
في العشرة الأولى من عمري سألت معلم التربية الإسلامية أسئلة جريئة، ما كانت لتخطر على باله بخصوص الحياة الزوجية، ما كان ليجرأ وقتها أي تلميذ ولو بكلمة واحدة، مع أن جميعهم كانوا بغاية الوله والولع وقمة الاستماع والاستمتاع والإصغاء.. فكمْ كان ليسعدني أن يجيبني المعلم ولكنه بالفعل فعل، أن سحبني من يدي مصفّداً بقبضته الوحشية للسيد المدير، ومنه تم استدعاء ولي الأمر ـ والدي الموقر ـ وما أدراك ما ولي الأمر.؟ كنت على شيء من الفطنة التي دائماً ما يسمونها بالشيطنة والوقاحة، فقد كنت أتلصص على ولي أمري والسيدة المصونة زوجته في خلوتهما الشرعية، واسترق السمع في أكثر المرات لحديثهما الذي لا يخلو من هسهسة ودمدمة ونكات جافة بلا روح، فقلما سمعته أن قال كلمة حب، أو بيت شعر غزل، أو حتى قبلة على الماشي، وما كانت المسكينة كذلك لتجازف وتمنحه قبلة سلام، حتى وإن كان عائدا من سفر بعيد، إذ يقتصر سلامها بالحمد لله على السلامة، ونظرة باهتة تعجز عن فرزها، أهي للترحيب والترغيب أم للترهيب والتعذيب.؟!
كل ما لاحظته على الأمد الطويل أنهما زوجان (قرويان) تعدُّ له العشاء أفضل بكثير مما تعد له الفراش.!
في ذروة المراهقة المبكرة تسورت الحيطان، وتسلقت أشجار الجيران كالقرد، أتوثب من ستارة إلى أخرى، وأعبر من بين الأفاريز والأطناف والسقائف، وابصبص محدقاً في مصاريع الأبواب المفتوحة والنوافذ المشرعة، بحثاً عن لوحة إغراء للسيقان الممشوقة والصدور المكشوفة والشعور المنشورة المنفوشة.
وأول ما كبرت عشقت بنت معلم التربية الإسلامية حد الهيام، ودبكت مع كل دبكة، وغنيت مع كل أغنية طروب، واستمعت كالمعذب بالهوى.. ولأن الرجولة لم تكتمل إلا بالسُكر والتدخين والشقاوة و(الفتونة) وممارسة الحب. وجدت نفسي في منجم الحياة المظلم، لا ضوء في نهاية النفق.. كعمال المناجم الأرقاء، الضوء الكابي ينثر بقعة صفراء باهتة من مصباح خوذته، ويتنفس الكاربون والميثان القاتل، ورائحة الفحم والسخام تسد مناخيره بالرماد، وتعلو وجهه الكالح سحنة وغبرة ومسحة انكسار كالأجير الذي لا يجني من شقائه المضني سوى قوت يومه وقنينة خمر، تظل ملابسه سوداء تلمع بشحوم دواليب الرفع الصدئة، والجرادل والدلاء التالفة، وسقالات الخشب المتآكلة، وروائح المباول النفاذة في السكك المطمورة والمغمورة بجيفة التربة الرطبة الوخّازة؛ وعلى جدار المنجم ترسم الكلمات بالفحم والذكريات…
كل ما فهمته بعد مضي عمر طويل أن ثقافتنا محدودة تقليدية لا مجازفة فيها لاكتشاف مناجم العلم، وأن التعليم في عالمنا العربي خجول جداً.. وأي سؤال خارج المنهج قد يعرضك لعصا التوبيخ، وضرب المعلم، وفلقة السيد المدير، وأن يحجر عليك الأب داخل الأبواب المغلقة، ويحظر المصروف، ويمنع القريب والبعيد عن زيارتك، ويوصي الأم باتخاذ الاحتياطات المناسبة لصد ولد عاق بكل ما أوتيت من قوة ورباط الخيل والأقفال.
في كل هذا العسف والجور تنزل بك المرأة ألف سلمة وسلمة باتجاه نفق لا ضوء فيه نهايته وبصيص أمل.. حتى الحب القروي العذري الذي كنت اسمع عنه، كان بعداد الأساطير المستهلكة للتسلية وتزجيه الوقت وخداع الأطفال.
حتى بنت المعلم نفسها لم تعرف شيئاً عن الحب العفيف ـ كما كنت أتصور ـ بل هي سمعت شيئاً من حكايات (السهوكة) في الأفلام العربية وكتيبات تراث غير مصدق. فجاءت بها مراكب الفضول صوب مرافئي، ورمى المدّ جثتها بحضن سواحلي المترعة بالهياج. وبتُّ وإياها في ظلام قاتم نحترق كالشموع.