حسين السنيد :
المشهد الاول :
ادخل قدمه الصغيرة في حذاء أبيه الكبيرة, قدم ناعمة بيضاء كالقطن المقطوف حديثا ,بأصابع صغيرة و اظافر كالمرايا ,دخلت في الحذاء السوداء التي خشنت وضاع لونها الاسود . بصعوبة استطاع ان يخطوا الخطوة الاولى ..رفع القدم اليمنى ,ثم اليسرى بثقل .كانت تنزل صوت ضربة الحذاء للأرض على اذنه بتغنج.
اطلق ضحكة مجلجلة , سارع الخطوات الصعبة ..تقدم ببطئ اربع او خمس خطوات اخر , توقف لاهثا وكان يرى الخطوات المعدودة التي خطاها مسافة طويلة . احب حذاء ابيه العتيقة , ولمس حرصه يوميا في تنظيفها قبل ان يذهب للمدرسة ,بقطعة قماش .فتصبح لامعة وقد استعادت شبابها وبريقها , وحين يرجع الاب كان يراها متربة متعبة . كأنها شاخت و هرمت . وهكذا كان يوميا يراقب شباب الحذاء وشيخوختها دون ان يهمل يوما واحدا.
بدأ يجري الآن .. الخطوة الاولى .. الثانية .. تعثر في الثالثة فوقع . وانزلقت الحذاء .
انتهى المشهد.
المشهد الثاني :
رجع الاب من المدرسة حاملا تحت ابطه اوراقا امتحانية فاحت منها رائحة شيطنة الطلاب , نزع النظارة ووضعها على الطاولة , خلع السترة السوداء الملطخة بالطباشير الابيض و القاها على الكرسي بجانب الطاولة . بعد ثوان ظهر الطفل يتهادى راكبا حذاء ابيه ,رفع السترة و غاصت يده في الكم,استدار يمينا ويسارا و رمق نفسه بنظرات الاعجاب ممزوجة مع فرح الطفولة , مسح بكفه قبلات الطباشير المنثورة على اطراف الكم و لكنه وجدها اعمق من ان يمحسها بيديه.
وضع نظارة ابيه على انفه فاحتلت نصف وجهه , وجد نفسه كبيرا جدا ..وطويلا و الغرفة صغيرة و الافق قريب . ركض باتجاه الباب فيما كانت السترة تنسحب على الارض , كلما ركض فرت الباب وابتعدت اكثر . سارع خطاه و مد يده التي رأها ضخمة رجولية ليمسك الباب , فتوارت الباب , والتفت السترة حول قدمه فوقع على الارض و انفلتت النظارة , وطارت كأنها لها اجنحة وحسبها قبلت سقف الغرفة . وقع على الارض و وقعت امامه النظارة, بزجاجتين متفطرتين..
انتهى المشهد.
المشهد الثالث :
علق سترة ابيه السوداء الملوثة بالطباشير على بسمار في الجدار .وضع الحذاء القديمة والمتحجرة تماما تحتها على الارض. وضع النظارة بزجاجها المغبر,اعلى السترة ,هذا الطفل الذي كبر الان وغزت رأسه كومة جراد السنين وتركته كعصف مأكول, بسرعة.. مثلما كانت تشيخ يوميا حذاء ابيه امام عيونه. تربع على الارض ,امام السترة والحذاء كأنه طفل يلاقي هيبة ابيه. سرعان ما ارتفعت اصوات همهمات الطلاب من السترة و رن صوت جرس المدرسة من النظارة وخرجت اقدامه الصغيرة فارة , تتقافز من الحذاء العتيقة.
لبس الحذاء التي اصبحت ضيقة الان , ارتدى السترة . وضع النظارة على انفه . بدت له الحذاء لماعة جديدة وانعكست في عيونه صورة عرس ابيه منها . و من حيث بقايا غبار الطباشير.
رأى الباب بعيدة و السقف عال و الشمس تغمز له .
تجرأ ليخطو الخطوة الاولى , فتساقطت ضحكات الطلاب من اكتاف السترة و تفجرت من الحذاء سنابل قمح و امدت باعناقها, وراحت الاكمام تجري نهرين دافقين.
نظر للباب النصف مفتوحة والبعيدة .. والى البقعة التي تتسلل اليها خيوط النور .
اسرع الخطوات .. تعثر.
لم ينتهي المشهد بعد ..
—