
ما الذي جعل ذلك السجان الذي يخافه الجميع يفتح باب الزنزانة الضيقة ويخرجه منها. أراد أنْ يسأله: الى أين يأخذه؟ لكن الخوف والاضطراب أخرساه، ولم يستطع أنْ يفعل شيئاً وسط الظلام سوى أنْ يسير معه، مستسلماً للموت الذي ينتظره في نهاية الممر، حيث ينتظره السيّاف ليقطع رأسه. لكن المفاجأة التي تنتظره هناك كانت أكبر من أنْ يحتملها قلبه المضطرب. تنفّس الهواء النقي عندما صار خارج اسوار السجن العالية. فكّ قيوده، ثم قال له دون أنْ يلتفت اليه:
– امتط هذا الحصان، وسيأخذك الى مكان بعيد، فتكون بأمان، ولن يعثر عليك جنود السلطان … هيا بسرعة، ولا تلتفت ناحية السجن.
– ولكن، لماذا تعرض نفسك للخطر من أجلى؟
لم يرد عليه، فقط نظر اليه نظرة لم يعرف تفسيراً لها. امتطى الحصان، وقبل أنْ ينطق بكلمة شكر، ضرب السجّان ظهر الحصان، فانطلق كالسهم يخترق الرياح.
قطع مسافات طويلة، كان الحصان يقطع الطرق الملتوية كأنه يعرفها. أخذه الى اماكن لم يطأها من قبل، لكنه رغم ذلك استسلم له. بقي السؤال يضغط على ذهنه. باحثا عن تفسير لما فعل السجّان معه. لماذا؟ ارتفع صوته عالياً، لكن لم يكن هناك جواب سوى صهيل الحصان وهبوب الرياح الباردة.
بينما كان الحصان يسابق الريح، انهمرت عليه الذكريات كالمطر. وأخيراً عرف من يكون السجّان. نعم انه هو! أحد زملائه الذين كانوا يدرسون عند شيخ الطريقة قبل عشرين سنة تقريباً. تذكّر ذلك اليوم الذي ساعده فيهِ على اجتياز أصعب اختبار وضعهم فيه شيخهم، مما جعل الشيخ يرضى على زميله ولم يطرده. في ذلك اليوم، قال له: “لن أنسى ما فعلت من أجلى، وسيبقى هذا دينا في رقبتي ما حييت”. وها هو اليوم ينقذه من الموت، بعد أنْ عاش أيّاماً ولياليَ في تلك الزنزانة القذرة، يائساً، منتظراً تنفيذ حكم السلطان الجائر على كل من سولت له نفسه الثورة ضد الظلم والطغيان. تمنى أنْ يعرف الى أين يأخذه الحصان، بصهيله الذي يشبه انشودة جميلة كان يسمعها من أمه عندما كان صغيراً، متكوراً في حجرها الدافئ. لم يستمر شعوره بالفرح سوى دقائق، عندما تعثّر الحصان بحجر كبير، فارتمى على الأرض بعد أنْ ارتطم رأسه بالحجر.
لم يعرف كم مضى عليه من الوقت غائبا عن الوعي. انتشر نور الصباح. رأى نفسه في هذا المكان الذي يشبه الأحلام، الذكريات، او ربما يشبه رذاذ المطر في الأجواء الباردة. أيقظ فيه رؤى غريبة تلامس قلبه الحزين، لكنها في الوقت نفسه أخافته كثيراً. لم يجد الحصان، ربما تركه وعاد إلى صاحبه السجّان. لكنه عندما نظر أمامه بتوجّس، لم يستوعب المشهد الذي رآه أمامه. ارتفعت ضربات قلبه وهو يرى مجموعة من السائرين بخطوات بطيئة، دون تردد فوق جسر خشبي ينتهي بحديقة كبيرة، مسيّجة بالنخيل والأشجار المتداخلة الاغصان. لا أحد منهم ينظر او يحس بوجود الآخر. كانت انظارهم ثابتة للأمام، كأنهم سائرون وهم نيام. لقد أخذته الدهشة مأخذاً عظيماً، مما أثار في نفسه تساؤلات كثيرة لم يستطع الهرب منها. تمنى أنْ يكون معهم، دون هواجس تزرع الخوف او تثير أسئلة لا أجوبة لها. نهض مسرعاً وذهب إليهم، محاولاً أنْ يعرف منهم إلى أين هم سائرون بهذه الهيئة المخيفة. كلما اقترب منهم، زاد خوفه وارتفعت ضربات قلبه. لكن الرغبة في المعرفة كانت أكبر من خوفه وتوجسّه، وأكبر من يفكر في تركهم والهروب بعيداً عن الرعب الذي تركوه في نفسه المضطربة.
عندما وصل الى الجسر، اقترب من أحد السائرين، وما أنْ وضع يده على ظهر آخرهم حتى تلاشى واختفى في الهواء كالفقاعة. وضع يده على ظهر الثاني، فتلاشى مثل الاول. وهكذا كانوا يتلاشون الواحد يعد الآخر. وقبل أنْ يستيقظ من هذا الكابوس المرعب كان قد تلاشى هو الاخر.
15/ اذار / 2025