حوار أجريته مع الروائي سليم جواد بمناسبة صدور روايته الأولى “الأشباح والوهق”، وهو الحوار الأول بعد صدورها وقد تدفقَ سليم في إجاباته تدفقاً ثرّاً مثلما كان قد تدفق في روايته.. هذا الحوار أجابَ فيه سليم على كلُّ التساؤلات التي طرحتها عليه والتي قد تُراود ذهن الكثير من القراء حول الرواية .
س : من أنت ؟
ج : شحاذُ كلماتٍ فقير مسكين على باب الله ، أُقضِّي ساعاتِ يومي العسيرِ عادةً بانتظار حضورها البهيج .. قد يمضي شهرٌ أَو شهران أَو ثلاثة ، دون أن أُرزَقَ بكلمةٍ واحدة ، إلا أَن ذلك يجب أَن لايثنيني عن إِستئناف الإنتظار… الكلمةُ روحٌ مُتوحشٌ نافرٌ شَموس ، فاذا حدثَ أن رُزِقت فعلاً بواحدةٍ ، فانني أُقيم لها الأفراح داخل نفسي العطشى – مثلما يمكن أن يفعل درويشٌ زاهدٌ لايملكُ قوتَ يومهِ دون أن يهتمَ لذلك – مُكّرِماً إياها ، مُحسِناً وفادتها ضامَّاً عليها خافقي الولَه ، ضمَّةَ حُنوٍ حارةً رأووم مُقدماً صلوات الشكرِ ، عرفاناً للقوى التي منحتني إياها ، مُصْلِحاً ذاتي ، مُحَسِّناً جوارحي ، مشتغلاً عليها إشتغالاً دءووباً ، بضميرٍ يقظٍ نشيط ، كادحاً لأجل ذلكَ كدحاً ، مُبدِّلاً شغافَ أَعماقي من حالٍ إلى حال، مفجراً في دخيلتي إِثني عشرَ عيناً من ينابيع حنانها، لعلها – أقول لعلها – تُصْبِحَ جديرةً بحيازةِ مارُزقتْ ….. فالكلمة – لمن لايعلم – ليست سوى أَغلى أُعطيةٍ ، يمكن أَن يحصل عليها الروائي بعد كدح يومِه….
س : هل تصبح عبداً للكلمة حينئذٍ ؟
ج : ما ذلك سوى أمرنسبي ، وهو أمر يختلف من روائيٍ إلى آخر.. لكن دعني أَسأُلك : أَليسَ أَن السيد الحقيقي – في جوهر كيانه – ما هو إلاّ خادمٌ خدوم ؟ … لن يكون بمقدورك أن تستوي سيداً حقيقياً ، إن لم تكن قد خُضت تجربة العبودية.. إذن كما ترى فإن َّ الأمر كلَّه ليس سوى خبرةٍ غنوصية خالصة – رحلة غنوصية إذا شئت – وهي كخبرة تصطف إلى جانب خبرات أخرى تضمُّها إليها فلا تُصبح إلا إستقطاراً إمبيقياً لها ……
س : فتصبح سيدها المطيع إذن ؟
ج : حين أتمكن من أن أفك إسارها فأُحررُها من زمن الهيولى الذي تتخبط في عماه وتصطكُ عليها فيه أوحالُها ، وتلتفُ عليها في أعماقه خيوطُ طحالبها خانقة إياها، وحين أُخلّصها من رِبقة مايُكبلُها ويثقلُ كاهلها ، فأفصلُها عن عَنت ما إلتصقت بها من المعاني الشائعة الواهية المبتذلة ، فأبعثُها عاريةً ساخنة ، كأنما تخلَّقتْ تحت سنِّ قلمي تخلُّقاً ، تواً ، تماماً مثلما تخلَّقت الربةُ من زبد الماء على أعين الآلهة ، فأنها عندئذٍ لاتُصبحُ إلا فلذةً غاليةً من أناي المشغوفة ، وقد اُضيئتْ فتوهجتْ فسطعتْ حتى سمتْ فشعَّ منها نورٌ وامقٌ مبهورٌ بنفسه ، نورٌ لايشبه النورَ وإن يكن أَسطع منه ، وتدفقتْ منها الحرارةُ فبعثتْ دفئاً لذيذاً ساحراً رخياً خَدِراً ، في برودة مخيلات القراء ، وأوقدت قبساً مشعاً من المعرفة والخبرة ، في أَدمغتهم وأفئدتهم ، وعندئذٍ – فقط عندئذٍ – أَلا أكون مستحقاً ملكيتها قميناً بالحصول على سندِ تلك الملكية؟ …. لكنني مع ذلك لستُ سيداً عليها …
س : دعني أَستنتج ان علاقتك باللغة ، بالمفردات علاقة ودية تصالحية ، علاقة مرتاحة طيبة!
ج : لا لا .. أبداً …. إِن الجهد المبذول من أجل تطريق مفردةٍ واحدة ، حتى تلين وتتخلص مما علقَ بها من الشوائب ، وكي تُبْرَدَ نتوءآتُها وتستقيمَ عيوبُها وتُشذَب زوائدُها ،وتُعَدَلَ إعوجاجاتُها التي لحقتها أَثناء رحلتها المضنيةِ مابين شتى المخيلات ، لتصفو وتتنقى وتتزودَ بحمولةٍ جديدةٍ ومعنىً مختلف ، إِن ذلك الجهد لهوَ جهدٌ شاق يحتاجُ إلى شجاعةِ وصبرِ وكفاحِ وإقدامِ كاتبٍ صنديد .. لكأننا ننحتُ تمثالاً في الجلاميد …………
س : يوجد مفهوم يضرب عميقاً في جذور المجتمع العراقي يخصُّ تسميتك لروايتك
بـ “الأشباح والوهق”، حدثني عن هذا المفهوم
ج : ثمة حسٌ طاغٍ ، ثقيلُ الوطأة ، باهض التكلُفة ، حسٌ كُلِّيُ الهَيمَنة ، ساطع الحضور ،
ينوخُ رابضاً في ساحة النفس ” مُتَـعـَنـكِـبـاً “على الضمير ، وفي الوقت عينه يلتفُّ مثل أُفعوانٍ شريرٍ حول وجود الكائن – وجودهِ الفيزيقي والميتافيزيقي معاً – مُطوِّقاً مَصيرَهُ الرخو من كُلَّ الجهات ..
هذا الحس فادح السطوة ، يغيمُ مُدلَهِمَّاً فيتحول إلى ظلٍّ أسودٍ فكأنه ليس مقدوداً إلاّ من أحلك الظُلُمات ، وعندئذٍ يُخَيِّمُ مُرْزِماً على رأس وحياة الكائن الفاني ، فلا يَزيدُ بؤسهُ إلاّ بؤساً ……
إنه حسٌ ، كلُّ العراقيين ، وأنت وأنا نعرفه .. حسٌ له مالحشرةٍ بالغة القُبحِ خبيثة المسعى ، من أطرافٍ إبَريةٍ واخزةٍ دقيقةٍ كثيرةٍ مُزعجةٍ ، لاتُثيرُ – إذْ تتحركُ مُعَابِثَةً على أديم الروح الرقيق الحسّاس – إلاّ أبشَعَ أنواع القرف والإشمئزاز ، و……. ظِلَّ الخوف .. الخوف ذي الجذور المُتَنَغِّلة عميقاً .. الخوف المُستَـشعَر بأكثر من مَجَسٍّ من مَجَسَّات الروح بأنكَ لستَ أكثرَ من طريدةٍ !! ..أنت وذاكرتُكَ وتأريخ روحِك وأحلامُك وسعيُك وأمانيُّكَ ، لستَ أكثرَ من طريدة ، وكطريدةٍ يمكن أن تُصطادَ في أية لحظةٍ من لحظات ساعات يومِكَ المُتداعي المهدور الذائب في محاليل العدم ، فتنطفيءُ ذاكرتُكَ وتتفحَّمُ أمانيُّكَ وتحترِقُ أحلامُك ……..
هو حسٌ راقدٌ رقدةً كهفيَّةً لا إستيقاظَ لها في دخيلة الكائن ، حسٌ بأن ثمة هذا الـ “وهق ”
المُسَلَّطُ ، يُحَلِّقُ طائراً في الجو ، لهُ أزيزٌ لايكادُ يُسمَعُ ولكنه يُثيرُ قُشعَريرَةً جليديةً في العِظام.. هذا الوهقُ لايفتأُ يَفتِلُ فوق رؤوس الخَلق ، لايدري أحدٌ متى يُسارِعُ مُنقضّاً مُنتقياً واحداً منهم مُطَوِّقاً رَقَبَتَهُ مُقتَنِصاً مَصِيرَهُ رابِطاً إياهُ إلى الأبدِ ، عَبر الجهة الأُخرى من الوجود ، بالعدم ……. هذا الوهقُ يَفتِلُ فوق الرؤوس مُتَحَيِّفاً رقاب الخَلق – في هذا البلد المُفتَرِس ، هذا البلد الذي لا يحلو لهُ إلاّ أن يأكُلَ أبناءَهُ مُمَصمِصاً عظامَهم مُتَلَمِّضاً مُتَجَشِئا تجَشِئَةً كاذبة ، إذ أنه لايَشبَع – لا يُفَرِّقُ بين أحدٍ منهم وآخر ، أو بين رَقَبةٍ وأُخرى .. فأنتَ ربما تكون وزيراً ولكن ليس ذلك بِمُنْجيكَ من إنقضاضَتِهِ ……….
هذا الوهقُ لم يُغْزَلْ ولم يُبْرَمْ إلاّ بأصابع الحروب الشيطانيةِ الجرباء ، لذلك فإنَّ قُبْحَهُ وقوَّتَهُ وصرامَتَهُ مُتَحَقِّقَةٌ جميعاً ، وهو من حَوَّلَنا جميعاً إلى أشباح .. أشباحٍ هائمة ليلاً نهاراً ، نطلعُ – بعضُنا للبعض الآخر – من الزوايا ، من جيوب القمصان والسراويل ، من وراء الأبواب ، من علب الشَّخاط ، من فكرةٍ ما ، نَنبثِقُ من الليل الدامسِ ذي الظُلمةِ المُصطَكَّةِ ، لِنُرَوِّعَ إنساناً مِسكيناً عائداً بقوتِ عيالِهِ ، من العمل ، أو نَنقَضَّ على المُتَغَوطين في مراحيضِهِم……….
س : البعض من الكُتّاب العرب يعتبرون اللغة إما منفىً أو وطن فهل اللغةُ منفاك أو وطنك؟
ج : مثلُ هذه التوصيفات ذات القيمةِ التجاريةِ الديماغوجيةِ الإستهلاكية المُستهلكة ، ليست سوى من إنتاج مخيلةٍ فقيرةٍ شحيحةٍ ،مخيلةٍ عاطلةٍ عن التخيل ، يتآكلها الزنجار ، لا كفاءة لها .. لا .. اللغةُ ليستْ منفى كما أنها ليست وطناً ، وإنما هي أداةُ تعبيرٍ ، وهي واحدة من من أرقى وأقوى أدوات التعبير التي تمَّ إبتكارها على مر كلِّ العصور.
س : مشهد الزنا بالمحارم ، إغتصاب العم لأبنة أَخيه كان مشهداً فريداً ، مبنياً بناءً مُحكماً، ولقد مهدتَ له تمهيداً نادراً ، عدة مراتٍ في روايتك قبل وقوعه.. حدثني عنه.
ج : مشهدٌ من هذا النوع ، يجب أن لايُوازنَ إلا موازنةً دقيقة ، وإلا فثمة خطر أن يولدَ ميتاً.. ينبغي على من يتصدى لهُ ليكتبَهُ أن يُفرِغَ نفسَهُ من كلِّ المُواضعات التي “تُعُورِفَ “عليها ، أن يضعَ عواطفَهُ جانباً ، أن لايشتغلَهُ ليبدو وكأن كاتباً قد كتبه – ألفَّهُ إذا أردنا الدقة – وإنما كأنهُ وُجِدَ مكتوباً منذ بدءِ الخليقةِ ، مُجترِحاً مبررات كتابتهِ إجتراحاً ، بالعفوية الكافية التي يحتاج إليها التوتر التراجيدي ، ليبدو وكأنَّ الروائي ليس أكثر من أداة ، وأنه لم يتدخلْ في عملية كتابته ، إلا بالحدود التي يتطلبها التدخل ، فلا يبدو التدخل إلا وكأنه ليسَ تدخلاً … إن طبيعة المشهد حساسةٌ جداً ، طبيعتَهُ ليست إلا طبيعةً جحيميةً خالصة … المشهد مشهدٌ جنسي زنا محارم ! نعم هذا صحيح ! وهو مشهد إغتصاب تحديداً، ولكنه ليسَ مشهد إغتصاب مما يمكن أن يحدثَ مماهو متعارفٌ عليه ، وإنما هو زنا محارم كما ذكرت ….. عمٌ يصممُ على أن يغتصبَ إبنةَ أَخيهِ التي تربتْ في كنفِهِ ، لكن ذلك ليسَ بسببِ إستفحالِ نزوةٍ عابرةٍ طارئة تسلطت على غرائزهِ فألهبتها ، وإنما لأنهُ كان يشتهيها فعلاً ، يشتهيها بشكلٍ صريح ، شكلٍ سافرٍ مكشوف ، شكلٍ مارقٍ ، وهو لايكتم ذلك وإنما يعلنه ….. لقد إقتضت مني عمليةُ بنائهِ الشاقة إختبار طبقاتِ معاني المفردات ، مراتٍ ومرات ، كي أصلَ إلى الطبقةِ الجوفية منها ، الطبقةِ المكونةِ من اللبِ فقط ، لأجعله لايحدث إذ يحدث ، إلا ضد إتجاه وتوجه الفطرةِ البشرية ، فأتمكن من أن أنقذَهُ فلا يفترس نفسَهُ بنفسه … في مواجهتهِ إتخذتُ عدتي كاملةً ، قبل أن أشرعَ في عملية كتابته .. لقد زودتُ نفسي بحياديةٍ مضاعفة ، ودعمتها بأنْ أفرغتُ أعماقي من كل أنواع “النوستالجيا” كي لا يسقط السردُ أثناء كتابة المشهد في أوحال التحيز… ثمة عبارتان نوعيتان شديدتا الحيويةِ ، مقشرتان تقشيراً جيداً ، بدقةٍ وروِّيةٍ وأناة ، مضغوطتان بمعانٍ مضاعفة ذات قوةٍ إنفجارية عالية ، مؤقتتان توقيتاً دقيقاً صائباً ، هاتان العبارتان هما اللتان منحتا المشهدَ كلَّ الجحيمية التي جاء مُتَدَرِّعاً بها ، كما منحتاهُ تلقائيتَهُ ومنعتاهُ من أن يغرق في مستنقع الغوغائية ، فتمكنتا بالتالي من ان تكبحا غرائز القاريء ، فتمنعها أن تحتدمَ إحتداماً خاطئاً ، فلا تستجيب إلا إستجابةً خاطئةً ، فتتفاعل مع مايحدث أمامها من شنائع الأَفعال والموبقات ، وكأن مايحدث ماهو إلا من قبيل ذلك الذي يمكن أن تستجيبَ له وتتفاعلَ معهُ تفاعلاً طبيعياً … أول هاتين العبارتين لم تنطقها الفتاةُ إلا مع نفسها ، متوجهةً بها إلى الله .. أما كيف جائت العبارة فكما يلي: ركَّزتْ ذهنَها فتمكنتْ من أن تتصل بالله أقوى إتصالٍ في حياتها ، حتى لأوشكت روحها أن تلتحمَ بروحهِ، وعندئذٍ أبرقت له أقصرَ برقيةٍ ، إذ خاطبته قائلةً :
“لكم أكرهُكَ يا إلهي القدير … “، أما العبارةُ الثانيةُ فقد تفوهتْ بها مخاطبةً بصيرةَ عمها العمياء ، التي تعرفُ أنها بصيرةٌ عمياء ، تفوهت بها بعد أن خلعت – يائسةً – كلَّ مايستر جسدَها :
“عمو آني جاهزة شتنتظر ؟ “.. لقد نطقتْ تلك العبارة وكأنها تنطقُ عبارةَ إدانةٍ كاسحةً ، ضدَّ كلِّ ذوي الدمِ الفاسدِ والسرائرِ الضالَّةِ ، الذين يعيثون خراباً ويلوثون دمهم ، عبر أفعال السفاح التي يمارسونها مستهدفين أعراضهم ذاتها …. إن كلَّ عبارةٍ من تينك العبارتين ، منطوقةً في موضعها من المشهد في سياقها التراجيدي ، لتعادلُ قصيدةً كاملة ، قصيدةً مكتظة بكل ما هو مريعٍ وغليظٍ وفجٍ ومتناقضٍ من المعاني الخشنةِ الشائكةِ المؤذية ، قصيدةً شديدةَ السوادِ شديدةَ التجهم ، كامدة الألوان شريرة الجوهر، تُرثي وتهجو – في آنٍ معاً – الكون والكائنات على الأرض وفي السماء ، غير مستثنيةٍ الخالق نفسه ، المتربع على عرشِه ، متخذاً من الكائنات فرجةً مسليةً له ، يُمَتِّعُ بمشاهدتهِ إياها – وهي تتلضى متقلبةً في أتون العذاب – ناظريه ويُسلِّي خاطرَهُ ……….
س : في دراسته عنكَ كتب زعيم الطائي يقول أن لك آراء ناقدٍ خطير ، فكيف تعلق على ذلك ؟
ج : كُلُّ ما كتبهُ زعيم الطائي لن أقبلهُ منه ، بل أُعيدُه إليه مع باقةِ وردٍ عطرةٍ وقبلة إمتنان …. إن ماكتبه ليس دراسةً وإنما عرضاً بسيطاً للكتاب .. أما لماذا لا أقبله منه ، فلأنه لم يكن إلا عرضاً متدنياً مهلهلاً للكتاب ، مليئاً بمالاعلاقة له بكل ما ورد فيه ………
لقد كتب زعيم ماكتبه دون أن يقرأ الرواية ، وإنما – في أحسن الأحوال – إكتفى بعملية تصفحٍ بسيطٍ ، تصفحٍ ملولٍ سريعٍ كسول ، للقسم الأول منها ، إضافةً إلى قراءةٍ سريعةٍ للتعليقات والملاحظات التي ظهرت عن الرواية في بعض المواقع …. وكي يلمَّ ببعض وقائعها فقد حاول أن يمرَّ – مرور الفراشة في حقلٍ من النور !! – على ماكتبه عنها الشاعر فوزي كريم والناقد حسن ناظم والشاعر معتز رشدي ……….
وكي أكون دقيقاً في رفضيَ محتوى ما كتبه في عرضه المهلهل البسيط ، سأكون مضطراً إلى أن أجيبَ جواباً إحصائياً بحتاً :
كتب زعيم يقول : “هجوم مجموعة من السكارى وثوريي الموائد على فرقةٍ للجيش الشعبي وإقتياد بعضهم أسرى عبر الليل” …….. في هذا السطر يغالط زعيم الحقيقة ثلاثَ مرات .. المرة الأولى حين أطلقَ على رفاق الشرب تسميتهُ الخاطئة “السكارى “وماهم بسكارى ، فهم لم يسكروا أبداً في ليلتهم تلكَ ، كما جائت عليه وقائع الجلسة المشهودة ، ثم الخروج بعد ذلك …
المرة الثانية حين أطلق عليهم تسميته الإعتباطية “ثوريي الموائد ” وكأنه يمنحهم هبةً ويعزز روح الحقيقة ، بينما هم ، خلافاً لزعمه ، ليسوا إلا أربعة أصدقاء مثقفين مع رجلٍ شبه اُمي ، وفوق ذلك كانوا كلهم ناقمين على “الثورجية “وعلى كل ماهو ثوري ، ولايكرهون اكثر مايكرهون ، إلا الكلمات التي يتشدق بها الـ “ثورجيون “عادةً ، ولم يأتِ على كل صفحات الرواية مايدلُّ – إن يكن ذلك تصريحاً أو تلميحاً – على أنهم مارسوا أي نشاطٍ ثوري ، إلا إذا كان زعيم لايفرق بين كون قنديل كان حزبياً سابقاً ، وبين الممارسة الثورية … أما المرة الثالثة فحين ذكر زعيم أنهم إقتادوا “بعضهم أسرى “وهو يقصد بعض الرفاق الحزبيين – والحقيقة ، كما جاءت عليه وقائع تلك الحادثة – أنهم لم يقتادوا سوى رجلٍ واحد ، فكيف أصبح الحارس الواحد “بعضهم” أَوَ لو كان قد قرأ الرواية ، فهل تراه سيكتب مثل هذا الذي كتبه ؟ ………
ثانياً كتب زعيم – زاعماً – يقول “نرى بعد ذلك أن أغلب الشخصيات إما ينتحر أو في طريقها أو تفكر في الإنتحار” ……… أولاً فلنحدد معنى عبارة “أغلب الشخصيات “، ولنفترض أن معنى مفردة “أغلب “يفيد مانسبته 80% وبذلك يكون عدد المنتحرين في رواية الأشباح والوهق 80% من شخصياتها ، فهل كان فعلاً عدد المنتحرين يشكل 80% ؟ والجواب كلا ……. ثم لنعتبر – تَنَزُّلاً – أن معنى مفردة ” أغلب “يفيد أن النسبة هي 70% أو 60% أو نصف الشخصيات – وهذا مخالف للمعنى – فهل ……….. إلخ ؟ والجواب يظل كلا أيضاً ……….. ولنُخسِرَ الميزان ونخالف كلَّ البديهيات ولنكن جائرين في تجرؤنا على المعنى ونعتبر أن معنى عبارته “أغلب الشخصيات “يفيد أن النسبة تعني مامقداره 10% فهل كان عدد المنتحرين 10% من مجموع شخصيات الرواية؟ والجواب هو هو لا … وإذن هل كانت النسبة 5% الأمر الذي دعا زعيم ليكتب عبارته “أغلب الشخصيات “؟ والجواب لا يتغير…وأظن أن زعيم نفسه لن يكون راضياً عنَّا أن نعتبر معنى عبارته “أغلب الشخصيات “تفيد مانسبته تحت السبعين في المائة ، في أقصى حالات التساهل ، فكيف سولت له قريحته أن يكتب – بضمير مطمئن – أن : “أغلب الشخصيات إما تنتحر أو تفكر في أو في طريقها للإنتحار” ولو كان قد قرأ الرواية ! أكان إرتضى أن يكتب ماكتبه؟…………
وفي موضعٍ آخر كتبَ زعيم ، زاعماً زعماً آخر ، لستُ أدري من أين جاء به ! وكيف لفق حيثياته ، إذ قال : “فهي – يقصد الرواية – تجعلنا نعيش أجواء ثمانينات القرن الماضي ، دون أن تشير إلى سنةٍ بعينها ، وتحديداً جاءت وقائعها مكملة الأيام الأخيرة من حرب الثمانين .. ” ….. هنا ، ، خلال هذين السطرين ، فأن زعيماً يثير أشدَّ أنواع الإستغراب في دخيلتي … ولنبدأ من نهاية زعمِه المزعوم ، أي من عبارة : “وتحديداً جاءت وقائعها مكملة الأيام الأخيرة من حرب الثمانين … “؟ ….. فإذا عرفنا أن حرب الثمانين قد وضعت أوزارها في العام 1988 فمعنى هذا أن زعيم قد فهم أن وقائع الرواية جاءت – كما ورد في جملته – مكملة العام 88 …. وإذا كانت حقيقة الأمر كما يزعم زعيم ، فكيف أن مجموعة الأصدقاء ، أثناء جلسة الشرب ، كانوا يناقشون حادثة إندحار الجيش العراقي في الكويت وهروب مئات الآلاف حفاةً عراةً جياعاً ، منكسرين ، بإتجاه العراق ، فضلاً عن ذلك ، فإن تلك الحادثة المشهودة الشنيعة المخزية لم تكن قد وقعت إلا في العام 1991 ؟ ………..
أما قوله : “تجعلنا نعيش في أجواء الثمانينات دون أن تشير إلى سنة بعينها .. ” فهو لايثير إلا عجباً أقوى من سابقه ، لأن القسم الأول من الرواية وحده كان قد ورد فيه “25”مرة ، ذكرٌ واضح صريح ، يفيد بلا لبس بأن زمن الرواية هو منتصف التسعينيات وليس الـ”ثمانينات”، فضلاً عن ورود شواهد صريحة واضحة أُخرى في القسمين الثاني والثالث ، تؤكد الأَمر عينه … إذن ثمة أكثر من “45”مرة يُحدد خلالها زمن وقوع أحداث الرواية ، فهل كانت كل تلك المرات تفلت من ملاحظة زعيم ، لو أنه كان قد قرأ الرواية فعلاً؟؟………..
بعد ذلك يتحدث عن صلم الآذان وقطع الأيدي ، وهنا يخلط الحابل بالنابل ، إذْ أن زعيم هنا – وحسب ماجاء في عرضه البسيط – يظن أن قطع الأيدي وجدع الآذان قد حدثا في ثمانينيات القرن المنصرم ، وهذا ظن غير صحيح .. إذ معروف في العراق في ثمانينيات القرن العشرين ، أن عقوبة الهارب من الجيش ثلاث مرات فما فوق ، لم تكن قطع الأُذن وإنما الإعدام رمياً بالرصاص ، يُستوفى ثمن الإطلاقات من أهل الضحية ، مع التشديد على أن يُنفذ الحكم في منطقة سُكنى الضحية ، أمام الملأ من الناس ، مع إلزام أهله بحضور تنفيذ حكم الإعدام .. لكن الأمر إختلف في التسعينيات ، إذ مع تفشي ظاهرة الهروب من الجيش وبلوغها أرقاماً لاتصدق فقد أُستُبدلت عقوبة الإعدام بقطع الأُذن ………….
س : وصَفَكَ الشاعر فوزي كريم بأنكَ أكثر تشاؤماً من شوبنهاور.. لماذا أنتَ متشائم؟
ج : فلأستعر لغةَ أقيسة المنطق فأُجيبك جواباً أولياً : ….. لو أنني كنتُ تمساحاً أو كنتُ مخلوقاً من الحجر ، فلربما ما كنت لأكون متشائماً ، مع أنني عشت في الجحيم …. ولكن بما أنني لستُ تمساحاً ، ولستُ مخلوقاً من الحجر ، فليس لدي القدرة على أن لا أكون متشائماً …. الجواب الآخر هو : إن الكارثة التي أحاقتْ بالنفوس لم تكن إلا كارثةً كبرى ، ومن سوء الحظ ، حدث أن خرَّبت جوهرها أسوأ تخريب ، حتى لم يعد ثمة أمل في إمكانية إصلاحها وإعادةِ تأهيلها … الإطلاع على هذه الحقيقةِ الثقيلة المؤْذيةِ لاتجعلْ الواحدَ متشائماً فحسب ، وإنما تصنع مِنهُ تاجراً مُصَدِّراً للتشاؤم ، بعد أن تُرْكسَهُ في قعر جحيم التشاؤم ، بالضبط في الطبقة التاسعة من ذلك القعر…..
الكاتب الذي يتعامى عن رؤيةِ هذهِ الحقيقةِ ، الكاتب إذا لم يعمدْ إلى خلط فن المرثيةِ معَ الأهجيةِ مع الملهاة ، دون أن يعودَ هو نفسُهُ ، قادراً على تمييز أحدها عن الآخر ، وإذا لم يصهرْ ذلك كلَهُ في مصهر مخيلته ، مُرَكِّباً منه عجينة خاصة ، بحيث لن يكون بمقدورِ أيٍّ كان إرجاع كلِّ مادةٍ إلى عناصرها الأوليةِ ، وإذا لم يزود نفسَهُ بخطةٍ محكمة التركيب ، وإذا لم يُخضِع خطَتَهُ وفنَهُ وموهبتَهُ ومخيلتَهُ وضميرَهُ وكيانَهُ جميعاً ، لصرامة العقل الباردة – غير ملتفتٍ إلى أيةِ سنتمنتاليةٍ أو ما شابهها – فإنَّ كلَّ مايكتبَهُ لن يعدو كونه إلا مادةً زائفةً لاتُدَبَّجُ إلا من أجل تزجيةِ الوقت أو قتله ، ولاتُعَدُّ إلا نوعاً غبياً من أنواع التربيت المنافق العاجز البليد ، على الضمير وحقنَهِ بالترياق ، من أجل بثِّ الطمأنينةِ فيه ، أو هو نوع من وضعِ قطعة ثلجٍ على موضعِ الحكةِ فيه …… ذلك أنَّ الترياقَ سيذهبُ مفعولُهُ بعد حين، وقطعة الثلجِ سرعان ماستذوب ، بينما الحكةُ ستظلُ باقيةً في مكانها منه ، ولسوفَ تعاود إستئنافَ عملها المزعجَ من جديد ، بقوةٍ أشد مما كانت تفعل من قبل ، إلى أن تُنجز مهمتَها ، محولةً إياهُ إلى ضميرٍ يتآكله الجرب ……..
س : وفقاً لذلك هل أنتَ يائسٌ أم مُتفائل؟
ج : لقد قُدِّرَ عليَّ أن أعيشَ حياةً كانت القسوةُ – بمعناها وجوهرها القبيحين- تقبضُ عليها ببراثن مقدودة من نيران الجحيم ، ووفقاً لذلك توجَّبَّ عليَّ أن أُكيِّف نفسي ، ممتثلاً لإرادة قوة تلك البراثن ، أو أن أتمزقَ قطعاً ونسائر ، ووفق ذلك إنبغى عليَّ أن أجترح “برزخاً”خاصاً بي ، يقع بين اليأس والتفاؤل ، فلا أكون يائساً فأهلكَ كمداً ، أو متفائلاً فأُصدم .. إذن فقد عشتُ في ذلك الحيز الحرج الرجراج ، الفاصل بين تُخمي الأمل واليأس ، مشدوداً إلى عُراهما من الجهتين بقوة أمراسٍ لا تسمح لي بأدنى درجةٍ من الميلان ، أما تلك الأمراس فليست مبرومةً إلاّ بيديَّ ، من صنع يديَّ ………
س : الصلاة التي رفعتَها في البداية للإلهة ، كانت تحتوي على رسالة ، لمن تُرى هي موجهة؟
ج : بعد الإلهة نفسها ، الرسالة موجهة إلى لب الأذكياء……….
س : هل لكَ أن تُخبرنا بمحتوى تلك الرسالة ؟
ج : كلُّ ذي بصيرةٍ سوف يتوصل إلى معرفة محتواها – وإن لم يكن ذلك إلاّ حدساً – ولسوف يُخطيء إلتقاط ذلك المحتوى كلُّ فاقدي البصيرة ……..
س : إذا لم أكن مخطئاً ، فأن الرؤيا التي أتت في نهاية الرواية ، كانت تحتوي على بضعة شفرات ونبوءآت ، هل يمكن أن تحُلَّ لنا مضمون تلك الشفرات والنبوءآت ، وماذا قصدت من وراء تضمينها في الرؤيا ؟
ج : نعم … ثمة بضع شفراتٍ ونبوءآتٍ مُندَرِجَةٍ في تضاعيف تلك الرؤيا ، إلا أنَّ مهمتي إنتهت بطرحها .. لن أقوم بِفَكِّ أيةِ شفرةٍ من شفراتها .. لن أُساعد القراء في ذلك .. هذا ليس عملي ………….
س : فهل لمست أن أحد القراء قد تمكن من حل واحدةً أو أكثر من تلك الشفرات ؟
ج : حتى الآن لا أحد ………..
س : طيب .. لماذا بدأت الرواية بالصلاة ؟
ج : كي يتبارك عمل مخيلتي ، كي تتبارك كلماتي وتكتسب القوة والقدرة على أن تؤثر على القراء تأثيراً لا قبل لهم بِردِّهِ أو مقاومته ………….
س : فلا بد من وجودِ سببٍ أن تكون قد ختمتها برؤيا؟
ج : لعل ذلك عائد إلى كوني إنسان مشغوف بالرُؤى ؛ وربما أردتُ ،على مستوى اللاوعي من تفكيري ، أن أُوقظَ القاريء ، صانعاً معه عكس مايصنع الكُتّاب عادةً ، عند نهاية كلِّ كتابٍ يقوم بقراءتهِ ، حيث لايتركونه إلا خاوياً مستنفداً ، إن لم يكونوا يتركونه نائماً………..
س : كان إستخدامك للهامش جديداً ومبتكراً للغاية ، فمن كتب الهامش ، أهو سليم ، كاتب المتن وشخصية من شخصيات الرواية ؟ أم هو شخصٌ آخر ، شخصٌ له سلطةٌ تفوق سلطةَ كاتب الرواية؟
ج : إذا لم تكن الرواية – أية رواية – إلا مجموعةً متضامَّة متشابكة من الأصوات ، فأنَّ الهامشَ في رواية “الأشباح والوهق “قد مُنحَ قوّةَ الصوت المُتَخَلِّق ، الصوت العميق الذي لن يكون بالمستطاع تجاهل نبراته أو إغفالها ، أو تجنب تأثير وقعه …
في روايتي تعددت نبرات الهامش كصوت ، من صفحةِ إلى أُخرى ، ومن هامش إلى آخر … فمرةً لم يكن الهامش إلا صوت الله – الله كُلّي المعرفة – أو صوت الآلهة العتيقة ، الآلهة ذات السطوة التي تُفرَضُ أو تُملى عليك ، ولكن من خلال قوّةٍ ميتافيزيقية ، ماهي إلا قوة الكلمة عينها ، لكنها لا تتعامل ولا تمسُّ إلا ماهو جوهريٍّ في طبقات الأعماق … وفي مراتٍ أُخرى فأنَّ الهامش لم يكن إلا صدى ، صدى الصوت النشاز المشروخ ، للنميمة وشهادة الزور والبغضاء ، إبنة الحسد ، حين يتآكل روحَ روائيٍ آخرفتنطلق شرورُ روحِهِ من ربقتها ، فيبدأ بالهذيان ضدَّكَ وضد ماتكتُب مُتَعتَعاً بخمرة سموم ضغينته …..
أما في مراتٍ أُخرى فلم يكن الهامش إلآّ صوت الحكيم المُعتَكِف في صومعتِهِ ، الزاهد بكلِّ مُتَع الدُنيا ، صوت الرجل الأول الـ “wise man” الصوت الشريف غير المُلوث غير المُدَنَّس ….
ومراتٍ لم يكن إلا صوت الضمير المُكَمَّم ، ضمير الكاتب نفسه ، وقد أُتيحت له فرصةٌ ذهبية، ليخترق طبقة الترسبات الدهنية السميكة التي تكلستْ عليه فحجَّرته ، بعد أن كان يغشُّ القاريء ، وهو على علم بذلك ، فقط لأنه كان متقاعساً ذا إرادةٍ رخوةٍ مُضَعْضَعَة ، مواصلاً ممارسةَ الكتابة المغشوشة الرديئة ، دون أن يدفعه شرفُهُ ، إلى أن يتعاطى مهنةً أخرى ، كأن يعمل زبالاً أو كناساً أو سمّاَكاً ، بدلاً من تحمل عار الكتابةِ ، كتابةً مغشوشةً رديئة ….. ومراتٍ لم يكن إلاّ صوت العقل، العقل الأول القديم النقي ، بل المتناهي في القدم : (اللوغوس) وهو يغمغم بالحكمة الفائضة الغزيرة ، مُتغرغراً بها عَبر إستطعامِهِ رحيق الكلمة المُنعش ، الكلمة القديمة ، التي تُجدِّدُ لباسَها وتُجدِّدُ جوهرها كلَّ لحظةٍ بلا توقف ، عن طريق تكَفُّلِها إستيلاد نفسها بنفسها عبر ولادةٍ خارقةٍ – أقول الكلمة وأعني تلك الثقيلة ، الكلمة التي لا تُرَدُّ أو تُفنَّدُ أو تُدحَضُ
أو يُشَكَكُ بشرفها أو بصدقها أو بنقائها أو بحكمتها أو بنيَّتها ، لأنها مرت على كلِّ تلافيف الروح ومنحنياتها ومنعرجاتها فَلَمْلَمَتْ كلَّ الحرارةِ التي تحتاجها – لتُصبحَ قادرةً على أن تنحفرَ في وجدان من يقرأها – قبل أن تقفزَ على اللسان أو تخرج من سنِّ القلم ….. ومراتٍ لم يكن الهامش إلا تبرعماً يشطأُ ناتئاً عن غُصنِ الجملة في المتن ، معنىً آخر تنفجرُ به الجملة مكتظاً بالرحيق يُســْتَخسَــرُ رميهُ في سلَّة المهملات أو إهماله ؛ لكن الهامش من جانبٍ آخر، في مواضع عديدةٍ كان قد تبادل ، بمهنيةٍ متقنةٍ وبشرفٍ وبالتراضي ، المواقعَ مع المتن ، وما ذلك إلا ليُخلخل البديهيات ويُهين بلادتها ، ليثبت أن لا نظريةَ يمكن أن تصمد أمام قوّة إندفاع تيار الرواية ، وأنَّ كلَّ روايةٍ عظيمةٍ تُكتب ماهي إلا إجتراحٌ معجزٌ لنفسها…
وعدة مراتٍ لم يكن الهامش مكوناً إلا من نُثار الكلمات الذهبي ومن كِسَرِها وشظاياها وما يحدث لها أثناء الحَتِّ والنحتِ والحكِ وما يتطاير منها من الغبار ، أثناء إنهماك الروائي بعمله…. ولم يكن الهامشُ يُمثُّل في مراتٍ أخرى إلا فتحةً صغيرة ، فتحةً للتَلَصُّصِ ، فتحتُها على مشغلي بينما أنا مستغرق في الشُغل ، فعلتُ ذلك عن رِضاً بملءِ إرادتي ، فتحةً ظاهرُ سببِ فتحِها أن أُسرِّبَ للقاريء بعضَ الأسرار التي تنبثق عن ، وتصاحب عملية “إنـوجـاد” الرواية – وهو ما حدث بالفعل ، أي أنني سرَّبتُ له الكثير منها – بينما باطنَهُ أن أُريَهُ أيَّ نوعٍ من أنواع الجحيم ، ذلك الذي يُشوى الروائي فيه ، ومع ذلك هو مطالبٌ بأن يبتسم ويذهب للعمل مثله مثل الآخرين ، وكأن فعل الكتابة الرهيب الذي يمارسه يمكن أن يسمحَ لهُ بالعودة إلى سابق حاله ليكون مثل الآخرين ، حين ينتهي ! وكأنه لايتركُ على حياته سمَةَ ودمغَةَ شؤمِهِ للأبد !…….
والهامش مراتٍ لم يكن إلا اللحظة الـ “ميتاروائية” المُرتعشة المُتخلقة – لحظة الكشف الكبرى المتوازنة بدقةٍ عسيرةٍ ، توازناً حرجاً ، على أَنف فقمة الخيال ذات الكتلةِ المترجرجةِ، حيث الهامش ليس سوى مرآةٍ والرواية تتمرأى في عمقها مُتملية قوامها ، مُطَّلعةً على نفسها ، ساردةً ذلك لنفسها وللخَلْق ، على مرأى من عينيها وأعينهم…… أعود إلى أصل سؤالك : نعم ! قوى غيبية هي التي أملت على قريحتي إجتراح هذه الأنواع المُتباينةَ من الهوامش ، ولكنها كقوى يجب أن لا نبحث عنها خارج تخوم النفس، فهي ليست إلا من مبتكرات الروح زائد المخيلة …… وأخيراً فإن هذا النوع من الهامش ، كنت قد إستلهمتُهُ من مفهوم الـ “Recycling”.. ففي جذر هذه الكلمة التي إستعرتُ جوهرها من الزبالة ، يمكن أن نعثر على معنىً ميتافيزيقياً راقداً بثُقلٍ في حُضْنِ الوجود ، يمنحُكَ فرصةَ إنتاج أُخرى لما يُتعارَفُ عليه ويُتَواضَعُ على أنه ليس أكثر من زبالةٍ تُرمى …….
س : لقد فتحت أبواب ونوافذ مشغلك الروائي مُسلطاً الضوء على مايدور في رأس الروائي من هموم ومضايقات اثناء إنغماره في الكتابة ، مالذي دفعك بالضبط لذلك؟
ج : إنَّ سؤالك في وجهٍ من وجوهِهِ ما هو إلاّ جواب .. جوابٌ على نفسه لكن لا بأس …. يحلو لكَ أن تفترضَ أسباباً وراء ماترى أنَّ حدوثَهُ من الأحداث يقتضي وجود أسباب .. إفتراضك صائب ، لن أُخيِّبَ أملك فيما ذهبت إليه …… أظنُ أنَّ الجوابَ التقليدي هو أنني أردتُ أن أُطْلِعَ القاريءَ – كما ورد في سؤالك الذي كأنه جواب – على صعوبة عمل الروائي وما يُكابده من أهوالٍ ، وأن أقولَ لهُ أن كفاحَهُ ماهو إلا كفاحٌ سيزيفيٌ لا يُطاق ، تشيبُ لهُ الرؤوس وفي النهاية ربما يتمكن من أن يُنتجَ صفحةً يرضى عنها فلا يُمزقها
أو لا يتمكن ، وليس لهُ من نصير .. وهذا الجواب على الرغم من أنه جوابٌ تقليدي ، إلا أنه جوابٌ صحيحٌ أيضاً .. أما الحقيقة فأنَّ ما فعلتُهُ إنْ هو إلا حيلةٌ من الحيل التي تتكون من مجموعها تقنيةُ الروايةِ ، حيث أنَّ جهدَ الروائي لا يستهدف إلاّ فتحَ روافد متدفقة ، من الحيويةِ لتغذيةِ روايتهِ بالقدر الذي تسمحُ لهُ به موهبتهُ ……
س : ألا تعتقد أنَّ الهامش بحضوره القوي قد أضاف صعوبة مضاعفة لروايةٍ أحد ميزاتها الصعوبة؟
ج : الصعوبةُ أصبحتْ ، منذ صدور النشيد الأول من أناشيد مالدورور ، ثم الكتاب كلَّه ، ومروراً بأعمال هنري جيمس وكونراد سمةً من سمات الأدب بشكل عام … ثمة أعمال إليُت وسان جون بيرس وجويس وبروست وفرجينيا وولف وفوكنر .. وتخطر على بالي رواية “الحجلة” لكورتثار ، إنها تحتاج إلى قاريءٍ باسلٍ لتُسلم روحها إليه …. ومع إنني لم أتعمد إفتعال الصعوبة وإنما جاءت إنعكاساً للتعقيد العام ، الذي إجتاح مرافق الحياة وإكتنفها ، إلاّ أنني لن أسعى لكتابة نصٍ سهل ولن أُنتج مثل هذا النص ….
س : الهامش رقم (1) في الصفحة 178- 179 – 180 ، حيرني بالقدر الذي أثار فيه فضولي وحرَّك ذهني .. حدثني عنه .
ج : دعني أرجع له ، فأرى عما تتحدث لأُجيبَك …
نعم .. هذا الهامش له طبيعة وروح الرقيم الطيني ، المبثوثة فيه روح الحكمة السومرية ، عبر حوارٍ حميمي ، لايبدو إلا حواراً يومي من تلك الحوارات التي تجري بين مواطِنَين سومريين في عصرٍ يعمه الرخاء ، وهو حوارٌ مبطنٌ لا يُديره قنديل مع سليم إلا لغرض ترطيب جفاف الواقع وإضفاء مسحةِ شاعريةٍ على تصلبه وجلافته .
س : الهامش رقم (4) في الصفحة 340- 341 ، يحتوي على مشهدٍ رهيبٍ مرعب ، فبينما الطلاب ينظرون إلى سعيد إذا بهم يرون شَعره الأسود وقد تحوَّل إلى أبيضٍ بالكامل.. بماذا كنت تفكر وأنتَ تكتبه ؟
ج : كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن ، فإنني كنتُ أُفكر فيه ، لكن إذا توخينا الدقَّة فإن ظلالَ تفكيري آنئذٍ كانت مشغولةً بــ : كيف أجعله مبنياً بناءً مُحكماً .. لقد كان مشهداً سريالياً …
س : أعتقد أن الكثير من فصول ومشاهد الرواية لم تكن إلا فصولاً ومشاهد سريالية بحته مع أنها واقعية أيضاً ..أنا أُفكر في المشهد المُرعب الآخر حين ظهرت مجموعة الأصدقاء للسائق وسط الظلام الدامس وهم عراة ، يرقصون له على أضواء سيارته ، ثم قدموا أنفسهم له على أنهم أشباح .. نحن نعلم أنهم ليسوا أشباحاً ولكننا نعلم أيضاً – مع السائق – أنهم أشباح ..
ج : هذا المشهد يمكن تصنيفه على أنه مشهدٌ سريالي ، أو إذا كنّا نتوخى الدقَّةَ ، فإن كلَّ المشاهد التي لا تبدو إلا مشاهداً سرياليةً ، تلك المشاهد – مايجعلُها تبدو كذلك ، مايرفعُها إلى مستوى السريالية ،ما هي إلاّ المفارقة التي رُكِّبت وفق منطِقها …………
س : لغة روايتك الأشباح والوهق لغة صادمة مراوغة عنيفة دموية شديدة البأس خشنة مثل جلد تمساح وناعمة كأنفاس الزهور ، عذبة كالماء الزلال ….. الم تجد في ذلك مجازفةً بفهم القرّاء ، حيث تعودوا على قراءة روايات ذات لغةٍ وصفيةٍ إنشائية ، وفي الغالب تقريرية ؟
ج : كأنك تغريني – من أجل كسبِ ودِّ قاريءٍ بعينه ، أن أذبحَ موهبتي اللغوية فأندرج مصطفاً مع القطيع ، فلا أكتب إلا بلغةٍ وصفيةٍ إنشائيةٍ تقريرية ! فلماذا ؟ أَلا بُدَّ من ترويضي إذن ؟ .. ثم أَلا يُمكن تدريب ذائقة القاريء ! لجعلها أكثر رُقيـَّاً مما هي عليه ؟
أيجب أن يكون الروائيون كلهم متشابهين ؟
لقد أطعم الروائيون العرب قراءهم – ظانين بذلك أنهم يدللونهم ويكرمونهم – مفرداتٍ شاحبة باهتة اللون ، ميِّتة بائتة ، وفي أحسن الأحوال ، أطعموهم لغةً ذات مفردات محفوظة في “فريزر” مخيلاتهم …ما على الروائي عند الحاجة ، إلا أن يستخرج المفردة من “فريزر” مخيلته ، حيث جُمِّدَتْ فيه زمناً طويلاً حتى فقدت صلاحيتها فأصبحت خاليةً من أيةِ فائدةٍ غذائيةٍ ، إن لم تكن قد أصبحت سامَّةً ، ثم يُسخِّنُها قليلاً ، وبعد ذلك يقدمها للقاريء “ألف عافية” موهماً إياه – دَجَلاً من عند نفسه – أنها ليست سوى مفردةٍ طازجة ، إبنة يومها ،وأنها من عمل يديه وإبتكار مخيلته و ………. باركني آجرك الله على ما أبذله من أجلك …. الأمر عينه مختلفٌ عندي ، فالكلمة إن لم أنفخ في جسدها نَفَساً من روحي ، الكلمة التي لاتخرج فائحةً بالبخار من مخيلتي ، بعد أن أكون قد خَلَّقتها تخليقاً ، طوراً عن طور ، مثل تلك الكلمة لاتعنيني ولاتثير إلاّ غثياني وتثير إشمئزازي ، ولا أملك ضميراً ميتاً أو مريضاً لأُقدمها للقاريء موهماً إياه أنها طازجة من عمل يديَّ وإبتكار مخيلتي ، دون أن يُؤنبني ضميري .. مثل تلك الكلمة ليس لها عندي سوى سطل الزبالةِ مكاناً …..
س : لاحظتُ أن بعض المفردات تأخذ هامشين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة أحياناً ، فلِمَ كان ذلك ؟
ج : أثناء كتابة روايتي كنتُ أتحَسَّسُ ألمَ كلِّ مفردةٍ على حِدَة ، كما أنني كنتُ أتَحَسَّس شعور تلك المفردة بالغبن والحيف ، حين يحدثُ أن تتألم وهي ترزحُ مُعانيةً تحت ثقل وطأة المعاني الكثيرة التي تكتضُّ بها ، فيوجعني ضميري ، وعندئذٍ أُسارعُ بإجتراح هامشٍ لها ، فإذا إستمرت تتألم أُضيفُ إليه هامشاً آخر ، فثالثاً ورابعاً وخامساً .. إلى أن أشعرُ بأنها – المفردة – قد إقتنعت بما ورد في الهامش من معانيها المختلفة الكثيرة ، فأتوقف عن إضافة المزيد…
الهامش في رواية “الأشباح والوهق” هو عصارةٌ كثيفةٌ ، رحيقٌ مُركزٌ ، معنىً تهدَّلَ لِثُقلِهِ ، فتدلى أسفل الصفحة تحت المتن .. وبإختصار فإن إحتشاد المفردة بمعانٍ إضافية مُضمرة
غير تلك المُعلنة – معانٍ خفية لاتُحدَسُ إلاّ حدساً بسهولة – هو من يمنحها أكثرَ من هامشٍ لتتحركَ مُنطلقةً في مضماره الفسيح …………
س : ماهي وظيفة المجموعة الشعرية داخل رواية “الأشباح والوهق”؟
ج : من أجل إحداث تأثيرٍ تام وليس تأثيراً جُزئياً ، في وجدان القاريء ؛ ينبغي على الكاتب أن يختبر حتى النهاية كلَّ أنواع القَناعات ، أن يذهب إلى أقصى مدىً يستطيعه ، أو حتى إلى ما لا يستطيعه فيها ، وأن لايتوقف عند قَناعةٍ ما بعينها ، مهما بدت له مُلبيةً أغراضه ومُستوفيةً مُتطلباته .. بمعنى آخر ، أن الإشتغال على حادثة الإنتحار لا شك سيكون مؤثراً ، إذا ما أُحسِنَتْ كتابتهُ وصياغته وإحكام بنائه ، لكن ! ما ذا لو أعقَبَتْ نهاية المُنتحر ، تركةٌ ما ؟ إذا ما خَلَّفَ تركةً ما ؟ يتَفَحَصُها الأحياء من بعده ويَتملَونَها ؟ ألا يكون التأثير عندئذٍ ساحقاً .. ولتكن تلك التركةُ مجموعةً شعرية ، عِقْداً لألاءً من الكلمات ، قِطَعاً كأنها مقدودةً من شغاف القلب ، كأنها نَسائرُ الروح وقد وضِعَت على شكل قصائد شعر، ولكنها كقصائد ليست مكتوبةً إلا بحبرٍ فادح الثمن ما هو إلا دمُ المُنتحر نفسه ؟ لا شك أن التأثيرهنا لن يكون جزئياً وإنما تأثيراً تام …..
وكما ذكرتُ لكَ مراراً ، خلال محادثاتنا عَبر الهاتف ، فإن المجموعة الشعرية “الرأس الأعرج ” ذات العنوان الثاني “دَمْدَمَةُ دَمِ التَناسيح “، كانت ستجيء كـ “زائدة دودية “لو لم أكن قد أعددتُ لها العُدَّة ومهدتُ لها السبيل لأجعلها قطعةً حيويةً من جسد العمل الروائي ، فلذةً من فلذاتهِ ، عضواً نابضاً من أعضائه ، يتننفسُ ويتغذى وينمو على مايتنفس ويتغذى وينمو عليه سائر جسد العمل الروائي .. ……
الشعر في عموم صفحات هذه الرواية – وهنا لا أقصد المجموعة الشعرية – لم يكن قد وُجِدَ، دائراً في فَلَكٍ منفصلٍ ، أو برزخٍ مستقلٍ بذاته ، وإنما كأحد أبطالها الرئيسيين ، لا بل إن الشعر فيها ليس إلاّ بطلاً مُهيمناً ، لذلك فإن للمجموعة الشعرية في “الأشباح والوهق” حضورٌ ووضيفةٌ تماثلان وتتساويان مع حضور أيِّ شخص من شخوصها الرئيسيين ….
يَعرفُ الروائيون الحقيقيون ، أولئك الذين يُسَمَّون بـ “النازفين” كيف يجعلون من شخصيةٍ ما ، من الشخصيات ، شخصيةً مُندَرِجةً في سياق عملهم ، شخصيةً مُنسجمةً مع لُحمته وسُداه ، موصولة الخيوط بنسيجه ، مُتشابكة الوشائج بوشائجه ، وليست مدسوسةً في تلافيفه دَسَّاً ، أو مُضافةً إلى ثيمته إضافةً ، أو محشورةً حَشراً ، عنوةً فيه لأجل التزويق والإثارة .. لايتمكنون من فعل ذلك ،إلاّ بأخذهم الأمر أخذاً هيِّناً ، سَلِساً يَسيراً ، بالتمهيد لها – بِدْءاً – وإدخالها إدخالاً عفوياً لاتشوبَهُ أيةُ شِبهةٍ قسريةٍ وليس له أيَّ مظهرٍ من مظاهر الإقـواء …إلخ….
لقد شرعتْ الرواية منذ البداية في التنويه بالمجموعة الشعرية التي تركها نائل ، نوهتْ مراراً وتكراراً حتى رسخت في ضمير القاريء ، وحتى صارت – أي تلك المجموعة – بطلاً من أبطال الرواية وأحدِ ركائزها ، فبانتْ كجزءٍ من البناء بينما كان يتم تشييدَهُ كلمةً كلمة ،جُملةً جُملة ، أمام أعين القراء وفي مخيلاتهم ، فكأن الأحداث التي تم تخصيبها بِدِفْقٍ حارٍّ دَفَّاق ، ثم حَمَلتْ فإستوتْ حُبْلى ، قد تمخضتْ بعد إكتمال عدة الحمل فولدتْ ولادةً طبيعية مجموعة “الرأس الأعرج “آنفة الذكر ..
وكما كتب نائل في إهدائه لراسم فإن تلك القصائد التي أُستُخرِجتْ من أكنافِهِ ، أكنافهِ المنذورة للعدم ، لم تكن قد أُستُخرجَت إلاّ من جوفٍ مُحتضَر ، تماماً كما يُمكن أن يُستَخرجُ الوليد الحي من بطن ميِّت .
س : هل تظن أن راسم كان سينتحر لو أن أُذْنَهُ بُتِرَت كما حدث لنائل ؟
ج : السبب الوحيد الذي يمكن أن يدفع راسم للإنتحار هو إنصراف نبضات قلب رضاب عنه .. أما كل الأسباب الأُخرى – بما فيها بتر الأُذْن – فلن ينظر إليها إلاّ على أنها تافهة . من هنا يمكن معرفة الفرق الجوهري بين سايكولوجيتهما …. نائل إنكسر وتفحمتْ روحُهُ حتى قبل أن يتفحَّم جسدُهُ ، على الرغم من أن قلبَ رضاب لم ينبض بإيقاعٍ مغايرٍ إلاّ لَـهُ………..
س : في أزمانٍ سابقةٍ كان الأحقُّ بنيلِ قلب المرأة هو الأكثر جدارةً ، حسب هذا التصوُّر ، من منهما – راسم ونائل – أكثر جدارةً بنيل قلب رضاب ؟
ج : رضاب ليستْ جائزة ، وإنما هي فتاة من لحمٍ ودمٍ ومشاعر وأفكار وأحلامٍ وآمال .. نحنُ لسنا في عصر القرون الوسطى كي نتبنى أو نتقبل فكرةَ أن يتبارى عليها الإثنان ، خائضَين نزالاتٍ عديدةً لإمتلاكها ، كأنها غرض ، أو حاجة أو شيء من الأشياء ، كأنْ لم تكن لها مشاعر ، كأنها سلعة للتداول .. وقع إختيارها على نائل وأَول من إحترم ذلك الإختيار هو راسم نفسه ، وفوق ذلك غبطَ نائل على حظِهِ ، لكنه لم يحسده …
س : لو كانت لك قدرات غير محدودة ، فلمن كنت قد جعلت ميلان قلبها ؟
ج : لن تُصدِّق … لو توفرتْ لي مثلُ تلك القدرات لحرمتهما منها هما الإثنين ، ولكنتُ جعلتُ قلبَها لا يَخفقُ مُنفعلاً إلاّ لي … لقد كانت أجمل أُنثى في الكون ……………
س : ما الفرق بين نائل وراسم وسعيد ؟
ج : هم الثلاثة لم يكونوا إلاّ نتاج حقبةٍ مشؤومة ، لم يكونوا إلاّ أبناء حقبتهم – الحقبة العراقية ذات الخِلقة الكالحة المتجهمة .. كل محاولاتهم للتحليق – وهم كانوا حالمين محلقين – لم تُجابَه إلاّ بإطلاق الرصاص ..
إنَّ زمنَهم المُتسخ المُعفَّر بالدماء والتراب ، لم يسمح لهم ، بأن يحتفظوا بنظافتهم ، وأن يكونوا ما أرادوا أنْ يكونوه .. لقد آلَ زمنُهم المُتسخ ، على نفسه ، أن لايتركهم إلا بعد أن يُعفِّر نفوسهم بالدم والتراب ..
لم يكن سعيد إلا مُبتكراً في حقبةٍ شحيحةٍ إنحطتْ خلالها النفوس وكلحت المخيلات فأصبح لِزاماً على المُبتكرين أن يدفعوا غرامةً أو ضريبةً على ذكائهم .. لم يقع رعب الحقبةِ على سطوح نفوسهم ليُشوِّه خِلقتهم فقط ، وإنما كان قد ترسَّبَ في قاع نفوسهم ، مثلما يمكن أن يترسَّب التيزاب ، فحفَّرها وحرثها بمحراث الشيطان ، فما تركها إلا بعد أن ألحق بها تخريباً مُريعاً .. تباينتْ ردود أفعالهم إزاء ماحدث لهم من واحدٍ إلى آخر .. لم يكن مصير كل مِنْ راسم ونائل إلاّ مصيراً تراجيدياً ، أما مصير سعيد فقد خالطتْ مادة تراجيديته صبغةُ قانيةٌ من الميلودراما ، فأصبح أُضحوكةً ومصدر تَنَدُّرٍ لطلبة المعهد ، حتى أنهم أطلقوا عليه تسميتهم الخبيثة المستوحاة من مآل مصيره : “التحري المروري سعيد التعيس” ، لكن دون أن يعني ذلك أنهم لم يكونوا يتعاطفون مع مأساته … راسم لم يكن إلا أرفع الثلاثة نفساً ، لاتنس أنه عاش مع أبويهِ العجوزين كلَّ عمره دون أن يُغذياه بأيِّ قدرٍ من المشاعر الأبويةِ ، التي كان يحتاج إليها لتمنحه دَفعةً معنوية حيوية في الحياة . بدلاً من ذلك كانا يحقنان حياتَهُ بالسموم مُعتقدَين – وهما مخلصان – أن ما يحقنان حياته به ليس سوى حنانٍ مُستَحَقٍ له عليهما .. لقد إفتقد أكثر ما إفتقد الدفءَ والحميمية العائليتين ، ومع ذلك كان نبيلاً شهماً مُسيطراً على نفسه ومُتحكماً بها ، كما لو أنه عاش مُتدفئاً بمدفأة الحميمية والمشاعر العائلية… من هذه الزاوية يمكن القول أن راسم لم يكن إلا إبن نفسه البار ، لقد كان يُكافح ، أثناء تواجده مع والديه في البيت ، ليظلَّ مُتماسكاً ، بينما أبواه لم يكونا يُنفقان عليه إلاّ من طاقتهِ ، مغذيانه بمشاعرهما غير الصائبة ، التي لايعرفان أن يُغدِقا عليه غيرها …. على العكس منه ، فأن نائل الذي عاش مُغرَقاً بالمشاعر الأبوية والعائلية سرعان ما فقد ثقته بنفسه، بعد أن بُترت أُذْنُهُ ، ولم تنفعه تلك المشاعر ، وفي اللحظة الحاسمة ، غَدَرَ بكلِّ من كانوا يَكُّنون له الحب غير مُنصِتٍ إلا لنداء العدم ………….
س : فما الفرق بين رضاب وراسم ونائل ؟
ج : كلُّ الذين أحبوا رضاب وصارحوها فلم تستجبْ لهم ، إنتهوا إلى أنْ أصبحوا – بكيفيةٍ ما وهي كيفية ملتبِسة – من رعاياها الناقمين عليها غير الراضين بالإنفضاض عنها ، وآنذاك تكونت لديها خبرة عملية عميقة غير إعتيادية ، بسايكولوجية الرجل. لقد أصبحت مع تكرر التجارب تبثُّ نوعاً من الذبذبات الماورائية ، تُمغنطُ الرجلَ وتُبْـطِلُ قواه وتفرضُ سيطرتها الكاملة عليه وتُحْكِم سطوتها على مشاعره ، حتى مع معرفتِهِ بأنها لاتبادله ولو قدراً يسيراً نَزِراً من المشاعر .. لكن يجب التأكيد هنا ، على أنها لم تكن آلةً تُكهربُ دخيلةَ الرجل وتلهبُ مشاعرَهُ فقط ، وإنما هي إنسانة لها لحظات هشاشتها ولحظات ذوبانها ، وقد بكتْ وذرفتْ من الدموع ما يعادل بكاء ودموع كلِّ ضحاياها مجتمعين ، إذا جاز لي أن أجورَ قليلاً وأُطلق عليهم هذه التسمية مثلما كانت روح الدُعابة عند طلبة المعهد تفعل .. لم يذهب راسم إلى موته – حين ذهب إليه – إلاّ باسماً . أُنتُزِعَ نائل من هناءته وفرحة عمره إنتزاعاً ، فلم يذهب إلى موتِهِ إلا مُرغماً ، لذلك لم يذهب إلاّ باكياً .. كُتِبَ على رضاب أن تُنَغَّصَ عليها فرحتها بخطوبتها بوقوع مأساةِ إنتحار راسم كما كُتِبَ عليها بعد ذلك أن تُنَغَّصُ عليها فرحةُ عُمرها في إسبوع زواجها بمأساة ثانية هي إنتحار نائل ، ولم يكن عليها إلاّ أن تبكي الإثنين معاً في الوقتِ عينِهِ وأن تقتنع أخيراً بأنَّ مصيرها – الذي ظنَّ الجميع أنه مصيرٌ سعيد – لم يكن إلاّ مصيراً تعيساً …..
س : طيب .. فما الفرق بين رضاب وسُهيلة ؟
ج : كُتِبَ على رضاب أن لاتكون ، أن لا تُصنَّف ، إلاّ ضمن قائمة الأملاك العامة ، نوعاً من الأوقاف ..إن تجربتها مع الرجل كانت قاسيةً ، وقد خُتِمَتْ بمأساتين فظيعتين – إذا إستثنينا قصتها مع إبني عمها وخالتها – جعلتها ، بل وضعتها على درجةِ القرب أو البعد عينها ، من الجميع ، فلا تخص أيَّ واحدٍ منهم إلا بالقدر عينه الذي تخص به الباقين .. كان ذلك قد شكلَّ لها نوعاً من الرِبْقة ، رِبقةٌ لا قِبَلَ لأحدٍ بكسرها …. دفعت سُهيلة مايمكن تسميته بـ “ضريبة الدم “التي يُكتبُ على من يكون في موقفها ، ومن يكون أبوهُ أباها وعمهُ عمها ، أن يدفعها ، لذلك فإن الأَصابع التي فركت بتلات زهرتها لم تكن أَصابع حبيبٍ أو عدو ، وإنما أصابع مَنْ لا تُعتبر أَفواف تلك الزهرة إلا وديعةً لديه مُحرمةً عليه ، وعلى عاتِقِهِ إنما تقع مسؤولية حمايتها …………
س : لماذا أخبرتنا الرواية بطريقة إنتحار نائل وحجبت عنّا طريقة إنتحار راسم ؟
ج : ينبغي النظر إلى أمر كهذا على أنه ميزةٌ وحسنة وحيلةٌ روائيةٌ مُبتَكَرَة .. إن إيراد وصف عملية إنتحار واحد يكفي في روايةٍ واحدة حتى لو أن جميع شخوصها قد أقدموا على الإنتحار .. و بالمناسبة فأنني لم أحصر عملية سرد إنتحار نائل في موضع واحد من الرواية، وما تلك إلاّ حيلة إبتكرتها .. لقد وزعته في مواضع عدةٍ متباعدة ، كي أُبقي ذهنَ القاريءِ في حالةِ يقظةٍ فلا يتناعس أو يسرح ، وإذا كنتَ لاتزال تتذكر فإن آخر لقاءٍ للقاريء بنائل لم يكن أثناء إنتحارهِ أو بعد إنتهائهِ منه ، وإنما في المعهد صباح يوم إعتقاله .. إنَّ كيفية وقوع حادثةِ إنتحارهِ كانت مبثوثةً عبر صفحات الرواية على شكلِ جملٍ وأنصاف جمل وجزيئات وإشارات ، وليس سوى تجميعها مع بعضها ثم رصّها وتركيزها في بؤرةِ عدسة ، ما سيجعل منها تعطي صورةً شبه كاملة ..
في ما يخص راسم فأنَّ كلَّ قاريءٍ يمكنه أن يتخيَّل الكيفيةَ التي نَفَّذَ خلالها إنتحارَهُ ، خاصةً وأنه كان يعدُّ الخطط لذلك ويقوم بتعديلها ، وكأنه يعد الخطط ليحيى سعيداً …….
س : هل لكَ أن تخبرني لِمَ كان قد إنتحر نائل ، هل في ذلك تصفية حساب مع الوجود ، وجوده بالذات ؟
ج : الشعور الذي إحتلَّ دخيلته فكدَّرَ صبغتَها فأعمى ألوانَها ، حيث قمتُ بتقطيعه – مرةً تلميحاً ومرة تصريحاً – عَبر صفحات الرواية هو أنه أصبح أُضحوكةً بعد أن بُترتْ أُذْنُهُ ، لم يضحك أحدٌ عليه وإنما أصبحَ أُضحوكة نفسه .. هذا هو الجرح المهلك الذي سممَ جوهر وجودِهِ حيث نُزفتْ منه كلُّ دمائِهِ ، فألحقَ بنفسه الدمار وقوَّضَ مداميكها وكلَّ مرتكزات وجودها ، حتى أخذتْ تتأرجح متعلقةً بخيوط متهرئة – فوق تلظيات ألسنة الجحيم ، الجحيم الذي صنعه هو نفسه .. المعنى الداخلي الذي إستقر ثقيلاً راسخاً في الطبقات السفلى من قصائدهِ ، يتبنى مثل تلك الخواطر ويعضدها ويزودها بالسند …. في المقدمة الممتازة المقتضبة التي كتبها لمجموعته الشعرية ( الرأس الأعرج ) كان قد إختصر مأساتَهُ عن طريق إختزالها وضغطها ضغطاً كثيفاً خلال عدة كلمات ، مستعيناً بما للأُسطورة من حرارةٍ وثراء حين قال :
“…. من رأسِ بأُذْنين إثنتين
إلى رأسٍ بأُذْنٍ واحدةٍ ..
تُختصرُ حياةُ الكون ، ويتمُ تحولُها
بلا تدرجات
من الديثرامبوس إلى التراجيديا “………..
س : ربما تكون رواية “الأشباح والوهق” الوحيدة عربياً وحتى عالمياً التي تنتهي بمجموعةٍ شعرية، أهي مغامرة أَم تحدّي ؟
ج : ليست مغامرةً خالصة كما إنها ليست تحدياً ، ولكنها رحلة خطرة تُراوح بينهما ، يحفان بجناحيها من الجانبين ، لقد سلختُ سنةٌ كاملة في كتابتها – أقصد المجموعة الشعرية – ….
س : رقصة الأشباح المقابرية ، أوكار الذعالب ، أعشاش الذعابين ، الرأس الأعرج ، دمدمة دم التناسيح ، مالذي دعاك إلى توليد مثل هذه العناوين المُبتكرة لفصول روايتك ؟
ج : أثناء نقاشِهِ المحموم ، في ليلتهم الدامسة ، قبل الإنطلاق إلى المقبرة ، سائقين أسيرهم بينهم ، كان قنديل قد برهن لأصدقائِهِ ، بينما هم يحتسون الخمرة ، أنَّ الرعب الذي جُرِّعَ للشعب لم يكن يشبه رعباً آخر ، لم يكن إلاّ صناعة وطنية ، مدموغ بالدمغة العراقية ، رعب مبتكر ، صُنع عراقي خالص .. أنا على شبهِ يقين ، من أنَّ اللغةَ – كل لغة – لاتكون قد أُختُبرت وفُضت بكارتها وأُستُغوِرتْ بالمستوى المطلوب ، إذا كان تعبير كُتَّابها متخلفاً ولو بنصف درجةٍ عن مستوى العنف الذي مورِس على أبنائها ، وعندئذٍ فأنهم – الكُتّاب – لايُصبحون إلا خونةً أو متخاذلين وما الكتابة إلا خيبة أمل …
كان يجب أن تُصَعَّد اللغة إلى مستوى ماحدث وهذا ماكان …………
س : عَبر الهاتف غالباً ما تستخدم وأنتَ تتحدث معي تعبير “الأجيال القادمة “هل تظن أنكَ ستكون مقروءاً من قبل الأجيال القادمة ؟
ج : كلُّ كاتبٍ يتمنى أن يكون مقروءاً ويسعى لتحقيق أُمنيته ، وذلك من خلال تحميل نصِهِ بإشاراتٍ وشفراتٍ ودلالاتٍ وحتى اُحجيات يجتهدُ ليُمررها إلى الأزمنةِ القادمة ، مستخدماً شتى الطرق .. لكن القليل منهم من ينجح في تحقيق مسعاه …..
أظنُ أن ثمة شيء من حقبتنا سوف يعبر إلى الأزمنةِ القادمة .. ضعْ في المفردةِ ثقلاً كافياً من روحك ولسوف تستقبلها الأرواح الأُخرى في كلِّ العصور .. تغوط الكلمةَ من سنِّ قلمك وستستقبلها الديدان والبكتريا والحشرات لِتُفنيها لساعتها …………….
س : كيف ستكتب كتبك القادمة ؟
ج : هذا سؤال جيد أما جوابه ، فهو : سأقوم بتحضير أوراقي وأقلامي وسوف أستيقظ في ساعة ٍ مبكرةٍ من الفجر ، وأجلسُ منتظراً مثل شحاذٍ فقيرٍ على باب الله لعلي أُرزق بكلمةٍ مُعانياً المعاناة نفسها التي عانيتها أول مرةٍ ، مُستعيناً للتغلب على الصعوبات بإحتساء إستكانات الشاي ، وعندما تستعصي الكلمة عليَّ في الحضور ، فلن أيأس ولن أتوقف عن تكرار الأمر عينه ، عند فجر اليوم التالي ، وإذا …… إلخ