مِنْ جَدِيدٍ، أَبْحَرْتُ كَنَصٍّ تَشَعُّبِيٍّ فِي شَبَكَاتِ الحَوَاسِيبِ… فِي الفَضَاءِ السَّايْبُرِي (1) هَذَا حَدَثَ التَّفَاعُلُ فَتَحَادَثْنَا. كُنْتُ قَدِ اشْتَرَكْتُ فِي نِظَامٍ لِتَبَادُلِ المحَادَثَاتِ العَابِرَةِ لِلْمُحِيطَاتِ فَتَنَامَى دَاخِلِي شُعُورٌ بِالرِّضَا وَالانْتِمَاءِ الحَقِيقِيِّ لِعَائِلَةٍ تَوَزَّعَ أَفْرَادُهَا وَتَكَاثَرُوا فِي أَنْحَاءٍ مُتَبَاعِدَةٍ مِنَ الأَرْضِ. شَخْصِيَّاتٌ خَفِيَّةٌ أَسْعَدَتْنِي بِوُجُودِهَا لِسَاعَاتٍ عَدِيدَةٍ فِي غُرْفَةِ الدَّرْدَشَةِ. أُفْضِي إِلَيْهَا بِشَكْلٍ مُنْفَتِحٍ وَبِالمجَانِ بِأُمُورٍ دَقِيقَةٍ فِي حَيَاتِي يُخْجِلُنِي وَضْعُهَا بَيْنَ يَدَيْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيَّ فِي هَذَا الحَيِّ البَائِسِ الَّذِي أَقْطُنُهُ. بِاسْتِخْدَامِ نَصٍّ وَصُورَةٍ قُمْتُ بِتَعْدِيلِهَا وَتَحْسِينِ مَظْهَرِهَا فِي بَرْنَامَجٍ لِتَنْقِيحِ الصُّوَرِ، امْتَدَّتْ جُذُورِي عَبْرَ الحُدُودِ مُتَخَلِّصَةً مِنْ أَعْبَاءِ اليَوْمِيِّ المدَمِّرِ. الصُّورَةُ أَخْضَعْتُهَا لِمَنْظُورٍ مُحَدَّدٍ، وَسَلَّطْتُ عَلَيْهَا مِعْيَارَ المصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ. وَاللُّغَةُ أَهْدَرْتُ وَقْتًا ثَمِينًا فِي تَعَلُّمِهَا. اقْتَفَيْتُ خَلْفَ الأَلْفَاظِ الخَشِنَةِ أُطَوِّعُهَا. عِبَارَاتٌ لَوْ قُلْتُهَا بِلُغَةِ أَبِي لَكَانَ مَذَاقُهَا مُرًاّ، وَلَكِنْ بِلُغَتِي هَذِهِ أَتَصَوَّرُهَا مَقْبُولَةً. أَتَفَاعَلُ بِهَا عَلَى الخَطِّ مُتَحَرِّرَةً مِنْ تَقَالِيدَ وَقُيُودٍ شَخْصِيَّةٍ. قَدْ تُصْبِحُ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ لُغَةَ أَبْنَائِي، مَنْ يَدْرِي. صَدِيقَتِي لِنْدَا تَقُولُ إِنَّ الفَاصِلَةَ بَيْنَ مُحِيطِ التَّفَاعُلِ وَمُحِيطِ الزَّوْجِ تَهْوَى بِضَرْبَةِ حَظٍّ. بِالأَمْسِ القَرِيبِ كَانَ عَقْلِي الصَّغِيرُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا تَقُولُهُ لِنْدَا دُونَ تَمْحِيصٍ أَمَّا الآنَ فَلَا أَعْتَقِدُ ذَلِكَ… الحَظُّ وَحْدَهُ لَا يَأْتِي بِالمعْجِزَاتِ… “أَعْرِفُ مَنْ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ التَّوَاُصلِ فَتَحَطَّمَتْ حَيَاتُهَا خَارِجَ الشَّاشَةِ بِصُورَةٍ فَاجِعَةٍ. دَارَتْ عَلَيْهَا الرَّحَى فَتَجَالَسَ عَلَى جَسَدِهَا الغُرَبَاءُ بِأَجْسَامِهِمْ إِلَى أَنْ صُيِّرَتْ فِي غُرْبَتِهَا بَائِعَةُ هَوًى مُتَغَطِّيَّةً بِدِثَارِ قَسِيمَةِ زَوَاجٍ رَسْمِيَّةٍ”. قَبْلَ اليَوْمِ لَمْ تَقْدَحْ هَذِهِ الأَفْكَارُ الغَرِيبَةُ فِي ذِهْنِي، فَهَلْ أَنَا قَلِقَةٌ؟ لَمْ يَطْلُبْ مِنِّي فَتَايَ سِوَى إِقَامَةِ لِقَاءٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ فَلِمَاذَا، إِذًا، تَرْتَعِدُ مَفَاصِلِي خَوْفًا وَتَضْطَرِبُ؟ لِمَاذَا أَشْعُرُ وَكَأَنَّ خُيُوطَ الشَّبَكَةِ تَلْتَفُّ حَوْلِي، تُحَلِّلُنِي إِلَى بِتَّاتٍ (2)لِيَسْهُلَ تَخْزِينِي فِي جَدَاوِلَ بَيَانَاتٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ؟ وَجْهًا لِوَجْهٍ يُرِيدُ أَنْ يُحَادِثَنِي وَنُخَطِّطُ مَعًا لِأَعْمَالٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَهَذَا مَا كُنْتُ أَبْغِي فِي أَعْمَاقِ نَفْسِي فَلِمَاذَا أَنَا إِذًا مُتَوَتِّرَةٌ؟
حِينَ أُلَاقِيهِ قَدْ يَطْلُبُ يَدِي فَأَرْتَبِطُ بِهِ إِلَى الأَبَدِ وَأَتَقَاسَمُ مَعَهُ حَيَاتِي المدِيدَةَ. لَيْسَ الانْتِقَالُ المفَاجِئُ هُوَ مَا يُرْبِكُنِي، وَضْعِي الصَّعْبُ يَجْعَلُنِي أَتَحَوَّلُ بِسَلَاسَةٍ مُطْلَقَةٍ، خُصُوصًا هَذَا اليَوْمَ، فَقَدْ مَرَرْتُ بِمُعْضِلَةٍ كُبْرَى كَدَّرَتْنِي وَأَنَا أَتُوقُ إِلَى الْفِرَارِ بَعِيدًا لِأَنْسَى…
قَرَأْتُ عَلَى الشَّاشَةِ:
-هَايْ.
فَلَعِبَتْ أَصَابِعِي بِخِفَّةٍ فَوْقَ لَوْحِ المفَاتِيحِ وَكَتَبْتُ:
-ايْ.
-هَلْ تَسَلَّمْتِ الرِّسَالَةَ؟
مُنْذُ أَنْ أَعْلَمَنِي بِالبَرِيدِ الاِلِكْتُرُونِي أَنَّهُ سَيُرْسِلُ لِي تَذْكِرَةَ سَفَرٍ وَأَنَا أَتَرَصَّدُهَا. أَنْهَضُ بَاكِرًا لِأَنْظُرَ تَحْتَ البَابِ وَأَعُودُ بَاكِرًا لِأَبْدَأَ فِي مَسْحِ الْوُجُوهِ وَالملَامِحِ. أَمِيلُ عَلَى أُمِّي مُتَمَسْكِنَةً فَأَسْأَلُهَا إِنْ كَانَ سَاعِي البَرِيدِ قَدْ أَلْقَى إِلَيْهَا بِمَطْوِيَّةٍ إِشْهَارِيَّةٍ حَرِيصَةٌ أَنَا عَلَى الاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا أَتَأَكَّدُ مِنْ أَنَّهَا لَمْ تَتَسَلَّمْ شَيْئًا يَعْظُمُ خَوْفِي وَأَسْأَلُ نَفْسِي: هَلْ وَقَعَتْ فِي يَدِ أَبِي؟ إِنَّنِي أَشْعُرُ بِالبَشَاعَةِ مِمَّا قُمْتُ بِهِ. مَا فَعَلْتُهُ كَانَ خَطَأً سَيَتَحَطَّمُ قَلْبَاهُمَا لَوْ أَنَّهُمَا اكْتَشَفَا الأَمْرَ. أَعَضُّ عَلَى سَبَّابَتِي نَدَمًا، كَانَ عَلَيَّ مَدُّهُ بِعُنْوَانِ المحَلِّ الذِي أَشْتَغِلُ فِيهِ، حَيْثُ أَنَا مَوْجُودَةٌ عَلَى الدَّوَامِ.
لَمْ تَكُنْ لِي قُدُرَاتٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَكُنْتُ أَمِيلُ إِلَى العُزْلَةِ…
قَبْلَ أَنْ أَتْرُكَ المدْرَسَةَ، كَانَتْ صَدِيقَاتِي يُمْلِينَ عَلَيَّ سُلُوكًا حَاوَلْتُ أَنْ أُجَارِيَهُنَّ فِيهِ وَأُسَايِرَهُنَّ لَعَلِّيَ أَنْدَمِجُ فِيهِنَّ وَلَمَّا عَجَزْتُ وَوَجَدْتُ نَفْسِي تَائِهَةً، ابْتَعَدْتُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالْتَصَقْتُ بِالحَاسُوبِ. اتَّخَذْتُ اسْمًا مُسْتَعَارًا قِنَاعًا مُرِيحًا لَهُ جَاذِبِيَّةٌ وَحُضُورٌ مُمَيَّزٌ سَاعَدَنِي عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ نَفْسِي بِشَكْلٍ جَيِّدٍ. لَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ إِنْ كُنْتُ خَلْفَ هَذَا القِنَاعِ عَارِيَةً أَمْ لَابِسَةً، مُتَحَجِّبَةً أَمْ سَافِرَةً. فِي أَوَّلِ تَجْرِبَةٍ لِي فِي قَنَاةِ الاتِّصَالِ المتَزَامِنِ، قَالَتْ لِي لِنْدَا تَنْصَحُنِي وَهْيَ الَّتِي سَبَقَتْنِي بِأَشْوَاطٍ فِي هَذَا المَيْدَانِ وَارْتَبَطَتْ بِعَلَاقَةٍ عَاطِفِيَّةٍ حَمِيمَةٍ، إِنَّ الاسْمَ الجَيِّدَ يُثِيرُ الانْتِبَاهَ وَيَجْلِبُ الاهْتِمَامَ. كَانَتْ مُتَمَرِّسَةً فِي هَذَا المجَالِ… قَامَتْ بِأَدْوَارٍ أَظْهَرَتْهَا فِي مُجْتَمَعِهَا الاِفْتِرَاضِيِّ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ إِلَى أَنْ أَنْهَتْ عَلَاقَتَهَا بِالزَّوَاجِ.
اِشْتَرَكْتُ مَعَ فَتَايَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرَّوَابِطِ وَالاهْتِمَامَاتِ فَحَدَثَ التَّآلُفُ، وَانْتَقَلْنَا مِنَ الغُرْفَةِ الجَمَاعِيَّةِ إِلَى الغُرْفَةِ الخَاصَّةِ، غُرْفَةِ البَرِيدِ الاِلِكْتُرُونِّي حَيْثُ لَا يَسْمَعُنَا أَحَدٌ! جَاءَنِي خِطَابُهُ الأَوَّلُ عَبْرَ طَرِيقِ المعْلُومَاتِ فَائِقِ السُّرْعَةِ وَأَعْلَنَ حُبَّهُ فَنَبَضَتْ أَوْتَارُ قَلْبِي بِقُوَّةٍ وَهَزَّتْ بِعُنْفٍ شَبَكَةَ الأَلْيَافِ الضَّوْئِيَّةِ حَتَّى قَدَحَتْ صُورَةُ لِنْدَا أَمَامَ عَيْنَيَّ كَبَرْقٍ خَاطِفٍ. لَقَدْ كَانَتْ فَتَاةٌ رَائِعَةٌ تَخْتَلِفُ عَنِّي اِخْتِلَافًا وَاسِعًا، لَدَيْهَا مِنَ العَزْمِ أَكْثَرَ مِمَّا لَدَيَّ. فِي نَفْسِ اليَومِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الأَشْقَرُ فِي سَيَّارَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ رَحَلَتْ لِنْدَا… ذَهَبَتْ مَعَ الرِّيحِ إِلَى وَاقِعِهَا الجَدِيدِ مُبْتَعِدَةً عَنْ مِرْآتِهَا الغَامِضَةِ، شَاشَةِ الحَاسُوبِ السِّحْرِيَّةِ. كُنَّا، نَحْنُ أَنْدَادَهَا، قَدْ وَقَفْنَا مَغْمُوسَاتٍ فِي حُلْمٍ لَذِيذٍ، نَمُدُّ أَبْصَارَنَا نَتَمَلَّى وَجْهَ هَذَا الغَرِيبِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ نَهَارَ عُرْسِهِ بِتُبَّانٍ قَصِيرٍ وَقَمِيصٍ مَفْتُوحٍ، دُونَ أَنْ يَجْرُؤَ أَحَدٌ مِنَّا عَلَى الاسْتِنْكَارِ. حَتَّى العَجَائِزَ اللَّاتِي كُنَّ قَدْ عُرِفْنَ بِأَلْسِنَةٍ تَطِيرُ دُونَ انْقِطَاعٍ نَسِينَ أَنْ يَدُرْنَ بِهَا حَوْلَ شُغْلِ الزَّوْجِ وَمَكَاسِبِهِ وَانْشَغَلْنَ بِأَمْرٍ آخَرَ. انْدَفَعَتْ إِحْدَاهُنَّ تَشُقُّ لِنَفْسِهَا طَرِيقًا إِلَيَّ وَحِينَ تَحَسَّسَتْنِي شَرَعَتْ تَسْأَلُ إِنْ كَانَتْ صَدِيقَتِي قَدْ كَتَبَتْ كِتَابَهَا أَمْ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِي دَارِ الغُرْبَةِ. وَلَمَّا أَعْلَمْتُهَا أَنَّ الكِتَابَ قَدْ تَمَّ مَسَاءَ الأَمْسِ، نَكَسَتْ رَأْسَهَا وَهْيَ تَقُولُ: “مَلَّ مُسْلِمْ.” وَعَادَتْ تَتَدَحْرَجُ إِلَى الحَلَقَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا حَامِلَةً الخَبَرَ اليَقِينَ لِتُثِيرَ الكَثِيرَ مِنَ الحَدِيثِ… وَكَانَتْ أُمِّي بِجَانِبِي تَنْظُرُ إِلَيَّ وَتَتَنَهَّدُ… مِنَ المـُمْكِنِ أَنَّهَا لَجَأَتْ إِلَى دُعَاءٍ أَتَمَّتْهُ فِي سِرِّهَا مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهَا وَإِلَّا لَمَا أَطْبَقَ عَلَيَّ حَظِّي بِهَذِهِ الصُّورَةِ وَقَرَّبَنِي خَطْوَةً إِلَى الأَمَامِ. وَلَكِنَّ المسْأَلَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ لَيْسَتْ مُؤَكَّدَةً، أَشْعُرُ بِفَزَعٍ وَمَخَاوِفَ حَقِيقِيَّةٍ… إِنَّ الرَّابِطَ الَّذِي يَفْرِضُ عَلَيَّ قُوَّتَهُ مَلِيءٌ بِالاسْتِفْهَامِ. هَلْ حُضُورُهُ عَلَى هَذِهِ الخَلْفِيَّةِ الجَمِيلَةِ حَقِيقِيٌّ أَمْ افْتِرَاضِيٌّ؟ كَيْفَ أَسْتَوْثِقُ مِنْهُ وَأَتَأَكَّدُ؟ لَيْسَ مَسْمُوحًا لِي أَنْ أَتَطَاوَلَ عَلَى الْعُرْفِ وَأَطِيرُ إِلَيْهِ، لَيْسَ فِي مَقْدُورِي فِعْلُ ذَلِكَ. مَازَالَتْ عِظَامِي مَزْرُوعَةً فِي التَّقَالِيدِ وَلَسْتُ مُتَحَرِّرَةً تَمَامًا كَمَا أَدَّعِي فِي مُحَادَثَاتِي… آثَرْتُ أَنْ أَسْتَشِيرَ لِنْدَا قَبْلَ أَنْ أُقْدِمَ عَلَى رِحْلَةٍ كَهَذِهِ أَعْتَمِدُ فِيهَا عَلَى حَظٍّ قَدْ يُكَلِّفُنِي كَثِيرًا. أُحِسُّ بِأَنَّهَا الرُّوحُ الحَارِسُ لِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الموَاقِفِ… وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَقَدْ صَارَ لَدَيَّ مَا أَحْكِيهِ لَهَا. صِرْتُ كَالأُخْرَيَاتِ أَمْتَلِكُ أَسْرَارًا أَرْغَبُ فِي فَرْتِهَا أَمَامَ الجَمِيعِ، وَهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُتْعَةٌ بَالِغَةٌ، إِضَافَةً إِلَى كَوْنِهَا طَرِيقَةٌ مُبَطَّنَةٌ لِأَقُولَ لَهَا أَنْ تُرَحِّبَ بِي فِي بِيْتِهَا لِأَيَّامٍ وَتَدْعَمَ لِقَائِي بِفَتَايَ مَتَى أَظْهَرُ أَمَامَهُ كَالبَلْهَاءِ.
اتَّصَلْتُ بِهَا. كُنْتُ سَعِيدَةً بِسَمَاعِ صَوْتِهَا وَكَانَتْ هِيَ أَيْضًا سَعِيدَةً. قَالَتْ إِنَّهَا اشْتَاقَتْ إِلَى حَدِيثِي. وَعِنْدَمَا جِئْتُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى مَوْضُوعِ اللِّقَاءِ أَحْسَسْتُ كَأَنَّهَا انْدَهَشَتْ قَلِيلًا فَلَمْ تَدْلُ بِأَيِّ تَعْلِيقٍ. سَكَتَتْ حَتَّى شَعُرْتُ بِالحَرَجِ وَبَدَا لِي كَأَنَّهَا لَمْ تُنْصِتْ لِمَا قُلْتُهُ. لِلْمَرَّةِ الأُولَى مُنْذُ أَنْ عَرَفْتُهَا أَكَادُ لَا أَفْهَمُهَا. تَرَدَّدْتُ ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْهَا السُّؤَالَ:
-مَا رَأْيُكِ؟
أَوْجَعَنِي قَوْلُهَا” أَنْصَحُكِ بِكُلِّ حُبٍّ، مَا دُمْتِ لَمْ تَخْتَارِي طَرِيقَكِ، أَنْ تَتَخَلَّصِي مِنْ آثَارِ تِلْكَ العَلَاقَةِ فَلَنْ تَحْتَمِلِي مَا سَتُلَاقِينَهُ هُنَا وَلَنْ يَطُولَ الوَقْتُ عَلَيْكِ لِتَكْتَشِفِي ذَلِكَ. أَعْرِفُ مَنْ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ التَّوَاصُلِ فَتَحَطَّمَتْ حَيَاتُهَا خَارِجَ الشَّاشَةِ بِصُورَةٍ فَاجِعَةٍ. دَارَتْ عَلَيْهَا الرَّحَى فَتَجَالَسَ الغُرَبَاءُ عَلَى جَسَدِهَا بِأَجْسَامِهِمْ إِلَى أَنْ صُيِّرَتْ فِي غُرْبَتِهَا بَائِعَةَ هَوًى مُتَغَطِّيَةً بِدِثَارِ قَسِيمَةِ زَوَاجٍ رَسْمِيَّةٍ. “
لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُ مِنْ لِنْدَا أَنْ تَقُولَ لِي مِثْلَ هَذَا الكَلَامِ المحْبَطِ لِلْعَزَائِمِ، اعْتَقَدْتُ أَنَّهَا سَتَقُومُ بِتَهْنِئَتِي وَتَتَمَنَّى لِيَ الحَظَّ السَّعِيدَ. وَلِلَحْظَةٍ كُنْتُ عَلَى وَشَكِ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا ثُمَّ أَمْسَكْتُ لِسَانِي، وَأَحْجَمْتُ عَنْ إِلْقَاءِ أَيَّةِ أَسْئِلَةٍ مُحْرِجَةٍ لَهَا. لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِي مُنَاقَشَتُهَا. أَتُرَاهَا تَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهَا أَمْ هُوَ الاجْتِهَادُ مِنْهَا دُونَ تَرْتِيبٍ مِنْ أَجْلِ التَّهَرُّبِ مِنْ تَبِعَاتِ زِيَارَتِي؟ وَمَاذَا أَقُولُ لِفَتَايَ؟ بِمَاذَا سَأُجِيبُهُ؟
كَانَ العَمَلُ بَعْدَ مُنْتَصَفِ نَهَارِ اليَوْمِ مُحَطِّمًا لِأَعْصَابِي. لَمْ أَحْصُلْ عَلَى قِسْطٍ كَافٍ مِنَ النَّوْمِ. اسْتِغْرَاقِي فِي التَّفْكِيرِ فِي كَلَامِ لِنْدَا وَتَذْكِرَةِ السَّفَرِ المنْتَظَرَةِ جَعَلَا يَوْمِي صَعْبًا، فَلَمْ أُكَلِّفْ نَفْسِي عَنَاءَ التَّثَبُّتِ وَعَدِّ بِطَاقَاتِ تَمْوِيلِ الهَاتِفِ الجَوَّالِ المسْتَرَدَّةِ مِنَ الزَّبُونِ بَعْدَ أَنْ رَفَضْتُ اسْتِخْلَاصَهَا بِصَكٍّ بَنْكِيٍّ. بِحَرَكَةٍ دَائِرِيَّةٍ خَاطِفَةٍ بِذِرَاعِي مَسَحْتُ “الكُنْتُوَارْ” (3 فَعَادَتِ العُشْرُونَ بِطَاقَةَ “تِيلِيكُومْ”(4) إِلَى الدُّرْجِ المفْتُوحِ المحَاذِي لِآلَةِ تَسْجِيلِ النَّقْدِ. تَسَاقَطَتِ الوَاحِدَةُ فَوْقَ الأُخْرَى مُحْدِثَةً نَغْمَةً خَفِيفَةً. هَؤُلَاءِ المرَفَّهُونَ يَجُوبُونَ الشَّوَارِعَ فِي سَيَّارَاتٍ فَخْمَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى حَمْلِ الرَّفَاهِيَّةِ كُلِّهَا وَلَا يَضَعُونَ فِي الحُسْبَانِ حَمْلَ أَوْرَاقٍ نَقْدِيَّةٍ خَفِيفَةٍ ثَمَنًا لِحَاجَاتِهِمُ الطَّارِئَةِ. عَنْدَمَا دَخَلَ زُبُونٌ بَعْدَهُ كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي إِغْلَاقِ المحَلِّ، قُلْتُ لِنَفْسِي عَلَيَّ أَنْ أَصِلَ إِلَى البَيْتِ قَبْلَ أَبِي، مِنَ الممْكِنِ أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ المشْكِلَةُ قَدْ دُسَّتْ تَحْتَ البَابِ. سَلَكَ الزَّبُونُ طَرِيقَهُ نَحْوِي. مَنَحَنِي ابْتِسَامَةً وَوَضَعَ عُمْلَاتٍ نَقْدِيَّةً أَمَامِي عَلَى المكْتَبِ طَالِبًا بِطَاقَةَ شَحْنٍ لِهَاتِفِهِ الجَوَّالِ. مَدَدْتُ لَهُ وَاحِدَةً، فَصَاحَ:
-مَا هَذَا؟
قُلْتُ:
-بِطَاقَةٌ؟
قَالَ:
-أَعْرِفُ أَنَّهَا بِطَاقَةٌ، وَلَكِنْ مَاذَا أَفْعَلُ بِبِطَاقَةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ؟
وَقَفْتُ لِفَتْرَةٍ أُحَدِّقُ فِي الْبِطَاقَةِ الّتِي فِي يَدِهِ وَلِدَهْشَتِي المطْلَقَةِ وَجَدْتُهَا مَضْرُوبَةً. وَكَذَلِكَ مُعْظَمَ البِطَاقَاتِ فِي الدُّرْجِ. كَأَنَّ هُنَاكَ مَنْ عَمَدَ إِلَى تَغْلِيفِهَا عَنْ قَصْدٍ بِوَرَقَةِ “سُولُوفَانٍ” رَقِيقَةٍ حَتَّى تَبْدُوَ لِلنَّاظِرَ أَنَّهَا سَلِيمَةٌ. كُنْتُ فِي حَيْرَةٍ شَدِيدَةٍ أُحَاوِلُ بِقُوَّةٍ إِيقَافَ جِسْمِي عَنِ الارْتِعَاشِ وَأُجَاهِدُ لِكَيْ أَلْتَقِطَ أَنْفَاسِي. وَلِأَنَّ حَيَاتِي خَارِجَ الشَّاشَةِ سَخِيفَةٌ، فَقَدْ شَعُرْتُ بِالخَجَلِ وَتَلَعْثَمْتُ. وَلَمْ أُسَارِعْ إِلَى تَدَارُكِ الموْقِفِ بِصُورَةٍ أَوْ بِأُخْرَى، بَلْ تَرَكْتُ الزَّبُونَ يَقْذِفُنِي بِنُعُوتٍ وَأَلْفَاظٍ جَارِحَةٍ قَبْلَ أَنْ يَسْحَبَ عُمْلَاتِهِ النَّقْدِيَّةِ وَيَخْتَفِي مِنْ قُدَّامِي، فَأَدْرَكْتُ أَنَّنِي أَدْفَعُ ثَمَنَ أَحْلَامِي.
كُنْتُ فِي عَجَلَةٍ لِلْمُغَادَرَةِ. سِرْتُ إِلَى البَيْتِ وَبِمُجَرَّدِ وُصُولِي وَجَدْتُ رِسَالَةً قُرْبَ البَابِ، فَأَطْبَقْتُ عَلَيْهَا بِسُرْعَةٍ، وَوَارَيْتُهَا مَلَابِسِي، ثُمَّ دَخَلْتُ رَأْسًا إِلَى غُرْفَتِي وَجَلَسْتُ أَمَامَ الحَاسُوبِ أَجْمَحُ بِخَيَالِي.
وَكَانَ فَتَايَ يَنْتَظِرُ الرَّدَّ:
-هَايْ.. أَمَازِلْتِ هُنَا؟
لَيْسَتْ لَدَيَّ فِكْرَةٌ وَاضِحَةٌ عَمَّا سَأَفْعَلُهُ، وَبِمَاذَا سَأُخْبِرُهُ. احْتِمَالٌ أَكِيدٌ أَنَّ خَسَارَتِي القَادِمَةَ أَعْظَمُ مِنْ بِضْعَةِ كُرُوتِ شَحْنٍ لِهَاتِفٍ جَوَّالٍ. عَلَيَّ أَنْ أَتَرَاجَعَ إِلَى فَوْهَةِ مَخْرَجٍ مَّا… يَجِبُ أَلَّا أَسْتَمِرَّ فِي هَذَا الاتِّجَاهِ.
_____
* الإنسان – الحاسوب
Cyberspace (1)مُصْطَلَحٌ صَاغَهُ الرِّوَائِيُّ وِيلْيَاْم جَبْسُونْ وَهْوَ مَجَالٌ رَقْمِيٌّ اِلِكْتُرُونِيٌّ، طَرِيقُ المعْلُومَاتِ فَائِقُ السُّرْعَةِ.
(2) جَمْعُ بِتْ رَقْمُ ثُنَائِي
(3) مكتب تجاري، صرافة
(4) شركة اتّصالات