( اِرتبكَ البحر \ لِطَلبي \ موجة عاتية \ تُغرِقُ تردّدكَ \ حفنة لآليء \ ترتّق ريبتكَ \ مالي وللمتردّدين \ سأغمرُكَ \ ببسمةٍ عاتية \ فيهرع الموج \ طالباً \ طوقَ نجاة )
سجال الركابي
لطالما كانت الصورة الشعرية شغف الشعراء و المتذوقين ، و لطالما كانت المظهر الأبرز الكاشف عن شاعرية الشاعر و فنيته. و بطبيعة الحال حينما نتناول أدب شاعرة كبيرة مثل سجال الركابي التي كتب عن أدبها الكثيرة، يواجه الانسان صعوبة في ان يحقّق اضافة في هذا الخصوص . الا انّ الامر الذي يسهل المهمة هو التصورات محدثة عن الصورة الشعرية بأنظمة جوهرية كليّة بينا أسسها في أبحاث النقد النظري ، هي المحتوى الصوري ، و الكيف الصوري و الكم الصوري .
المحتوى الصوري
تشمل أبحاث المحتوى الصوري التناولات الجمالية للصورة ، من حيث التركيب اللفظي و المعنوي ، اي ما يحقق الابهار و الدهشة الذوقية . و شعر سجال الركابي يتمظهر بمحتوى صوري و نظام لفظي و عالم معنوي ثري و خلاب .
تقول في لوحة رفيعة لها :
(دمعتكَ الصامتة \ عصافير عسلٍ \ تنوحُ في \عتمة ِ حيرَتي الخرساء )
و في بوح رقيق أخّاذ تقول :
( لا ترمِني بشبكة صيد \ إنثر توقَك دافِئاً \ أُغرّد \ عيونَ نعناعٍ ببحّةِ خَجَل )
و في لغة شفيفة تقول :
( تعالَ نسيماً \ أراقصكَ طائرةً ورقيّة \ أشِدّكَ … نورَ لازوردٍ \ في غيومِ التلاشي )
و في رسم مدهش بمعان و بوح و الفاظ آسرة تقول :
( أرسُمُني خطَّ دهشةٍ لعوب \ في كفّ ِالرتابة \ أكتِبُني \ .. … بُستاناً حينَ رمضاء.\..لماذا… …\ كلّما رسمتُ قلبَكَ \ إنزلقَ القلمُ \ وانتحرتْ الخطوط…؟ \ … … سأمحو ما رسمتُ \ أختارُ لوناً… …\ ليس يُمحى … بالتنائي )
2-الكيف الصوري
لو انّا جزّءنا الشعر الى وحدات ، لوجدنا تلك الوحدات هي الصور ، و لو تمعّنا في الصور لوجدنها تنتهي الى انظمة لفظية و انظمة معنوية، و ما يميز الشعر عن الكلام العادي انه يبتدع علاقات جديدة بين الالفاظ و المعاني ، و من الواضح ان اهّم ميزة للغة الشعر هي حصول حالة تجاوز واعتداء على العلاقة التاريخية المنطقية الكشفية و المرآتية بين اللفظ و المعنى .
انظمة هذا التجاوز و الكسر لهذه العلاقة و الخروج المتعمّد عليها له اشكال متعددة تحدد اسلوب الكتابة ، ويمكن تلمّس ثلاثة اشكال عامة في الكيف الصوري الشعري :
الاول ان يكون الابتعاد عن منطقيّة استخدام الالفاظ غير كبير بمعنى اخر يكون المجاز توظيفي واضح الدلالة و يمكن ان نسمي هذا الشكل باللغة الساكنة و من مصاديقها الظاهرة البوح التوصيلي .
الثاني ان يكون الابتعاد كبيرا حتى يصل حدّ التجريد و يمكن ان نسمي هذه اللغة باللغة المتعالية و من مصاديقها البوح الايحائي و الرمزية و ومن مخاطر هذا اللغة الغموض .
و الثالث : هو المزج بين الاثنين ، فتظهر لنا لغة متموّجة هي صفة اللغة القوية تتموج بين الرمزية و التوصيلية و هي من اصعب اللغات و أرقاها عندي .
عند سجال الركابي جميع هذه الاشكال حاضرة :
ففي لغة ساكنة ببوح توصيلي شفيف تقول :
(أروّضكَ … فتجمح \ الى مسالكٍ خطرة \ أهادنكَ … فتجنح \ الى شطآنٍ موحِشة… … …
أيُّها التوقُ الشفيف \ أراكَ … لا تركَع… …\ لازدواجِ اللائحة… ؟؟؟ )
و في لغة متعالية بايحائية فذّة و عمق رفيع تقول :
(ماذا لو… \ اتكئنا على أحلامِنا \ تبادَلنا أرواحَنا…! \ ضع أساكَ على كتفي \ أَغدِقُكَ غيمةَ بُكاء \ تُزهِرُ سواقي نورٍ…\ بِهمسٍ شفيف \ لكن … \ الطوطمُ يصفر..\ انتهى الوَقت …\ موتوا )
و في لغة قوية تتموج بين التوصيل و الرمزية تقول سجال الركابي :
( اِرتبكَ البحر \ لِطَلبي \ موجة عاتية \ تُغرِقُ ترددكَ \ حفنة لآليء \ ترتق ريبتكَ \مالي وللمترددين \ سأغمرُكَ \ ببسمةٍ عاتية \ فيهرع الموج \ طالبا \ طوقَ نجاة )
من الملاحظة و كما اسرنا اليه في ابحاث النقد النظري ان هذا التمييز لاشكال اللغات انما ينبع من اختلاف الاستجابة الجمالية لها ، حتى انه يمكننا القول ان النقاط الشعورية للاستجابة الجمالية للتعبير التوصيلي تختلف عنها في التعبير الايحائي ، فينما تكون الدهشة و الابهار بنقاط و عوالم التذوق العادية البسيطة فان الاستجابة للجمالية الايحائية تكون في انظمة وسائطية معقدة ، تظهر حلاوتها و رونقها عند بلوغ اعماق الفكرة و بداعة التعبير ، و ذلك كله يجتمع في اللغة القوية ، بمعنى اخر بينما كل من اللغة الساكنة و المتعالية تحفّز نقاط استجابة مختلفة فان اللغة القوية تحفز الاثنين وهذا مكسب ذوقي و شعوري و امتاعي .
3-الكم الصوري
نقصد بالكمّ الصور مقدار الصور التي تتحقّق في ذهن القارئ اثناء عملية التلقّي ،اي مقدار القراءات للصورة ، اي انها بحث في تشكل المعنى لدى المتلقي ، فلو كان مجال الكم الصوري صغيرا كانت القراءات المتشكلة واحدة او اثنين لا اكثر و تكون اللغة مباشرة ، و اما اذا كان واسعا فانه يكون لدينا قراءات متعددة حتى نصل الى النص المفتوح ، و من الملاحظ للمتتبع ان جلّ شعر سجال الركابي هو من القسم الثاني الايحائي .
تتجلى اللغة الاولى في لوح بوح شفيف تقول فيها سجال الركابي :
(أروّضكَ … فتجمح \الى مسالكٍ خطرة \أهادنكَ … فتجنح \الى شطآنٍ موحِشة… … …\ أيُّها التوقُ الشفيف \أراكَ … لا تركَع… …\ لازدواجِ اللائحة… ؟؟؟ )
و اما الشكل الثاني فكما قلنا جلّ اشعار الشاعر مثال لذلك و منها مقطع تساؤلي رقيق تقول فيه :
( أيتها الذكرياتُ المستدامة \ الأشذاءُ الصادحةُ برِفقٍ \أيُنيرُ لمعَ البرقِ أصداء الدروب الموحِشة؟ )
و في كتابة تجريبية بعبارات تتخللها فراغات مقصودة اذ تقول و تكتب :
(أَفِرُّ … … \ الى مجرّةٍ أُخرى \ …بلا جدوى \ أبحثُ… … \ عن همهمةٍ \كدتُ أن … لمَستُها )
و اظهر من ذلك في مقطع اخر
( … المواويل تثاءبت ملل تكرار \ دوران\.. … النبض … حين تطلُّ … \ القمر… -لاتشِح نور خدّكَ -\ دوران…\ الترقب بعد-خيبة أمل\ – العقل – حينَ يفكّر بكَ \نهر عطشٍ في جفاءِ ناعور أُمنِيات..)
وهذا الاسلوب يرجع الى التعبيرية الشكلية بتوظيف البصريات لاجل ليس فقط اعمال قدرة القارئ لاكمال البناءات ، بل له دوغي تعبيرية تناغم الفكرة و الصورة فتكون في تكامل معها
—