
روائيَّة وقاصَّة مصريَّة تنتمي لجيل الثَّمانينيَّات الأدبي. عاشت حياة ثقافيَّة عريضة بإنتاجها، وعطائها الأدبي، فهي قد غاصت بقلمها السَّاحر في بحر الإنسان سواء كان رجُلًا أو امرأة. واجهت – بمُفردها – الكثير من المصاعب على الصَّعيدين الإنساني والمادي دُون أنْ تنكسر أو تشرخ جُدْران رُوحها؛ حيث استطاعت أنْ تحوَّل آلام الغُربة والمرض والقهر إلى إبداعٍ مُتفرِّدٍ ومُتميِّزٍ .هي امرأة تتوهَّج كُلَّما حكت لنا عن حياتها ومُعاناتها، الكتابة بالنِّسبة لها خط الدِّفاع الأخير في مُقاومة الموات والانزواء وحوافز الإحباط واليأس التي تتراكم حولنا في الحياة. تقُول الأديبة: «الكتابة هي البهجة مدفُوعة الثَّمن من الوحدة وتأجيل الأحلام وتقليصها، ورُبَّما إلغائها، الكتابة هي كلمة أتبادلُها مع النَّاس حتَّى نظل خُيُولًا جامحةً ترفُض الانسياق لإغواءات الطُّرق السَّهلة دُون كدٍّ أو تعبٍ، هي الهواء النَّظيف دُون عادم أو دُخَّان، هي صرخات من القلب الموجُوع بسياط الرَّغبة في تجديد الأحلام وتبديد الأوهام».
—
وُلدت «نعمات مُحمَّد مرسى البحيري»، المشهُورة باسم: «نعمات البحيري»بحي العبَّاسيَّة أحد أهمّ الأحياء بالقاهرة في عام 16 يُونيُو عام 1953م. ثُمَّ ارتحلت مع أُمِّها لتعيش طُفُولتها المُبكِّرة في بيت جدَّها في «تل بنى تميم» بشبين القناطر بمحافظة القليوبيَّة.
حصلت على بكالُوريُوس التِّجارة، جامعة عين شمس في عام 1976م. وظلَّت تعمل في شركةٍ للكهرباء كأخصائيَّة للشُّئُون الإداريَّة حتَّى مرضت في أُكتُوبر عام 2004م. تزوَّجت من شاعرٍ وناقدٍ عراقيٍ وعاشت معه في العراق في نهاية الثَّمانينيَّات من القرن الفائت.
أُصيبت بمرض سرطان الثَّدي ومن ثمَّ راحت تخترع شكل من أشكال المُقاومة ومُحاربة المرض، فكانت تقُوم بإعمال الخيال وإدماجه في عالمها.. «هكذا تمرَّست في التَّحايل على كُلِّ الصُّعُوبات»..ففي حُجرة الرَّنين المغناطيسي التي كانت تُشبه القبر كانت تتخيَّل نفسها تجرى وسط الحُقُول الغناء بمرحٍ وسعادةٍ، وحين بدأ شعرُها في التَّساقُط راحت تغطَّى مرايا البيت بالملاءات وبدأت في التَّعامُل مع صُورتها المحفُورة في الذاكرة لأنَّها جميلة ومبهجة، وقد تعلَّقت بفعل الكتابة تعلُّقًا شديدًا على اعتبار أنَّها الملاذ الأخير . وفي يوم الجُمعة المُوافق 17 من شهر أُكتُوبر عام 2008م، رحلت عن دُنيانا عن عُمْر يُناهز (٥5) عامًا، لتستريح من أوجاعها وآلامها إلى الأبد.
بدأت الكتابة وهي لا تزال طالبة في الجامعة، فقد كانت تكتُب المقالات في مجلَّات الحائط. وفي تلك الفترة تعرَّضت إلى موقفٍ يعتبر البداية الأدبيَّة الحقيقيَّة لها، حيث تقدَّم شخص للزَّواج منها فراحت تجمع عنه كُلّ المعلُومات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، ووضعت تلك المعلُومات في شكل قصَّةٍ قصيرةٍ وعرضتها حينئذ على النَّاقد الدُّكتُور «سيِّد البحراوي»(1953-2018م)، والذي أشاد بأُسلُوبها في الكتابة، ممَّا شجَّعها على المُواصلة، فكانت تلك هي البداية الفعليَّة لها.
من أهم أعمالها الأدبيَّة، نذكُر: «نصف امرأة» (1984م)، «العاشقُون»(1989م)، «ارتحالات اللُّؤلُؤ»(1996م)، «ضلع أعوج»(1997م)، «أشجار قليلة عند المُنْحنى»(2000م)، «شاي القمر»(2005م)، «حكايات المرأة الوحيدة»(2005م)، «يوميَّات امرأة مُشعَّة».وقد ترجمت بعض قصصها إلى عِدَّة لُغات أجنبيَّة، منها: الانجليزيَّة، والفرنسيَّة، والايطاليَّة، والكُرديَّة. كما أصدرت الأديبة عدَّة مُؤلَّفات خصَّت بها الأطفال، نذكُر منها: «النَّار الطَّيِّبة»، «رحلة الأصدقاء الثَّلاثة»، «وصيَّة الأزهار»، «بالُونة سحر»، «رُسُومات نيرمين».وقد حصلت الأديبة على جائزة الدَّولة في التَّفوُّق في عام 2008م.
في البداية لابُدّ أنْ نُؤكِّد أنَّ الأديبة «نعمات البحيري» تُؤمن في إبداعها الثَّري بمبدأ تداخُل الأنواع الأدبيَّة، وترى أنَّ مساحات الإبداع تمتد لتشمل مُختلف ألوان الكتابة، فهي تكتُب القصَّة القصيرة بلُغةٍ شاعريَّةٍ، وتكتُب المقال ممزُوجا بالسَّرد المُوحي، كما يتميَّز أُسلُوبُها القصصي بالوصف السَّردي والقُدرة على التقاط المواقف الحياتيَّة من خلال حوار أزمنة ثلاثة: الماضي والحاضر والمُستقبل، ومن خلال تفاصيل مُعبِّرة مشحُونة بالتَّكثيف الفنِّي وجعلها مُعبَّأة بفضاءات النَّفس الإنسانيَّة ونبضات الإحساس والفكر بصُورةٍ مُمتعةٍ، خاصة لما تحملُه من أملٍ وإدراكٍ لقيمة الإرادة الإنسانيَّة رغم المآسي.
ملمح آخر من ملامح تجربة الأديبة «نعمات البحيري»، سواء في قصصها أو رواياتها، نلمحُه ونلحظُه عن كثب ألَّا وهُو مُؤشِّر الغُربة، حيث تبدُو هواجس القلق والخوف والتَّمرُّد على شُرُوط الواقع وكأنَّها الحراك الأوَّل لفعل الكتابة، ومن هذا المُنطلق نفسه قدَّمت رؤية شديدة التَّمايُز والخُصُوصيَّة لعالم الغُربة في روايتها المُعنونة: «أشجار قليلة عند المُنْحنى»، وتسلَّلت رُوح هذه الرُّؤية بإيقاعٍ مُختلفٍ في مجمُوعتها القصصيَّة: «ارتحالات اللُّؤلُؤ».
والآن نُقدِّم قراءة سريعة لأهم أعمالها الأدبيَّة، نبدأ مع المجمُوعة القصصيَّة «ارتحالات اللُّؤلُؤ»، (1996م)، حيث تكشف فيها عن هواجس المرأة وهُمُومها التي تجعلُها أشبه بكائن حي يختنق. تميَّزت هذه المجمُوعة بطابع مُتفرِّدٍ ومُختلف كُلّ الاختلاف عن طابع القصَّة التَّقليدي، يتَّضح لنا هذا الطَّابع في التِّكنيك الذي استحدثته، فهي تعتمد على ما قد يُسمَّى باللَّقطات السِّينمائيَّة المُتَّصلة والمُنفصلة ضمنيًّا فيما بينها في آنٍ واحدٍ، حيث أنَّ كُلَّ مجمُوعة من هذه اللَّقطات تُشكِّل صُورة كاملة مُوحية برُؤيةٍ شاملةٍ، ذات دلالة مُحدَّدة. كما اعتمدت القاصَّة على سمة الاختزال والتَّكثيف في الصُّورة أو اللَّقطة دُون الاسترسال والوصف المُطوَّل، وأيضًا نراها وقد زاوجت بين السَّرد والحوار الدَّاخلي في بعض القصص.
وفي المجمُوعة القصصيَّة «ضلع أعوج»(1997م)، تقدُّم «نعمات البحيري» رُؤْيتُها عَبْر بناء قصصي مُتماسك ومُحكم له خُصُوصيَّته الأُسلُوبيَّة التَّعبيريَّة. ويمكننا أن نلحظ في قصص هذه المجمُوعة أنَّ القاصَّة تهمس ولا تقرَّر، تصوُّر وتُعبِّر عن المعنى الخبئ المُراوغ بالصُّورة البصريَّة والمحسُوس التَّشكيلي والمجاز، تعرض رُؤْيتها بصياغةٍ شعريَّةٍ ولُغةٍ مُقتصدةٍ ونغمٍ سرِّيٍّ وعبارات رماديَّةٍ مُهمَّشةٍ، وتلوُّن المواقف والأحداث وترصُّد الحركة بإيقاع وتوزيع هارْمُوني مُتعدِّد ومُتداخل الأصوات.
أمَّا في رواية «أشجار قليلة عند المُنْحنى»(2000م): فقد برعت في تصوير الواقع الدِّيكتاتُوري، وتتحدَّث عن صحراء الرُّوح بكُلِّ أشكالها، وتكتُب بطريقةٍ حيَّةٍ جديدةٍ مُحاولة تصوير الشَّخصيَّة الإنسانيَّة ليس في مصر فقط بل وفي العالم أيضًا. فهذه رواية لا يُمكن أنْ يكتُبها رجل؛ لأنَّها تتحدَّث عن القهر المُزدوج الواقع على الرَّجُل والمرأة معًا، وهي تُبدع في تصوير هذا القهر فهي رواية نسائيَّة بالمعنى الجديد للتَّسمية.
وفي المجمُوعة القصصيَّة «شاي القمر »(2005م)، يكتمل عالم «نعمات البحيري» الأدبي حيث تضع لمساتها الأخيرة على لوحة الألم الكبيرة، الجداريَّة التي تركتها لنا حافلة بحُبِّ الحياة. وكما نجحت القاصَّة نفسُها نجحت بطلات قصصها في أداء دورةٍ كاملةٍ حول السِّرّ الأعظم للحياة، والسِّرُّ هُو الحياة نفسها بكُلِّ ما فيها من حزنٍ ومسرَّةٍ، ومن ألمٍ وأملٍ، من نجاحٍ وإخفاقٍ. فالقمر الذي سطع بداخلها يطلُّ دائمًا، فتقول: «ما زالت أحلامُنا مُوجَّهة باتِّجاه حياةٍ بسيطةٍ.. نرسُمُ أحلامُنا ونعيشها فحتَّى لا نختنق لابدّ لنا من قُدرةٍ هائلةٍ على الصُّراخ فشهوة الحياة تتدفَّق في الحنجرة».لقد سعت دائمًا في قصصها إلى كشف الأقنعة، لم تكُن تقبل لأبطالها بمصائر سوَّى الاكتمال أو تحقيق الذَّات أو مُطاردة الأحلام والآمال.. أبطالُها لا يمُوتُون في الحياة وإنَّما يُحْيُون بعد موت.
أمَّا في المجمُوعة القصصيَّة «حكايات المرأة الوحيدة»(2005م)، فنرى المرأة الوحيدة في خمسة عشر صُورة، امرأةٌ تُعاني تلك النَّظرة التي يُوليها المجتمع لها، فالنِّساء المُتزوجات ينظُرن لها نظرة شكّ وخوف على أزواجهن، والأزواج بدورهم ينظُرون إليها كفريسةٍ مُهيَّأةٍ للاقتناص، بينما تُعاني هي في كُلِّ القصص فقدان الرَّجُل، سواء أبًا أو أخًا وزوجًا وحبيبًا، وسيكون عليها أنْ تكتشف قوانين اللَّازمة لمُمارسة الحياة، هُنا ستدفع بدماء الحياة في الزَّرع والحيوان حتى اللَّوحات المُعلَّقة على الجُدران، كما ستجتر الذِّكريات وتستدعي كُلّ اللَّحظات القديمة بكُلِّ ما حملتُه من انتصاراتٍ وخيباتٍ، وستبدو غريبة الأطوار وهي تُجادل الحياة والبشر من حولها. وستعرف كيف يُمارس النَّاس في مصر نوعًا من الرقيب المجَّاني على بعضهم البعض، فيكبحُون جماح رغباتهم ويحدُّون من حُرِّيَّة الحياة الخاصَّة.
أخيرًا، وفي رواية «يوميَّات امرأة مُشعَّة»(2006م)، نرى أنَّ الأديبة راحت تحكي مُعاناتها مع مرض السَّرطان. وقد تميَّز نمط القص بخُصُوصيَّةٍ شديدةٍ تمثَّلت في تركيز السَّاردة على نمطٍ مُعيَّنٍ لقصِّ الأحداث، وهي صيغة الخطاب المسرُود الذَّاتي، ويعُود ذلك إلى أنَّ السَّاردة عمدت إلى السَّرد الذَّاتي بما تتضمَّنه من أحداث صادفتها في أعقاب إصابتها بمرض السَّرطان، كما في قولها: «انقضضت على الجرَّاح بأسئلةٍ بعد أنْ أفصحت له أنَّني امرأة مؤمنة وأؤمن جيِّدًا بالقدر، فضلًا عن أنَّ لي محاولات غير بائسة في كتابة الدِّراما وأفهم على نحو ما دراما الحياة»..لقد عبَّرت الرِّواية عن عالم الإنسان ذلك الذي فرّ إلى ذاته فلم يجد حلًّا، وهرب إلى الآخر فلم يجد مخرجًا، بل ازدادت حيرتُه وخيبة أمله، كما برزت فيها رُؤية الذَّات والآخر بما يُعبِّر عن أزمة الإنسان المُعاصر وصراعه في التَّكيُّف مع العالم المُحيط به دُون جدوى !!
—
كاتب وباحث مصري