أنتجت الحداثة رؤىً متنوعة على صعيد الثقافات الإنسانية وتمثلت بخطوط تكاد أن تتوازى بين المضامين التي عبرت عن تلك الاتجاهات وهو أمر اتضح منذ سبعينيات القرن الماضي تقريباً.
لقد كانت الحداثة مشروعاً عقلانيّاً ليبرالياً طموحاً وهادفاً إلى إزالة كافة الفوارق الطبقيّة في أوربا وإذابتها في بوتقة الحرية لينعمَ الإنسان بكلّ مقومات السعادة، غير أن مرحلة (ما بعد الحداثة) جاءت لتفجر الهوامش ولتكشف عن عجز النظريات الأدبية في تحقيق ما يصبو إليه المثقفون الذين عُهدت إليهم مرحلة الإصلاح الاجتماعي فكان هذا إخفاقا لكلّ وعود الحداثة التي ازدادت خذلاناً بما أنتجته الحربين العالميتين من انتشار الفوضى والفقر والجهل ومصادرة الحقوق والحريات العامة. ثم بدأت حالة أخرى بالظهور في الوسط الثقافي الأدبي والعمراني وغيره من اهتمامات المثقفين، وهي حالة من التحّول في التفكير والرؤية أنتجت تصورات جديدة في الثقافة ومنها على صعيد النقد، والشعر والتفكيك والقراءة والتلقي والنقد الثقافي وكذلك السرد..، فكانت كل هذه النظريات الأدبية خاضعة لتجربة ما بعد الحداثة.
وعلى صعيد التجنيس يمكن لنا أن نعدّ (مرحلة ما بعد الحداثة) شيء من وجهات النظر المختلفة أو هي رؤىً على أصعدة مختلفة أطرتها النظرية النقدية، وإذا ما أردنا تجنيس المفهوم العام لمرحلة ما بعد الحداثة فإننا سنضعه ضمن الرؤى والمفاهيم التي تحاول أن تؤسس لنفسها مرجعيات مفترضة ومتحولة في كثير من ثقافات الشعوب؛ لأن الأساس الذي بنيت عليه إنما يتلخص في نسيان شيء جوهري يستند إليه العالم بأسره بما فيه من اتجاهات الثقافة والفلسفة والأدب والنقد والعمران وإبدالها بالهامشيات التي لا يمكن أن تساهم في حل الإشكاليات المعرفية على رأي الدكتور عبد الوهاب المسيري، ثم يُطرح السؤال هنا: هل من الممكن أن يعيش الأنسان بلا مرجعيات..؟ وإنما الجواب مصداقاً لقوله تعالى: (( نسوا الله فأنساهم أنفسهم)).
وإذا ما رحنا نفتش عن المعنى اللغوي العربي والذي تشابه كثيراً مع المصطلح الغربي فإننا سنجد فيه ضالتنا مؤكدة لما ذهبنا إليه آنفاً، إذ تشير جملة (ما بعد الحداثة) إلى مفهوم عائم ومبهم لأن (ما) هي من الأسماء الموصولة وهي بمعنى (الذي) ويقول عنها النحويون بأنها من أكثر الأسماء إبهاماً؛ لذا فإنها قد أشارت إلى شيء مبهم ولم تحدد دلالته في المصطلح ولم تجد لنفسها مرجعية تحدد مسارها ومصيرها الثقافي. وعلى هذا الأساس فإننا نجد لها دلالة سلبية أو قريبٌ من ذلك؛ فقد شاع استخدام المصطلح في العقدين التاليين للخمسينيات كمصطلحين تنظيميين في المقالات النقدية التي ترصد أدق التغييرات التي تطرأ على المعايير الثقافية، وكانت تقدم منذ البدايات وجهات نظر جدلية للاستجابة الحسية ولغة الجسد حول التحليل الفكري، وأعلنت عن نفسها في الأنماط الشعبية والعشوائية المفتوحة. ثم سعت إلى عقد تحالفات مع الثقافات المضادة التي اعتنقها الشباب، كالمخدرات والروك في تحدّ سافر لثوابت الحياة الأدبية وليست هي من الدادائية ببعيد، هذا ما ذكره بيتر بروكر في كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة).
هذا ومما لا يمكن لنا تجاهله أنّ هذه المرحلة قد حملت في طياتها العديد من النظريات الأدبية النقدية والفلسفية ما بين سنوات الستين والتسعين من القرن العشرين ومنها النظرية التأويلية ونظرية التلقي والنقد الثقافي ونظرية الجنوسة والنظرية التاريخانية الجديدة والنظرية النسوية والكولونيالية والتداولية..
لذا فقد تضاربت الآراء الإسلامية منها والغربية حول مستقبلها، ونجاعتها فيما مضى؛ إذ يرى الباحث الباكستاني أكبر صلاح الدين أحمد في كتابه (الإسلام وما بعد الحداثة.. الوعود والتوقعات) كثيراً من الوعود والآمال الإيجابيّة كالتسامح والقصد واكتشاف الآخر وتحطيم البنى القديمة وتوفير الفرص لكسب العلم والمعرفة، وأنّ هذا التيار الأدبي إن صح التعبير..! لا يعني دائما الفوضى والعدميّة والعبثيّة والتشكيك ولو أن كثيراً من هذه السمات قد وسم بها هذا التيار مع ما أنتجه من أدبيات وخاصة في مجال الشعر، وهذا لا ينافي شعريّة القصيدة كما يرى البعض؛ فما الشعر إلا خرق لقانون المنطق بعوالمه الرحيبة وهو نتاج لتلاقح الثقافات عبر العصور السحيقة والتي ستنتج في كثير من الأحيان تدفق الخيال والإيهام بجمعه بين المتنافرات في سياقات متعددة، وليس من الضرورة أن يستند الشعر إلى الواقع من خلال المظهر وإنما نجده يعالج واقعا مريراً بتداعيات أخرى قد تغوص في أعماق الماضي لاستحضار ملحمة أو فكرة أوجدها البشر الأوائل. فكانت تلك مرحلة شابها الكثير من الغموض مع كثير من الأمل، ولعلها مرحلة من التحول ستُركن في قواميس النقّاد وتقذف بالعقم الأبدي.
—