يمكن التعامل مع البنية الصوتية في هذه المجموعة بطريقتين :
أ : المستوى ألوزني
ب : المستوى الدلالي
أ : المستوى ألوزني : يمكن تطبيقه على قصائد كثيرة , لكننا سنأخذ بعض الأمثلة لتشابه المستويين أنفا فيهما ‘ وأول تلك الأمثلة قصيدة / رهان / من بحر المتقارب .
1. غدا نشتري فسحة في الفضاء البعيد
2. ونسمح للأرض بالطيران
3. إليها
4. لم الخوف من أن تطير
5. إذا وجدت مستقرا لها في مدار جديد
6. وراق لها أن تغير دورتها
7. وتعاند مجرى الزمان ؟!
8. غدا نشتري فسحة في الفضاء البعيد
9. غدا سوف نكسب هذا الرهان
أولا : في المستوى ألوزني , يعتمد المقطع آنفا على / فعولن ,فعولُ , فعول / بضمة على فعول الثانية وسكون على الأخرى , لهذا تتمظهر القصيدة في ضوء ما سبق على النحو الآتي , لهذا تتمظهر القصيدة في ضوء ما سبق على الشكل الآتي
هنا استعمل الشاعر ضربا واحدا هو ( فعولْ ) إذا ما استثنينا الشطر رقم 3 القصير ( إليها ) بتفعيلة واحدة , وهي في حقيقة الأمر تكوّن وحدة إيقاعية بتشكيلة رباعية مع الشطر الرابع . كما أن الشاعر قد أكثر من زحاف ( فعولُ ) وتوالى ذلك في الشطر الطويل ( 6- 7 ) بأربع تفعيلات متلاحقة ‘ ووزعت السطور وفق المعنى لا وفق الاشطر على أساس من التوافق الكمي مع التشكيلات , لذلك فُصل الشطر الطويل ذو التشكيلات الثمانية إلى شطرين , وهذا ما نلحظه جليا في الشطر السابع / وتعاند مجرى الزمان / إذ انه لا يستقيم على المتقارب إلا بإيصاله إيقاعيا بما قبله وهذا ما فعله الشاعر ورمى إليه . إن تناوب المفردات في هذا النص إعطانا تنغيما إيقاعيا مزدوجا لإثارة وتحفيز دواخلنا باتجاه خلخلة الشعور ( البعيد / جديد ) و ( الزمان / الرهان ) . فاستعمال البنية العروضية التركيبية المعتمدة على وزن ى( فعولن / فعول ) قد أدى إلى المزاوجة الحاصلة بعملية التناوب لتزودنا بدفقات إيقاعية تعتمد – في الأساس – على المفردة / المقطع / . فعملية الشراء المتحققة في الشطر ( 1 ) عملية خيالية إلا إن تحققها قد يكون يسيرا في ضوء المعطيات الحاصلة الآن وفي المستقبل والمتمثلة في مفردة / غدا / , لذلك يحاول الشاعر الخروج على التفعيلة الرئيسة , فأحتفظ الشطر رقم ( 1 ) بخمس تفعيلات على الرغم أن الشطر رقم ( 2 ) هو نتيجة للشطر رقم ( 1 ) , بيد أن الخروج على المألوف متمركز في عملية / السماح / التي نقررها نحن , لذلك جاء الخرق ألتفعيلي في الفعل / نسمح / الذي هو أداة التغيير والحركة في الوزن والدلالة , إذ تحول من / فعولن / إلى / فعولُ / متداخلا مع التالي على النحو المبين :
وَنَسمَ ح للار ض بالط يران
فعولُ فعولن فعولُ فعولْ
إن العنصر الموسيقي يتدرج من نغم لأخر بتداخل الأفكار وما تؤول إليه . فألا رض حين تجد مستقرا لها في مدار جديد يكون المنتج ( بفتح التاء ) مجموعة من المتغيرات التي لا تعد ولا تحصى ومنها المنتج الرئيس / معاندة الزمان / , أي تغيير ما هو ثابت كينونيا , لهذا نرى إن عملية الشراء تمثل خرقا اكبر مما مثلته بقية الأفعال , كما أن الزحاف لم يقتصر على الأفعال كونها حركة التغيير الرئيسة بل حصل في الأسماء والحروف , ونجد ذلك في كلمة من الشطر السادس / دورتها / , أو في / واو العطف / الواردة في بداية الشطر السابع مع كلمة / تعاند / , إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون أكثر الزحاف قد وقع على الأفعال كونها تقترح لسانيا الإفصاح عن حدث الخرق الكينوني الذي حفلت به القصيدة مقترنا بالزمن , وبهذا جاء الخرق العروضي متوافقا مع الخرق الفلكي المفترض الذي راهن الشاعر عليه بامتلاك الفسحة العالية. ويتخذ الإيقاع مستوى عاليا بسبب من البنية الدرامية المتكونة نتيجة عمليات التكرار المتحركة باتجاه خلق نسق إيقاعي قادر على تمثل التوازنات والتضادات الحاصلة في البنيات اللغوية . أما قصيدة / حنجرة طرية / فتشتغل على الوظائف اللسانية . فعبارة / ذات ليلة / إيماءة ظرفية مبهمة لحدث تم في الماضي وهي مضافة إلى نكرة , وهذا يعني تنكير الزمن , أو تقنيعه ‘ إذ أن ما حصل في ليلة ما معناه ليلة غير محددة بموضع تقويمي ( من التقويم ) , أما / كل ليلة / فهي الأخرى محددة لسانيا بإرادتها الظرفية , غير أننا ننظر إلى الأمر بنحو متدرج موضح بالمخطط الآتي :
إن هذا التدرج الصاعد / النازل يمنحنا انحرافا متدرجا تدرجا اتجاهيا لا كميا مما يؤدي إلى تصعيد نغمي معاكس له في الاتجاه لا يمكن اكتشافه من دون أن نعي ما لهذا التدرج من أهمية في السلم الموسيقي من درجة ( السبر انو ) , أي من الدرجات الحادة ‘ كذلك جاءت كلمة / هدهدة / غير اعتباطية إذ أنها قللت من تلك الحدة ‘ أو تلك الدرجة من السلم الموسيقي الذي يحمله صوت المرأة في صراخها . ثم أن التدرج لم يسر في اتجاه واحد كما موضح في الرسم آنفا , بمعنى إن المنحى الموسيقي لهذا الانحراف المتدرج هو الذي منحنا التسارع الإيقاعي . وقد يتخذ التدرج الإيقاعي تسارعا اكبر يسهم * بدرجة ما – في رسم نفسية الشخصيات المرسومة داخل النص. فالعبارة الواردة في المقطع الأول / جارتي تصرخ / يستثنيها الشاعر في بداية المقطع الثاني ليديم بواسطة كلمة / غير / التي هي في الأصل صفة والاستثناء عارض ‘ الحال إذ أراد الشاعر بها المغايرة , مغايرة الحال , لذلك فأن إدامة عملية الصراخ تُزيد من زخم التسارع بدليل القرينة / تعودت الصراخ / . أما المنحى الثاني الذي يعمل على خلق النسق المضاد فيتمثل بالسطر ( 2 ) من المقطع الأول / حملت ريشي وذهبت إليها / . هنا يحاول الشاعر خرق النسق بواسطة عمليتي الامتلاك والفقدان , إذ أن البطل – هنا – هي في الواقع المسرود المكثف يمتلك مساعدة الجارة بالتهدئة , لكنه في التحولات الدرامية يفتقد ذلك , بل هو نفسه به حاجة إلى إن يُمنح هدهدة , وهذا سر الشعر عند الشاعر الجيد ‘ إذ انه يتصيد الفكرة بذكاء . فخرق النسق قد حصل باتجاه تحقيق محمول دلالي مضاد / لم يكن لدي ريش / . فالريش – هنا – أداة توصيل ووصول إلى الأخر كما يبدو ظاهريا , وبدونه لا يتحقق ذلك , غبر أني لا اذهب إلى هكذا تأويل بسيط يوحي بأن الشاعر يتقمص صفة الطير للوصول إلى جارته بدليل انه لا توجد قرينة تدل على ذلك بل إن القرينة الموجودة والأكثر معقولية تخالف مثل هكذا تأويل , إذ إن منح/ الهدهدة / و / الخشخاش / ليس مما يمكن إن يقوم به الطير , وأظن أن / الريش / هنا دلالة على اللباس الفاخر بدليل قوله تعالى (وريشا ولباس التقوى ). فإذا كان ما ذهبنا إليه يقوض عملية فعل الإنسان التي ذكرناها آنفا لتوليد فعل المخالفة والوصول إلى زمن صفري قادر على أن يدوّب بداخله كل شيء , فأن الشاعر قد أبدع أيما إبداع في تصوراته ومنحنا تنويعا وتضادا خلاقا . قد يقول قائل – وهو محق – انك انسقت وراء ما هو إيحائي وابتعدت عن البعد الإيقاعي , واقو لان ما يشفع لي ذلك إن هذا البعد , أي الإيحائي هو الطاغي على جسد القصيدة وهو الذي منحها هذا الميلودي الشفيف . إن خلق مثل هذا النوع من الإيقاع المعتمد على التناغم الصوتي وان كان غير جديد على الشعر إلا أن عملية إخراجه وإنضاجه بنحو نثري هو الذي يميزه عن غيره , فتكرير الأصوات يتضح جليا في قصيدة / الشحاذ / التي هي من بحر الرمل . فصوت ( الميم ) مكرر ست عشرة مرة بينما يتكرر صوت ( النون ) عشرا ‘ فيكون التوزيع على الأبيات كالآتي :
م =3 , ن =2 / م= 1 , ن = 1 / م = 2 , ن = 1 / م =2 , ن=1 / م = 2 , ن = 1 / م = 3 , ن = 2 / م = 3 , ن = 1 / م = 1 , ن = 1 / .
أن النسبة القريبة من الضعف للحرف ( م ) مقارنة بالحرف ( ن ) تولد حركة مخلخلة ومتشابكة معا ولنبين ذلك بالمخطط الآتي :
من صناديق القمامة م م م ن ن ن
يبدأ البحث عن الموتى ن م
وعن مغزى القيامة ن م م
يتضح مما سبق أن حرف الميم يتقدم مرة ويتأخر مرة بينما يتقدم حرف النون مرة ليتأخر حرف الميم . هذا التقديم والتأخير لم يأت اعتباطا بل انه حقق إيقاعا مخالفا مرتكزا على حيثية متناوبة بما يحدث حرف النون من كثافة موسيقية في مقطع منفِّر مثل / من صناديق القمامة / ‘ كما إن مجيء حرف القاف المتكرر ( 4 ) مرات في المقطع الأول يُحدث إيقاعا مهموسا يخدم الصورة المتشكلة في همود / الميت / , أو في ركود/ القمامة / . وتؤثر أصوات المد في ترك بصمة موسيقية لأنها تسهم في تطويل عملية النبر وهذا ما نلحظه في قصيدة / الدورة / .
كيف دار الطريق على
نفسه والتقى طرفاه
كيف ضلت خطاه
في الرحيل إلى ذاته
وارتخت قدماه ؟
منهكا كان قبل الرحيل
مثقلا بأضطررات عمر طويل
فمشى فوق جثته
ومشى ……
ثم تاه .
إن انحياز الشاعر إلى الزمن والفكرة واضح, فدورة الطريق هي دورة الزمن , لذلك ساعد مجيء أصوات المد على إشاعة الإيقاع المتواصل ذي الضربات المتكررة , ولم ينس الشاعر جدوى التقفية وما لها من اثر بعد أصوات المد والزيادة التي شكلت – في بعض الأحيان – التقفية الأخيرة . كما ويتخذ التشديد على الحرف بعدا مهما في قصائد هذه المجموعة لما للحرف من تأثير في البنية الصوتية . لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر قصيدة / رهان / التي تنتهي بالحرف / دال / متمثلا بالكلمات الآتية : ( البعيد , جديد , المديد ) , فحرف الدال – هنا – ( حركة جوهرية وعنيفة , شديدة الوطأة ) بحسب عالم سبيط , وبهذا فالعملية الحركية لها اتصال بالزمن لأنها لا يمكن أن تصدر عن المرمى الواضح والمحدد .