
فعلاً حسب الوضعيات يعتبر الشعر صوت للأعماق ، لهذا نجد الشاعرة خديجة بوعلي تهيم في سراديب صخب القلق والحيرة وخاصة في عاصفة الموت ، تحاول أن تراقص هسيس الكلمات المكتومة بصياغة تطرح عدة تساءلات متناقضة ، تنتفض بحنكة دفينة المعاني وتحاول استنطاق إيحاءات الصور الشعرية الشاعرية بطرائق تتنحى كل نمطية معيارية بلغة تحرك لواعج الذات وكوامن النفس لتشكل قصيدة بتوهج جميل ممتطية الترميز مع الانزياح البناء . إنها بكل استشراف تعانق البهاء في أسمى تجلياته بإحساس فلسفة الموت… إن طبيعة تركيبة القصيدة نبراسا لواقع تزواج ما بين الفكرة الأساسية للحياة و الموت الذي يعتبر معبرا لعالم اللامرئي ، فكرة تجسد الأسى ، تجسد هموما شعورية .
نص يعكس عمق الذات الشاعرة بما يخالجها من رؤى فلسفية لهذا حاولت قدر الإمكان ترجمة بوحها بترنيمة روحية بأسلوب يتماشى مع وظيفة الكلمات الشعرية الشاعرية النثرية التي نسجت بها نصها المعنون ب ( الحضور بقوة). … بكل حنكة طرحت الشاعرة فكرة حارقة بعمق فلسفي على امتداد القصيدة تلخص أفكارها وهواجسها بمشاعر روحية صرفة ، ولا بد الوقوف على بعض تفسيرات للموت لبعض فلاسفة اليونان وكذا عند فلاسفة المسلمين ، فبالنسبة لسقراط شهيد الفلسفة اليونانية اعتبر الموت “إما نوما بدون أحلام وإما عبورا وهجرة إلى عالم آخر “، بينما أفلاطون اعتبرها خلود النفس ووصفها “بسجينة الجسد “. أما أرسطو يرى أن الإنسان مركب من نفس وجسد وهما متحدان كاتحاد الصورة بالمادة وختم رأيه أن الذي يبقى من النفس بعد الموت إنما هو العقل الذي أطلق عليه أرسطو اسم “العقل الفاعل” وبالرجوع إلى الفلسفة الرواقية نجد أن إبكتيتوس رفض وصف الموت بالشر واعتبر الإنسان : مكون من أربعة عناصر أولية : هي الماء والأرض والهواء والنار ، وفي لحظة الموت تنحل هذه العناصر وتعود إلى ما كانت عليه .
وعند فلاسفة الإسلام يرى الكندي أن الموت أمرا رديئا لأنه ” تمام طباعنا” فإن لم يكن الموت لم يكن الإنسان .
وجدلية الحياة والموت مستمرة إلى ما لا نهاية تماماً … لم يتم الحسم فيها ، إذا هل الموت نهاية أم انتقالا أو عبورا أو حتى عدمية …
فالموت عند الفلاسفة يبقى لغزا من الألغاز …
لكن لا بد من طرح سؤال : هل بالموت يتألم الإنسان ، أم تنتهي عذاباته على الأرض ؟
سؤال يتطلب الوقوف على مضامنه وتركيبة شكله بروية ، وخير ما يمكن الإجابة به هو ما جاء على لسان الشاعر الفلسطيني محمود درويش :
الموت لا يوجع الموتى ، الموت يوجع الأحياء ..!!!
وخلاصة القول : أن المبدعة خديجة بوعلي تتملك ناصية اللغة ، كما تعانق حلما بعطاء الفكر والرقة والعذوبة ، إنها تعزف بكلمات دالة مترجمة لطيات سكنت دواخلها … نعم إنها صوت يصدح بالإبداع يغرق الجوانح والكيان نشوة وطربا …. حتما تعتبر خديجة بوعلي أديبة وشاعرة ترفع لها القبعات تقديرا لكتاباتها المتميزة و المتفردة .
—
النص:
الحضور بقوة بقلم: خديجة بوعلي/ المغرب
الموت ليس عدما
الموت غير الغياب
الموت حضور وارف لما وراء الهناك
حضور ملح و بإصرار .
حضور التفاصيل في صور البهاء
نمنمات الغائب تزخرف الصحو و الأرق. ..
شمعات تنير اللمات
تضيء دهاليز العتمات
الموت ليس انتهاء
الموت ليس مغادرة و إغلاق أبواب
بل …
الموت استمرار في الحياة
بألوان غير الألوان
في أشكال غير الأشكال
في سكون و بصمت عال
الموت حياة تضج في الروح و الخلد
الموت صوت و نور فلق
في صمت الحياة …في صخبها …في ضجيجها الهراء .
الموت حق .. .
حقيقة الحياة
و ما غير ذلك خواء .
يعيش المرء في الموت
ما لم يعشه في الحياة
يحضر في الأصباح و الأمساء
تلوكه القلوب …الألسن بحب …
بحنين و اشتياق .
تذكره النجوم و الأقمار و حفيف الشريان…
يمر من كل النوافذ و الأبواب
نوره زلال
في كل الآفاق،
يخطو في كل الدروب
كنسمة هواء
خفيفا …لطيفا …
يحفر الأفئدة ودا
ذكره يترقرق في كل الأفواه.
الموت لا غياب به
الموت حضور الغياب
على الأرائك ممدا
ينبهنا للآت …
ينبهنا أن هاهنا نحن
و قد نغيب في أقرب الأوقات…
نغيب لنحضر على الثغور
و الشفاه
امتعاضا أو بسمات دعاء
ما الحياة الدنيا إلا مانعيشه من خواء
ما الموت إلا انتقال الجسد إلى طيف يعتاش على وخز الضمائر و نقر النياط.