
نظر مليا إلى الساحة الشاسعة، وإلى العلم الذي يرفرف فوق مكتب المدير، كان التلاميذ يملأون الساحة بأكملها، يحومون حول النخلة التي زرعها في بداية الموسم الدراسي احتفاء باليوم العالمي للبيئة، كانت صغيرة مثلهم، لا تحجب الرؤية، إذ أن وجوه التلاميذ كلها تتضح من الطابق الأعلى للأساتذة، منهم من يتوجه إلى الباب الشامخ ليرحل، والآخرون البقية يتفرقون حول الأقسام، والكثير منهم تائهون دون وجهة محددة، الأستاذ سعيد وأحمد يحملان في اليد اليمنى الحقيبة البنية، وفي اليد الأخرى ملفات مليئة بالأوراق، يتجهان صوب قاعة الاجتماعات، اليوم الأخير في الأسبوع، كالعادة يجتمع الأساتذة، والأطر الإدارية، يقف محمد في باب القسم المقابل لقاعة الاجتماعات، مشوش الذهن، قلق التفكير، كان الباب مغلقا، لم يفتحه المدير بعد، الوحيد الذي يملك مفاتيحه، تحلق الأساتذة حول القاعة ينتظرون المدير، بقامته الرفيعة، ووجهه البشر، رأسه المرتفع، حاملا مثلهم العديد من الأوراق، يظهر المدير وسط الساحة، متجها صوب قاعة الاجتماعات، ألقى الأساتذة التحية، فتح لهم الباب، ودخلوا بانتظام شديد كاللؤلؤ في عقد المرأة، كان محمد لا يزال يراقب الباب وهو يغلق مجددا بعد دخول الجميع إلى القاعة، التفت إلى صديقه سمير سائلا إياه:
ألا تتساءل مثلي عما يفعله الأساتذة كل سبت داخل تلك القاعة! لماذا لا يدخل التلاميذ إليها؟
قال سمير مستغربا:
لا يهمني الأمر يا أحمد، هذه وظيفتهم، ما شأننا في تلك القاعة؟ وانصرف سمير كأن الأمر لا يرهقه مثلما يرهق تفكير أحمد.
ظل أحمد واقفا أمام باب القسم المقابل لقاعة الأساتذة، منتظرا خروجهم، كان القلق يأكل منه كما تلتهم الجائعة خبزا يابسا، يتمنى فقط أن يدخل هذه القاعة مرة واحدة، هكذا ينتظر كل سبت معجزة تحقق حلمه، أن يدخل القاعة ليكتشف السر وراء إغلاق المدير للباب كلما دخل جميع الأساتذة.
يتوكأ على عصاه، للمرة الأخيرة يقف وسط الساحة، يتأمل المدرسة، ويجوب بنظره المكان، محتميا بظل النخلة الشامخة وسط الساحة، يتجه صوب القاعة المقابلة لقاعة الاجتماعات، يمسح نظارتيه، يصفق الجميع له، يصعد إلى الخشبة التي رتبها التلاميذ بصعوبة كبيرة، يمسك مكبر الصوت ليلقي الكلمة الأخيرة، ينظر إلى الجميع فتهرب منه الكلمات، هذه المرة الوحيدة الأولى التي يجد فيها جوفه فارغا، مليئا بالمشاعر التي لا تترجمها الكلمات، خمسون سنة مرت، كأنها البارحة، منحه المدير شهادة تقديرية، التلاميذ أيضا، وبعض الهدايا الرمزية.
في طريقه نحو باب الخروج سمع إسمه، أستاذ محمد، كان تلاميذ قسمه ينادونه وعيونهم مليئة بالدموع، هو نفسه اغروقت عيناه بالدموع:
شكرا لك على كل المجهود الذي بذلته من أجلنا.
قال مبتسما:
هل أسألكم سؤالا أخيرا؟
رد التلاميذ دفعة واحدة:
نعم أستاذ.
هل لديكم أحلام؟
أجابو دفعة واحدة، بشغف كبير: نعم.
إذن، أوصيكم وصية!
كافحوا من أجل أحلامكم، حافظوا على نظافة المؤسسة، واهتموا بقاعة الأساتذة، إنها باب لحلم كبير، حلم بوسعه أن يربي جيلا بكامله لكي يحلم أيضا.
ونظر للمرة الألف إلى القاعة المغلقة، رافعا يده ليلقي السلام، كأن القاعة شخص ما، كأنها هي نفسه، أو كأنها حلم أغلق ليفتح لشخص آخر من جديد.
واستدار مودعا المكان، تاركا وراءه جماعة من الأطفال الحالمين.