سندس السعدي :
واجهت لسنوات طويلة كل الإغراءات لكي تكون كبنات جيلها، لأنها كانت تعلم أنها مختلفة بعض الشيء. في تلك الليلة الصيفية، وكعادتها، استذكرت كل أعمالها لهذا اليوم، تذكرت أنها لم تترك طعاما للقطط التائهة في شوارع حيها، كان هذا من بين الطقوس التي عمدت إلى القيام بها، خلسة عن أعين عائلتها، منذ أن تأكدت من أن الله موجود. وهنا لم يقتصر استذكارها على يوم واحد، إنما غاصت في ماضيها، ماض كان يؤلمها إلى حين، لكنها سرقت ضحكة خاطفة، عندما باغتتها ذاكرتها بصورة لها وهي ترشي عمها بالقبلات لكي يهرب لها كتبا كانت ممنوعة في ذلك الوقت، كانت كتبا دينية، وفي تلك الفترة كانت محظورة في البلد. لم تفصح لأحد آنذاك بأنها تعاني من مشكلة إيمانية، لم تتمتع بالجرأة لتطلب المساعدة، ” لماذا تؤمنون بالله؟ أهو موجود هو فعلا؟” أسئلة عدة كانت تجوب فكرها وتتجول بداخله. اتخذت قرارا بأن تبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة، فعولت على زادها المعرفي الضيق بالعلوم الإسلامية، فابنة الثانية عشر بزادها بعض الأحاديث النبوية وما تبقى في ذاكرتها من قرآن كانت تحفظ ربعه ب
سن الخمس سنوات. بعد كل هذه السنين تذكرت في ليلة تجربة دامت ثلاث سنوات، لم تعلم ما الذي كانت تخبؤه لها هذه الفترة من تأثير وتحول جذري في شخصيتها، لقد حولتها إلى إمرأة ناضجة في عمر الخامسة عشرة. غالبت النوم لكنه أطاح بها وجعلها أسيرة لديه قبيل بزوغ الفجر بقليل.
الثامنة صباحا، اجتثها صوت والدتها من حلمها الوردي، إنها أحلام “هوليودية” ، و كم تعشق مثل هذه الأحلام التي تخبرها بأن مخيلتها بخير وتثبت لها أن الطفل الذي بداخلها لازال سليما معافى. تململت في فراشها، الوحيد الذي يفتح أحضانه لها دون أن تخافه. قطعت أمها هذا المشهد الرومنسي لكي تعيدها إلى واقعها، نهضت بإكراه مودعة أصدقاء باحت لهم بالكثير، وسادة مسحت دموعها وفراش واساها بين أحضانه وغطاء منحها سرية المبكى. استهلت يومها كالعادة بصلاة صبح في غير وقتها، رغم تقصيرها في واجباتها الدينية أحيانا، كانت تعلم بأن الله يحبها، فطيبتها المفرطة تجعلها تصدق الجميع، ولكن الله يجعل حبل الكذب قصيرا، فيجعل في طريقها دلائل وعلامات توصلها إلى الحقيقة، وذكاؤها هو ما خول لها التمتع بهذه الميزة.
دقت الساعة العاشرة، حانت ساعة خروجها من المنزل إلى مقر عملها. كانت تعشق مهنتها التي لطالما حلمت بأن تنتمي إلى هذا مجالها، لكن من عملوا معها أفقدوها إحساسها بالمتعة أثناء العمل، كانت تحسه واجبا ولطالما فشلت في عديد المجالات لهذا السبب، فرغم نضوجها المبكر، احتفظت بطفولتها بين أزقة شخصيتها، كانت تجيد السيطرة على هذا الركن، لكنه أحيانا ينزلق من بين قبضتها لكي يظهر للعيان ويفضح براءتها التي أصبحت من ميزات الفاشلين.
كانت الدقائق الأخيرة تدق معلنة نهاية فترة العمل لهذا اليوم، و كم طالت هذه الدقائق، كانت تخاف كثيرا هذا الإحساس الذي يهددها بقدوم الفشل إن هي واصلت على هذا المنوال. وأخيرا تنشقت عبير الحرية، فهاهو يوم آخر يمر بسلام، دون احتكاك بزملائها. تذكرت أيام دراستها، لم تكن مأساتها كما تعيشها الآن، لم تكن تدرس كلماتها قبل أن تتفوه بها فكل من انضم إلى الفريق يعد فردا من العائلة، ولا توجد ضغائن بين أفرادها. في طريق العودة إستقلت سيارة أجرة، كانت الأشجار على حافتي الطريق تمدها ببعض الأمل وتُنبؤها بأن الخير لابد آت. شردت بين ثنايا مخيلتها، في هذه الأثناء قابلت فارس أحلامها، كانت تحلم بالتعرف على قسمات وجهه، تريد أن تطرده من مخيلتها لكي تتمكن من إيجاده في واقعها. طيبتها جعلتها تبني أسوارا وتسكن برجا عاجيا، ليس تكبرا أو غرورا وإنما خوفا. كانت لا تهاب شيئا أو أحدا و لكنها كانت جبانة أمام الحب، تخاف إن هي أحبت أن لا تكون لحبيبها وأن يمنعها القدر من الانصهار فيه. كانت تخاف أن تتعمق في الحب وتغرق فيه وألا تجد من ينتشلها من غياهبه، فجعلت لقلبها ألف سرداب، جعلت منه متاهة يصعب من خلالها الوصول إلى بوابة الدخول. “آنستي لقد وصلنا…” فاجأها صوت سائق سيارة الأجرة ليرجعها، كما صوت أمها، إلى الأرض التي تنتمي إليها. كانت تعشق رياضة المشي التي تفسح لها المجال للتفكير والتعمق، فكانت تكمل الطريق إلى المنزل مشيا على الأقدام. تذكرت بأنها حاولت مساعدة بعض الأصدقاء، فنضوجها المبكر جعلها تشعر بأنها مسئولة عمن حولها، ولكن مبادرتها أقلقت البعض واعتبرها إهانة له، فالمرأة لا يحق لها البحث عن الحلول لـ”ذكر”، هكذا كانت تسمي كل من لم يعجبها من الجنس الآخر،”كلمة رجل لا تعطى لكل من هب ودب” هكذا كانت تبرر.
الساعة السابعة مساء، لم تنس أن تُحضر الطعام لقطط حيها المشردة، وطبعا خلسة عن أعين العائلة. جلست مع العائلة لفترة، هنا يمكنها أن تتصرف بأريحية دون أن تخاف تحريف كلامها، دون أن يكون لتصرفاتها تأويل آخر، فسحت المجال للطفلة التي بداخلها، وتركت لها لوحة التحكم لكي تجول وتصول دون أن تخاف استغلال براءتها.
الساعة تشير إلى العاشرة و النصف مساء، لم تقم بإصلاح أوراق الإمتحانات، التي من المقرر إرجاعها غدا للطلبة، وهنا دق ناقوس الخطر معلنا بداية النهاية، نهاية عشقها لـمهنة التدريس وبداية عشق آخر. إستسلمت لإغراء الفراش الذي كان يعشق لثم جسدها، إستذكرت أحداث يومها، لم تجد ما يستحق القلق بشأنه، فحتى قطط الحي وجدت وجبة العشاء في الإنتظار. كانت تعشق فكرة أن تدعو القطط الله بأن يسكن الجنة من وهبها هذه الوجبة، قفزت من الفراش مرعوبة، لقد نسيت أن تصلي صلاة العشاء. بعد صلاتها، إستسلمت لنوم عميق عميق، تحررت بعده من مخاوفها و عثرت أخيرا على الراحة الأبدية.
—