسان إنسانا يستحق الاحترام…
من لا يراوغ الزمن لصالح البشرية ، سيظل كرة يعبث به هذا الزمن ليعيش في غيبوبة الانتصار في الوقت الذي يعد من المخدوعين المغبونين السافلين.