فيصل عبد الحسن، روائي وأديب عراقي، لم تمنعه انشغالاته اليومية بين الهم الأدبي وواقعه المعيش الاجتماعي والأسري في المغرب، عن التفاعل الدائم والمتصل بأخبار وطنه الأم العراق.
يطول يوم فيصل الذي يستهله باكراً بفنجان قهوة، جراء تتبع لأدق تفاصيل ما تنشره الصحافة عن بلاد الرافدين، أنباء طافحة بأحداث العنف والفساد المستشري في مفاصل النظام الديمقراطي الهش هناك.
غادر صاحب “سنام الصحراء” وربيباتها من الروايات التي يصفها النقاد بالسهل الممتنع، أرض دجلة والفرات، في صبيحة يوم صيفي حار من أيام العراق الساخنة لعام 1995 بملابس المقهى، لم يكن مهيئاً للسفر خارج البلاد ولم يدر ذلك في خلده قط في مثل تلك اللحظة.
كيف لا، وقد تلقى الرجل إشارة صديق من مقربي حزب البعث الحاكم وقتها في العراق، تفيد بشروع جهاز المخابرات العراقي في اعتقال الأدباء النشطين والمعارضين للنظام الحاكم، بسبب ملف أدبي صدر في لندن يصف الأوضاع المتردية في البلاد، ويذكر كيف يعيش الناس في ظل حصار يحصي عليهم أنفاسهم.
لم يكن مبدع رواية “فردوس مغلق”، يعرف أن رحلته الى خارج العراق ستطول لأكثر من 20 عاماً، هذه الرواية إلى جانب “سنام الصحراء” نشرتا في مجلتي الأقلام والطليعة الأدبية، اللتين تعدان أشهر مجلتين أدبيتين متخصصتين في العراق في الثمانينات، في الزمن الجميل كما يعتبره فيصل عبد الحسن، حيث أثار نشرهما عام 1985 جدلاً واسعاً حول الروائي الجديد آنذاك، فيصل عبد الحسن.
كانت فترة حرب الخليج الأولى (1980 – 1988) مرحلة مريرة في تاريخ العراق المعاصر، حيث أُستنزف العراق مادياً وبشرياً، وشارك فيها مئات الألاف من الجنود العراقيين، كان صاحب رواية الليل والنهار التي صدرت عام 1985 أحد هؤلاء الذين قُذف بهم في آتونها دون رحمة.
البكالوريوس في الهندسة الذي حصل عليه فيصل عبد الحسن من جامعة البصرة موسم 1977 -1978 بتفوق، لم يشفع له ليزج به في الحرب سنة 80 كجندي، ولم يمنح رتبة ضابط كغيره من زملائه المهندسين المجندين في تلك الحرب، الضروس، لكونه لا ينتمي للحزب الحاكم، الذي كان يحكم قبضته على العراق في ذلك الوقت.
وقد صور فيصل، جزءاً من معاناة مئات الألاف من الجنود الذين كان أحدهم، وكتب عن ليل الخنادق والمذابح التي دارت في الخطوط الأمامية في جبهة الجنوب، وفي مدن حدودية بين البلدين العراق وإيران، الكثير من قصص مجموعته القصصية “جنود” الصادرة عام 1986 التي حملت قصصها إدانة صريحة لهذه الجرائم بحق الإنسان العراقي والإيراني.
وهو ما تمتلىء به عبارات الرجل المثخنة بجراح الماضي القبيح، وهو يتحدث عن فترة حرب الخليج الأولى: ” قصصي في تلك الحرب المشؤومة لم تكن قصصاً مكتوبة عن شخصيات خيالية، بل كانت عن جنود من لحم ودم قضوا نحبهم أمام عيني بفعل القصف المدفعي أو قنص القناصين من الجبهة الإيرانية المقابلة.
هذه كانت النهاية لأصدقاء كانوا يقاسمونني ليل الخنادق ومواضع القتال، خلقت في نفسي معرفة بالآخر وإحساساً عارماً بالظلم في هذه الحياة، فآليت على نفسي أن افضح هذا الظلم في كتاباتي”، يقول الروائي فيصل عن نفسه ملخصاً تجاربه في هذه الحرب، التي يضيف” أنها جعلته يحب وطنه حباً مضاعفاً ويعشق العيش مع الناس ومقاسمة همومهم ”
ولد الروائي فيصل عبد الحسن عام 1953 في مدينة البصرة ثالث كبرى مدن العراق، والتي اشتهر أهلها بحب الثقافة، وسعة الاطلاع، وغزارة الفكر منذ تأسيس المدينة قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام. مواهب الصغير فيصل القصصية، لاقت عند بداياتها الأولى كل الاستحسان والتشجيع من لدن والده، الذي كان معلمه الأول، الذي علمه حروف الهجاء باختياره أبياتاً شعرية لأبي العلاء المعري، والمتنبي وأبي نؤاس وغيرهم من الشعراء الكبار ليتعلم الطفل فيصل هجائيته الأولى شعراً غزيراً من التراث العربي المجيد.
كان عبد الحسن، والد فيصل يخط تلك الأشعار بخط يده الجميل، ويعلم منها الصغير كيف تكتب الحروف الهجائية، فضلاً عن قصص من القرآن الكريم، كان الأب يقرأها له، ما غرس في نفس الصغير حب التدين، وشغف بتلاوة القرآن والنهل منه، وأيضاً كان يقرأ له في كل ليلة من قصص ألف ليلة وليلة إلى فترة أكماله الأبتدائية، وفرح بعد ذلك ببروز مواهب ولده الأدبية خلال دراسته الثانوية.
دور الأب المعلم لم يقف عن ذلك الحد، بل إنه كان يصحبه إلى دور السينما، ويطلب منه تلخيص قصة كل فلم روائي شاهداه معاً، في ذلك الزمن الجميل زمن الستينات من القرن الماضي، مما صقل موهبته الأدبية، وجعله أكثر حداثة في اختيار موضوعات قصصه ورواياته.
بدأت قراءات فيصل تتنوع مع توالي مراحله العمرية، فقرأ في الأدب لمكسيم غوركي، وليوتولستوي، وفيدور دوستيوفسكي، وتورجنيف، وبوشكين. ومن الأدب الفرنسي قرأ لفكتور هيغو، ومولير، وفولتير وغيرهم …
كانت لحظة اختيار التوجه الدراسي الذي سيسلكه فيصل بعد حصوله على الباكالوريا بتفوق، غير يسيرة على الشاب الذي حار بين الأدب والعلوم. ليدخل على الخط معلمه الأول، الذي اوحى له بأن الأدب لا يطعم خبزاً في الوطن العربي، وذكره بمصير بدر شاكر السياب أكبر شعراء الحداثة في العراق، الذي أُلقي بأثاث منزله في الشارع لأنه لم يكن يملك ثمن كراء شقته، وكانت الحكومة مغتاظة من شعره الثوري، المندد بها دوماً، وكذلك الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي كان يبيع السجائر على الرصيف ليكسب لقمة عيشه، ومات وهو لا يملك داراً يسكنها بل في دار مؤجرة سرعان ما ألقى مالكها مخلفات الشاعر البسيطة إلى القمامة، حين لم يجد الشاعر المال لتسديد أجرة الكراء.
عمل فيصل بالنصيحة، واتجه نحو قسم الهندسة بجامعة البصرة، إلا أن ذلك لم ينل من ميوله الأدبية. حيث نالت رواية اقصى الجنوب التي كتبها عام 1988 ونشرت في بغداد عام 1989 الجائزة الأولى في المسابقة الوطنية الكبرى على صعيد الوطن العربي، وهي رواية تحكي عن مآسي الحرب في جنوب العراق، ودفاع العراقيين عن وطنهم أثناء محاولة القوات الإيرانية دخول البصرة من جنوبها عند منطقة الفاو.
بدأ اسم فيصل عبد الحسن يشتهر كمعارض للنظام السابق في العراق، حينما أُدرج اسمه ضمن قائمة الادباء المرتدين على النظام عام 1997، وكان اسمه الرابع بين ثلاثين أديباً وكاتباً عراقياً معارضاً غادروا العراق إلى المنافي، وعلى رأسهم الكاتب والاعلامي الكبير سعد البزاز، وهو ما كان في عرف النظام السابق حكماً بالإعدام.
لم يكن المغرب هدفاً لإقامة فيصل الطويلة خارج بلاده، بل كان يقصد بلداً آخر هو تونس، إلا أن اعتقال منصف المرزوقي، الذي كان ناشطاً في حقوق الانسان (قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية التونسية بعد الثورة على نظام زين العابدين بن علي) جعل اقامته تتجه صوب المغرب، بعد ان مزق التوصية التي حملها معه من ناشط تونسي بالأردن مرسلة إلى المرزوقي.
خلال السنة الأولى التي قضاها وعائلته في مدينة المحمدية عام 1998، حصل فيصل على اللجوء السياسي في المغرب، ولكن المدينة الصغيرة برغم جمالها لم ترق له، ففضل الانتقال بعائلته إلى الدار البيضاء عام 1999، ليختلط هناك بالوسط الثقافي والفني المغربي، ويتعرف على أبرز المثقفين المغاربة كزهرة زيراوي، الطيب الصديقي، حسن نجمي، محمد زفزاف، مبارك الراجي، مهدي الودغيري، ومحمد بنيس وغيرهم من مثقفي المغرب الكبار.
ومن خلال لقاءاته العديدة في الصالون الأدبي للأديبة والفنانة المغربية الكبيرة زهرة الزيراوي، اختار بعد طول تفكير اسم روايته الجديدة “عراقيون أجناب” والتي نشرت بالدار البيضاء عام 1999 عن دار نشر صغيرة تسمى الأحمدية وبألف نسخة فقط، ومع ذلك، فقد حققت الرواية شهرة واسعة داخل المغرب وخارجه.
ما دفع السلطات الاستخباراتية العراقية في عهد صدام اعتبار صاحب “عراقيون أجناب” أحد أخطر الأدباء العراقيين في المهجر، وذلك حسب ما نشرته صحف المعارضة في لندن في نفس السنة، وصارت الرواية لطرحها مآسي أهل العراق على أيدي حاكميهم على امتداد ما يربو عن خمسة عقود، سبباً في ميلاد تجمع أعلن عن نفسه في بريطانيا سمي بالتجمع الديمقراطي العراقي.
بدأ الكاتب فيصل عبد الحسن، خلال مقامه بمدينة الدار البيضاء، يسجل يومياته التي ظهرت عام 2011 في قالب روائي تحت عنوان “سنوات كازابلانكا يوميات السيد دينار في بلاد الدراهم”، وقد كتب فيها الكاتب معاناة أكثر من أربعة ملايين ونصف مليون لاجئ عراقي، غادروا بلادهم بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بسبب الاختلال الأمني وإرهاب المنظمات والمليشيات الإرهابية التي أوصلت العراق إلى حافة الحرب الأهلية بين عامي 2006-2007.
وعلى إثر هذه الرواية، أصدرت المليشيات عبر مواقعها الالكترونية فتاوى بقتل الكتاب والأدباء الذين فضحوا جرائمها، وكان اسم فيصل عبد الحسن مرة أخرى يتصدر قوائم أسماء الكتاب العراقيين الذين وضعوا في دائرة الاستهداف بالقتل.
تعرض الكاتب لمحاولتي اغتيال فاشلتين في الأردن عام 1995، حينما كان يعمل في إذاعة الحرية السرية المعارضة للنظام العراقي السابق، كمحرر للمقالات التي تفضح وحشية هذا النظام، وتشير الى أسماء القائمين بتعذيب العراقيين في السجون والمعتقلات، ما جعله يترك الأردن خوفاً على عائلته ويغادر الى جنوب ليبيا ليعمل أستاذاً جامعياً في المعهد العالي للمهن الشاملة.
الروائي الذي بدا هادئاً وهو يسجل ملاحظاته حول روايته الجديدة التي انتهى من كتابتها قبل فترة قصيرة، واختار لها اسماً موحياً بالأمل ودالاً على أن ثمة شعاع ضوء في أفق العراق الجريح، ليطلق على روايته الجديدة “تحيا الحياة” عام 2013 وهى عمل نشر مؤخراً في بريطانيا، ومنها وزع في باقي أنحاء العالم، وحقق شهرة كبيرة، ولا تخفى فيها مشاهد الحزن المرير جراء جديد العراق الذي يشير إلى سقوط المزيد من ضحايا الإرهاب والعنف.
تُدرس قصص الأديب والروائي، فيصل عبد الحسن في جامعة قار يونس الليبية منذ عام 1995، وأنجزت دراسات ماجستير ودكتوراه حول روايته الليل والنهار عام 1985 في جامعة المستنصرية بغداد، وروايته عراقيون أجناب عام 2006 -2012 في جامعتي بغداد والكوفة، وترجمت مجموعة من اعماله الأدبية ومقالاته النقدية الى اللغة الإنجليزية والروسية والتركية والايطالية.
ونُشرت لفيصل مئات المقالات في مجلات متخصصة، كمجلة الثقافة البحرينية، ومجلة نزوى العمانية، ومجلة الأقلام العراقية، والآداب البيروتية… ويعمل الآن ككاتب حر في الصحافة الثقافية، وكمتعاون مع جريدة الزمان الدولية.
يجمل فيصل القول وهو في الثانية والستين من العمر، بعدما خاض معارك شرسة بالبندقية والقلم، أن ثمة أمل، من أجل أرض أجداده العراق يقول: ” تحيا الحياة ” شعاري الدائم في لحظات ضعفي وقوتي وعند خوفي وشجاعتي… ولذلك اخترت هاتين الكلمتين لتكونا عنواناً لأهم رواياتي التي واصلت كتابتها منذ كنت اعيش في وطني العراق وأكملتها في المغرب، وهي بحق عن حبي للعراق وطني الأول، وتطلعي الدائم للعودة إليه، ومعانقة ترابه وحلمي الكبير أن أدفن في ثراه الطاهر، ولكن للأسف وزارة الثقافة العراقية تعيش في درجة الصفر المئوي وخطوطها مع المثقفين متجمدة، ومقطوعة لا حرارة فيها أبتداء من موظفها البسيط وصعوداً إلى وكيل الوزارة والوزير. ”
هذه صورة كاتب بقلم أبنه، وهو أيضا بورتريه حرَّفي أقدمه للصحافة اليومية عن أديب عراقي في الزمن القبيح، ربما أنصفت الكاتب والأديب وخذلت الأب، لأكون ضمن الضوابط الصحفية، التي تعلمتها في سنوات الجامعة، قسم الاعلام، أمل أني أنصفت حرفتي، ولم أنتقص من كاريزما والدي الكاتب والإنسان.
——-
* كاتب صحفي عراقي مقيم في السويد ــ أستوكهولم