جايم العايف:
يفتتح الشاعر” مجيد الموسوي” مجموعته الشعرية الثالثة “دموع الأرض”* بيوميات الربيع الدامي مستعيراُ فيها ما ذكره هنري مللير:”الحرب هي شكل من أشكال الجنون، سواءُ أكانت أهدافها نبيلة أم منحطة. والقتال ليس سوى فعل يدل على اليأس لا القوة”. لذا فـ”الموسوي” يلعنُ شعرياً الحربَ التي تخّرب الأوطان والمدن والإنسان وذاكرته وروحه:
” رؤوس تطوّح حاسرةً،
ودماءٌ
ت..
س..
ي..
لْ !”
أما عن ما يرافق الحروب من بربرية وانتهاكات ،عبر التاريخ ، وفي كل مكان وزمان، فيرى:
“في هدأة الليل
تأتيني أصوات العويل البشري:
أصوات المذابح التاريخية كلّها
أصوات الجماجمِ
والأكف
والأرجل..
أصوات الموتى”.
“الموسوي” مجايل لشعراء العقد السبعيني العراقي، ويكتب قصيدة التفعيلة الحديثة، إلا ما ندر. ومن خلال شعره نتلمس القصيدة بصفتها حالة غامضة من الغياب والحضور من الحلم واليقظة، من التذكر والنسيان،حالة من احتدام الروح يغدو فيها الإمساك بالبدء أو المنتهى أقرب للمستحيل. وحتى اللغة لا تكاد تلتقط من هذه الحالة إلا بعض سطوعها وشراراتها. القصيدة لديه تريد أن تقول شيئاً ،أن تبوح بسر ما، برؤيا، بحلم، بشيء مدهش، شيء من السحر يؤجج الأعماق،ويشعل الروح.إنها أشواق متحدة بالأقاصي، ونشوة شاملة تتلبس الروح، ومن هنا يصبح تحديد بدء القصيدة شاقاً وعسيراً لديه!. كيف تبدأ القصيدة إذن لدى الموسوي؟. ثمة محفزات توقظ فيه الحنين إلى عالم الغرابة والمجهول والرؤى، ترنيمة بلبل، وجه عابر،أغنية، فتاة ناحلة محبطة، كلمة في الريح، مشهد ما:
“أخيراً: أيها الوجهُ البعيد تمدَّ لي خيطاً رفيعاً/ تستفزّ به الكهولةَ، أي خيط للنعاس يجيءُ!/ أي شذا تبقّى، بعد/ أي ملاءة كالريح خافقةٍ سألمسها/ واغسل في مساحبها اكتظاظَ الشعرِ/ أيّ حديقةٍ أولى تفتحُ لي/ فادخل”.
هكذا تتفجّر المصادفة أو المفارقة أو اللوعة الخفية، فيندفع للقول، محاولاً الإيغال في عالم الشعر، والإمساك بشيء من لهبه ونشوته، من شذاه وغبطته وربما من جنونه وفوضاه، وعندئذ تبدأ القصيدة. ولكن هل هذا التوصيف يكفي لولادة القصيدة؟. عند هذا الحد نغفل مسألة غاية في الأهمية ،يذكرنا بها شاعر صيني عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، كان من سوء حظه أن يخسر موقعة عسكرية، لكنه ربح الشعر! ذلك الشاعر الذي جعله”ماكليش” في “الشعر والتجربة” دليله لمعرفة عالم القصيدة. إنه الشاعر “لوتشي”الذي يحدد الحواضن الموضوعية لولادة القصيدة، من خلال جملة من المسائل، يرى فيها الأساس في ولادة النص الشعري بوصفه اصواتاً وكلمات، قبل أي شيء، فإذا أردنا أن نحدد ذلك بنقاط أوردها ” لوتشي” يمكن ندرجها على النحو التالي: يجلس الشاعر على محور الأشياء، و يتأمل في سر الكون ويغذي عواطفه بمآثر الماضي. ثم يتنهد لمرور الزمن ،إذ يتقلب مع الفصول.ويعاني من البرودة وقلبه مفعم بالرهبة. فإذا اطمأنت روحه ، رمى بالكتب بعيداً، وتناول ريشته ليعبر عن نفسه بالكلمات. هذه القضايا المدهشة هي التي تضبط إيقاع الشعر، وتحدد اتجاه بوصلة الشاعر، وتولد القصائد من خلال تلاحمها في سياق متصل خاص، وإذا تأمل المتلقي هذه الآراء التي تبدو للوهلة الأولى، محض تعبيرات، فإنها تنم لوحدها عن لًمع من المعرفة، تشع من وراء الأقاصي البعيدة التي يقطعها الساعون وراء الشعر. الشعر لدى (الموسوي) ليس مجرد انتظار سلبي لانبثاق الرمز من أعماق اللاوعي، بل من قطبين هما، الإنسان – العالم، لينبثق بعد ذلك ضوء القصيدة المشع من ملايين الأشياء، التي يتأملها الشاعر، وربما لا يراها الآخرون. ومن الواضح أن هذا وصف خارجي لولادة القصيدة، ولكن بأي طريقة، يحدثنا “لوتشي”عنها؟. فالشاعر هو الذي “يأسر السماء والأرض داخل قفص الشكل”.إنه بكلمات أخرى ليس ذلك المخترع للأشكال الحرة، بل العكس إنه يستخدم الشكل كشبكة، يتصيّد، ويأسر التجربة جميعها ويحدد “لوتشي”ذلك بقوله: ” نحن الشعراء نصارع اللاوجود لنجبرهُ على أن يمنح وجوداً ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى، إنك كشاعر تأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق”. بالنسبة للموسوي القصيدة لا تولد من فراغ أو من حسن النوايا كذلك، إنها معاناة خاصة تجمع طَرفَي التأمل والشكل، أي تفريغ رؤيا الشاعر في شكل، إنها الإنسان بكل تجلياته، ومعه الأشياء جميعها لكن داخل شكل محدد.
2
(مجيد الموسوي) هو من القلة النادرة من الشعراء العراقيين الذين ما زالوا يواجهون الواقع الضاري والعالم وبربريته برومانسية، تلك الرومانسية الخلابة المفتقدة حالياً ،وعبر الـ (أنا) الخلاقة وغير منغلقة على ذاتها بغنائية مترفة:
“هكذا
مثلما قد
ترى خفتَ اللحنُ في فم هذا الفتى..
واستحالت قصائده حجرا..
….
كاد يتبّع الطير
وهو يغادر مكمنه الحرّ
لكنه دونما سبب واضحٍ
رجع القهقرى”
ثمة ميل في توجه ” الموسوي” إلى رصد الواقع وضراوته وإصرار على عدم التصالح معه، من خلال تساؤلات، وتقلبات ذاتية، إنه يواجه العالم الصلد بالشعر والذي يتميز غالباً بالبحث والتأمل والأسئلة التي لا جواب لها:
“لماذا
توجست، حين دخلتُ المدينة،
من شجرٍ غائم
وعيون
تراود
خطوي ونهر بلون الرماد!؟”.
مفتتح القصيدة يستدعي قصيدة” البحث عن خان أيوب” لـسعدي يوسف، لكنها تشق لها طريقاً آخر، لا يلتقيِ بتلك القصيدة. “الموسوي” يفترق عنها بالموضوع وبخصوصية التوجهات:
“لماذا رأيت ُ الحدائق والشرفات الخفيضة
والطرقات التي كنت اعرفها
والمنائرَ والعشب
قد وشحت بالسواد
لماذا!”.
ثمة نبرة خاصة للحلم والشفافية جعلت رؤيته تتجه صوب التأمل والتفكر ومعايشة الخيال فـهو ينفذ إلى الوجود الإنساني عبر نصوصه الشعرية وغنائيته روحياً، وبوحه وحنانه المُفتقد، في ما نقرأ الآن من شعر، أو نسمعه من على المنابر:
” أترى:
كلما اقترب الوعدُ
واختلج النجمُ
ساوره الوهمُ ثانيةً
فاكتفى بوساوسه سفناً
ومضى
مبحرا..!”
3
(الموسوي) الشاعر متخم بالأسئلة ، أسئلة غارقة في الوجدان، وهو المفتون بكل شيء يعيشه ويراه، ومنه مدينته، وعبر بعض قصائده يتفرس في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها، نعود لاستعادتها، بوسائل وطرائق وصيغ شتى، ونسقط على الكثير من بعض مظاهر الحياة المادية فيها، حاجتنا المتواصلة للإحساس بالحماية والأمن اللذين يمكن، في لحظة ما،أن يتوفرا لنا. ولا يفتر الموسوي عن ترديد(بَصّرته)، كأنما خلق لها، وغمس في تيارها واستنشقها:
” البصرة/ عين الأرض الأولى: الاهوار/ البردي/ القصب/ الصفصاف/ طيور الماء/ السمك البنيّ/النخل/ الطين الحريّ/ النبق/ العشبُ/ الشجرُ/ العشار”.
“البصرةُ
لمعٌ في ذاكرة البرقِ
وسيدة لا تنسى حين تغادر:
تترك بعض أنوثتها
النفنوفَ المبتلّ الخفينِ
ودغدغةَ الآه!
البصرة
آخر ما نملك في الأرض
وأول
ما يرفعه الله”.
انه ذلك الوجد المتسرب للروح التي لا تعرف استقراراً ولا تهدأ عن الهيمان. الموسوي يغريه الخوف من حيرة الجواب عن السؤال، فيواجهه بسؤال آخر، وهذا ما يميز شعره في “مخاطبات العشب”/ 2000 – بغداد / دار الشؤون الثقافية و”يقظة متأخرة”/ 2001 عن الدار ذاتها. وكذلك مجموعته الأخيرة (دموع الأرض). ثمة ضجيج الأسئلة المتواصل إذ تتكرر مفردة” لماذ” كثيراً وهو سؤال ينبع من المجهول الذي نلمسه في الوجود عامة وفي الحياة الخاصة:
” لماذا تركتِ يدي ومضيتِ
لماذا تركتِ قميصي المدّمى ببيتي
لماذ، وقد بح صوتكِ من وحشةٍ ،
بحّ صوتي
لماذا وقد قمت
من جدثي عارياً
بعد أن صلبوني عانقتني
وبكيتِ !”
4
في (دموع الأرض) نتعرف على” البقية الباقية من سمات الشعراء الرومانسيين ،البصريين بالذات، الذين راهنوا على الحلم والتخاطب معه واليقظة المتأخرة عن غفوة الموت في الحياة، (مصطفى عبد الله) في الأجنبي الجميل و(عبد الخالق محمود) في عازف آخر الليل، اللذين دلفا إلى عالم المتعة الأبدية وابتعدا عن العالم فعلياً بمغادرته، وتحمل الموسوي بعدهما وحده حملهما، وإخفاقات عالمها المشحون بالرومانسية ، وناء بأخيلتهما معاً” / الناقد عبد الغفار العطوي جريدة (المشرق) ومداخلة في اتحاد أدباء البصرة. العطوي أخطأ عندما وضع (مصطفى عبد الله) في خانة (الشعراء الرومانسيين)، ويمكن التأكد من ذلك ، عند مراجعة مؤلفاته الشعرية الكاملة والتي صدرت عن وزارة الثقافة العراقية- بغداد/ دار الشؤون الثقافية العامة- ط1- 2004 . والمعنونة (الأجنبي الجميل) وقد حققها وقدم لها الشاعر عبد الكريم كاصد وغلافها ورسومها الداخلية للفنان فيصل لعيبي. لكن العطوي أصاب في توصيفه لـ(رومانسية) الشاعر(عبد الخالق محمود). كما اجتهد-العطوي- كثيراً في أن يموضع الموسوي في خانة (العرفانين)، لكن عالم الموسوي الشعري يفتح أفقاً واسعاً للواقع الذي لا يتصالح معه بل يحدق إليه بتمعن فيرى فيه ما لا يراه غيره عبر عالم شعري ينطوي على مزدوجتي الواقع- الحلم. وهو يفتح الباب واسعاً للغياب عبر المفارقة والإيغال في التيه القادم من الواقع- الغرائبي ذاته:
“سأسوى طريقي
ولكن: إلى أين؟
لا فجر مبتكراً يتنزل لي
أو قناطر تكشف لي سرها
أو سفائن تنشر
في الريح أشرعة
وتهاجر
لا نجم لي يترقرق في آخر الأفق
لا شيء!
لا شيء!”.
……
” في أي زمان نحن،
وتأخذني سِنة
وأعود إلى النوم
فيربكني
الحلمُ
أفز من الرعب:
أرى أشباحاً ليليين
يعيثون ببيتي
وتغيم الرؤيا”.
يمنح الموسوي في (دموع الأرض) ما يمكن أن يمنحه الشاعر من اهتمام وحنو تجاه الكثير من أصدقائه ومعارفه، الأحياء ومنهم: خالد خضير الصالحي في الرسام وفوزي السعد في الشاهد الأخير، وذلك الشاعر المنسي الذي لم يفصح عنه. ثمة بريق خاص في ما نفتقده من كائنات إنسانية كانت تشاركنا حياتنا، بكل ما فيها من بهجة نادرة مؤقتة ، ومرارة دائمة ، وذكريات لا يمكن نسيانها، لكن طائر الموت انقض عليها، لذا يكتب عن الراحلين، شقيقه حسون وأمه ووالده وخاله وجده وبعض معارفه، و الرسامة العراقية، ونازك الملائكة، ومحمود عبد الوهاب، والبريكان، ورشدي العامل ، وحتى كلكامش وأحزانه بعد فقدان انكيدو، وكزار حنتوش.. ذلك الأمير المتسول:
“سأتنحى قليلاً
عن خطوتهِ الندية، المرتجفة
كي يمرَّ إلى مثواه..
فلا يليق بالشاعر
غير
تاج الأبدية”.
و”مهدي محمد علي”، صديق الصِبا والشباب المتسرب، كالماء بين الأصابع، الذي يوجه له قصيدته ” موت المغني” بعد وفاته منفياً:
“أهذا، إذن آخر المنتأى، آخر الأرض
آخر هذا الطواف الطويلْ ؟.
أهذا إذن،آخر الحلم:
شاهدةُ نصف مائلةٍ
وتراب نديّ تسفسفه
الريحُ
تـأتي وتمضي..
وتأتي وتمضي..
وكفاك مسبلتانِ
وعيناك مطبقتان
ليل يطوق قبرك
ليلُ ثقيل..؟
أهذا إذن آخر العمر؟
…..
…..
يا للزمان البخيلْ !”.
*دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع/ بغداد 2013. الغلاف الفنان صدام الجميلي