
في إطار فعاليات الويكاند المسرحي لفرقة أرتو للمسرح وفنون العرض النسخة الرابعة، قدمت فرقة المسرح: نادي خشبة الحي مراكش يوم الأحد 25 ماي 2025 بالمركز الثقافي آيت أورير مسرحية “السكات”، وهي من تأليف عبد الفتاح عاشق، وإخراج عماد فجاج، وإدارة عبد الرحمان الصبطي، وتشخيص فيروز عميري (نجمة) وعلال كودار (العربي) وعصام الدين محريم (المعطي) وفيصل كمرات (العاري).
من عنوان المسرحية تتناسل أسئلة العرض الدرامي المقدم للجمهور: لماذا اختيار “السكات” كعنوان وليس الصمت؟ وكيف للفعل الدرامي أن ينمو بواسطة “السكات”؟
يقترن الصمت بكل مظاهر الأدب، بل يصل عند البعض إلى درجة الحكمة. يشير الصمت إلى التروي والهدوء المطلق، ويبعث على الطمأنينة والرضى. بينما السكوت أو السكات يترتب عن الخوف والاضطراب، وهو مظهر من مظاهر العجز؛ العجز عن المواجهة لحظة المواجهة.
انطلق العرض المسرحي بالسكوت التام المصحوب بتصاعد دخان مصطنع “الدخان الغازي” من خلف الجدار، فخلق صورة بصرية دفعت المتفرج للانخراط المباشر في أجواء المسرحية صاحَب السكوت والدخان الغازي شراهة تدخين كل الممثلين الواقفين على جدار يتوسطه بوابة حديدية (ريدو) وعلى الجدار خُطت ورسمت عبارات ورسوم وأرقام وخربشات كلها تحيل على واقع جدراننا في المغرب. كل ما خط على الجدار مفاتيح أساسية للقبض عن المعنى الذي قد يبدو للبعض أنه مبهم غامض.
بصرخات متتالية تتكرر الكلمة الآمرة: السكات.. بعدها يتردد اختفاء المؤلف. بإعلان اختفاء المؤلف، سيعلن العرض المسرحي عن اختفاء الأصول المألوفة للكتابة الأدبية للمسرحية، واختفاء القيم الأخلاقية المقترنة بالتعريف الفقهي للأدب. وهي عملية تحضير للجمهور كي يتقبل كل أنواع الشتم والسب بكلمات نابية؟؟ وكان أكثرها وقعا ” الله إنعل بوك المخرج”! شتيمة قد لا تقف عند حدود المخرج المسرحي لتحمل دلالات أبعد قد تصل إلى حد ما هو ميتافيزيقي. وباختفاء المؤلف، وبشتم المخرج تحرر الممثلون، وتركوا لأجسادهم وعباراتهم التعبير عن وضعهم المأزوم.. وصار الجمهور يتحسس من خلال حواراتهم الخيط الناظم لهذا العمل الفني غير المعتاد. من هنا وجب الربط بين عبارات الجدار وبين الأحداث:
ـ التأطير الزمني للحدث خط على الجدار، بأرقام واضحة تمتد من سنة1981 إلى سنة 2024 ..
ـ التأطير المكاني خُطت كلمة الكاريان..
ـ الهدف والغاية خط بخط عريض واضح العبارة التالية: “سمعْ صوت الشعب”..
ـ الإلحاح والاستمرارية كتب على الجدار “جون لينون لم يمت” وهي إحالة على عنوان لمسرحية سابقة لنفس المخرج.
بالعودة إلى التأطير الزمني فأحداث المسرحية تُساءل لحظة من لحظات تاريخ المغرب الحديث، والتي أطلق عليها وزير الداخلية الأسبق ادريس البصري عبارة شهداء كوميرا، وهنا يتضح معنى المسرحية السكات.. لماذا وقفنا خلف الباب ننصت لأزيز الرصاص؟ ولماذا نعيد ترتيب الأحداث من موقع الساكت الخائف الجبان؟ وكيف ارتدينا لباس السكات بأظرفة مالية، وقفاف توزع علينا باستعلاء؟ ولماذا يحول الساكتون صراعهم الداخلي إلى من هم من طبقتهم، ولا يوجهونه إلى الآخر؟ وكيف لهذا الخوف المصطنع أن يتجذر في النفوس حتى لحظة عرض المسرحية في 2024؟
بالرجوع إلى التأطير المكاني: الكاريان فالكلمة توضح الانتماء الطبقي سوسيولوجيا، وانتماء العرض المسرحي إلى مسرح الشارع كشكل من أشكال التعبير التجريبية في المسرح الحديث، والذي تقوم فيه عفوية العبارة، وحرية حركة الممثل بدور رئيسي في البناء الجمالي للتعبير عن المعاناة والتهميش والإعلان عن رفض الفرقة لمسرح المتمسرحين التافهين الذين يصرون على توظيف الفن من أجل تكريس “السكات” مقابل دريهمات لا تغني ولا تسمن.
“سمع صوت الشعب” جملة طلبية تسعى إلى قلب موازين الاستعلاء في الأمر بين الآمر والمأمور، لتتحول إلى أمر حقيقي يكتسب استعلاءه من قوة الشعب، وليس من قوة السلطة.
تبقى الإشارة إلى جمال التوظيف الجسدي للممثلين جميعا، وإبداعهم لحركات جسدية تنم عن ممارسة عليمة بفن المسرح، وعن دراية عميقة لإمكانيات الجسد في التعبير عن العواطف والانفعالات والأحاسيس.. وكان لجسد فيصل كمرات العاري الأثر البالغ في الجمهور، وقد فسر هذا العري بطرق مختلفة كشخصية محايدة لم تدخل في صراع طيلة أطوار العرض إلى أن نكتشف في الأخير أنه الوحيد القادر على فتح بوابة الجدار وإغلاقه، والذي يملك حق انتقاء من سينتقل من الخارج؛ الشارع بكل تجلياته في المسرحية، إلى الداخل المعتم بالدخان.
تجلت متعة المسرحية في القدرة على:
ـ استحضار الذاكرة الجماعية وبعثها، والتأكيد على أنه سيعاد فتح كل الملفات، وإن طال عنها الزمن.
ـ مساءلة كتبة التاريخ عن تشويههم لأحداثه.
ـ مساءلة الواقع ماذا تحقق بعد مرور عقود من الاستقلال فاقت زمن الاستعمار.
ـ تكسير الرتابة التقليدية للعرض بتكسير الجدار الوهمي الفاصل بين الجمهور؛ سواء عند قذف الجمهور للممثلين بحبات الطماطم، أو في صعود وهبوط الممثل عند الجمهور، وخيبة أمل من ينتظر لحظة التطهير المفضية لتكريس الاستلاب.
ـ مساءلة الواقع المسرحي في المغرب، وعدم انخراطه في تشييد الوعي الجمالي المقرون بوعي سياسي ملتزم.
ـ الدعوة لإعادة تقييم الوضع العام من زاوية خارج اللعبة، وبرؤية مختلفة.