زيد الحلي عمره الصحافي 45 عاما ، عاصر خلالها أجيال متعددة كان لها دورها التاريخي في صناعة ركائز العلوم والآداب والسياسة ، لو التقيته الآن لوجدته فتياً كبير العقل ، هادئا ، مبتسما ، سمته الأخلاق والدفاع عن من يحتاج الدفاع ، قلمه الآن يعكف على كتابة ذكريات تكشف أسراراً هامة تغير من مجريات القوالب الجاهزة التي تبنتها عقولنا بسبب ضعف بالنقل أو خلل بالوظيفة السردية النقلية.
أقف عاجزاً بالفعل ، كيف اكتب مقدمتي عن هذا المبدع المثقف الكبير ، يكفي إنني في بعض الأحيان احلم أن أكون شبيهاً له ، هكذا كنسائم ربيع معطرة ، حواري اليوم انقله للقراء وأنا على يقين إن كل ما كتب لا يكفي لسد جزء من عشرة عن هذه الشخصية الاستثنائية.
* الصحافة اليوم كيف يجدها زيد الحلي بعد 45عاما شابها الكثير من الاوقات العصيبة؟
**الصحافة والحياة ،صنوان لايفترقان ، كلاهما ،يكمل الاخر..فإذا مانظرت الى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والامنية في بلدنا العزيز العراق ، فستراها مضطربة بشكل كبير ،وعلى هذه البديهة ، سوف لن نتعب أنفسنا في البحث عن الجواب ، لأن الصحافة ،كما تعرف هي إنعكاس لكل ما تقدم…فهل رأيت صحافة ،تنتعش وسط البارود والانفجارات والسرقات والقتل؟.. لكن ذلك ،لايمنع من القول إن هناك شذرات ،يختبىّ لمعانها تحت رماد الاعلام …وهذه الشذرات هي التي تناضل ،كي تستمر الصحافة في إداء رسالتها وهي صورة تدلل على مدى الجهد الذي يبذله الصحفيون العراقيون في متابعاتهم ،رغم عدد الشهداء الكبير من الزملاء الذين سقطوا خلال الاعوام الستة الاخيرة. لقد بلغت الارواح البريئة التي ازهقت أكثر من 250 إعلاميا…وثق ياعزيزي ، لو إن هذا الرقم المذهل والخطير ،حصل في دولة كبرى ، لأغلقت الصحف أبوابها وإتجه صحفيوها الى مجالات معيشية اخرى..وهذا وسام شجاعة يعلق على صدور الصحفيين العراقيين الذين ،أثبتوا إنهم بناة حقيقيين للحياة, وفي ،مقابل ذلك ،أنا لست مع هذا الكم الهائل في إصدار الصحف والتي بلغ عددها حتى تشرين اول الماضي 95 صحيفة يومية وإسبوعية ،يظهر منها في الاكشاك والمكتبات وفي تقاطع الشوارع ،حوالي 20 والباقي ،يبقى حبيس أدراج الكيانات السياسية ..ومن هذه ” العشرين” صحيفة ،تجد الاقبال على اربع او خمس صحف ، لمهنيتها فيما البقية فتعاد كمرتجعات وقد حدثني أحد أصحاب المطابع ، إن مطبعته ،تطبع يوميا خمس صحف وثلاثة ملاحق لثلاث صحف اخرى ومجموع النسخ المطبوعة من الجميع لايتجاوز سبعة الاف نسخة!!
إن كثرة إصدار الصحف في رأيي ،ليست حالة صحية ،كما يتصور البعض ويهلهل لها، بل هي على النقيض تماما..إذ إن مساحة التأثير ،ستضمحل وتتلاشى ..لست متشائما لكني اقول ..كان الله في عون القارئ!
*ما حال النقد اليوم وهل تجد ان النقد في الثقافة والادب العراقي قد اخذ محله من الاعراب؟
**يتندر البعض بالقول إن (النقاد) كانوا كتابا أخطأهم التوفيق او خذلتهم مواهبهم ، فأرادوا أن يثأروا لعجزهم ،فإنقلبوا نقادا يتصدون للحكم على ذوي المواهب من الادباء!!
لكني من جانب اخر اقول لو إننا تعرفنا الى النقد الاصيل ،فإن تلك النظرة ستزول وتضمحل بالتالي الخصومة المزمنة بين الناقد والاديب ..هذه الخصومة التي نراها في بعض النقاد الذين يبغون تحطيم المبدع وتشويه نتاجه.
ولست ،هنا بمعرض التقليل من اهمية النقد والنقاد ، فالنقد الموضوعي دعامة ،لايقوم الادب إلا بها وعليها.. ومع مسيرتي المهنية الممتدة لسنوات طويلة وجدت إن النقاد قلما إتفقوا على رأي واحد في تقديرهم للأثر الواحد!!
إن الناقد الذي لايجد لقلمه مادة إلا في كتاب يؤلفه غيره والذي يحصر همه في الكشف عما فيه من محاسن او عيوب ،وفق منظاره ،هو ناقد ذا نفع قليل للادب ،مهما بلغ من براعة في السبك اللغوي.
وعلى اساس هذا القول ،أجد إن على الناقد أن يخلق مقايسه من نفسه..وعليه إذا كانت له المقدرة أن يحمل القارىّ والكاتب الذي ينتقده على إحترامها والإيمان بها ،ولن يتنسى له ذلك إلا إذا كان أنقى بصيرة وأسلم ذوقا وأوسع أفاقا وأصدق نية وأمضى عزما وأشد ثقة بنفسه وبمقاييسه من قارئه ومن منقوده..وآمل أن أكون قد أوصلت ما أردت قوله في الموضوع.
* هل تعتقد ان هناك حدودا فنية لم يتجاوزها الفنان العراقي ؟ وهل هناك حدود ادبية لم يتجاوزها الديب العراقي؟
**بالتأكيد، لأن مساحة الحرية ،ظاهرا ،هي مساحة عريضة وواسعة…لكن الحقيقة ،إنها مساحة ضيقة جدا.. بل أقل بكثير من “الضيقة”..وعلى أساس هذه الرؤية ، ليس باستطاعة الفنان او الاديب أن يقول او يبدع في كل شىّ لأن ما يعجب هذا الطرف ،سيزعج ذاك…ويبقى الفنان او الاديب بين براكين ،هامدة، لايعرف متى تنفجر..فيخسر “الطاس والحمام”.
غير إن على الجميع ان يعرفوا ،ان الابداع حرية وانطلاق .. والحدود قيّد وكم للأفواه و اذا اراد البعض اصطناع الحدود فان من مهام المبدع تدمير تلك الحدود.
إن في داخل الفنان ،الوان من الطيف الابداعي بلا حدود ،لكنه، يبقى أسير اللحظة التي يعمل تحت مقاساتها..ويبقى عطاؤه بالتالي ضمن إطار الانكماش..وتلك لعمري حالة لاتسر…
* مارأيك بحال المراة العراقية اليوم(فنانة او اديبة) ومن تراها تستحق المتابعة بعناية؟
** ولماذا هذا العزل في المسميات؟؟ المرأة هي كائن إنساني، مثلما هو الرجل.. وإذا كنت تعني إن الظروف الحالية تجعل من المراة أكثر حذرا من الرجل في تعاطيها لمجالات الابداع ، فأنا معك.. وفي هذا الصدد أقول إن الإثنين(الفن والادب) يسيران في نسغ واحد…فلن يكون لديك ،فن او فنانة مبدعة دون وجود ادب او اديبة مبدعة…الإثنان يستحقان العناية.
* برأيك لمن الريادة والدور الثقافي الابرز في العالم العربي خلال الفترة المقبلة؟
** أعذرني القول ، إن “الريادة ” كلمة فضفاضة…فكم من مبدع ولج ميدانا وبرز فيه حتى تكتشف بعد سنوات إن هذا الشخص (كان مبدعا!!) لكن تيار الحياة جرفه وغادر قاعة “الريادة” ذليلا..وأعرف عشرات الاسماء ممن ينطبق عليهم ما قلت من صحفيين وادباء وفنانين وغيرهم لكن مساحة الحوار لاتسمح بذكر الاسماء وهي كثيرة !
إن العقل الانساني يبقى ولودا، والدور “الريادي” يستمر بالتأرجح ،طالما، إن دوران الحياة يستمر في دورانه…وإنني أسألك كم نسخة كانت المطابع تضخ الى المكتبات من كتب طه حسين او المنفلوطي؟ واوفر عليك الاجابة بالقول إنها كانت بالالاف …لكن كم تضخ الان ؟ سيذهلك الرقم ،فلقد تناقص لحد مخيف .. وفي جولة يسيرة لك في مقاهي”الانترنيت” ستجد إن النسبة الاكبر من مرتاديها (60%) يتصفحون صفحات الالعاب والباقي يتوزعون على المواقع العلمية والمعرفية الاخرى عدا استثناءات قليلة جدا لايقاس عليها!
وأقول لك رأيا يحمل من الجرأة والصراحة الشىّ الكثير ،ربما سأفقد بسببه العديد من اصدقائي المبدعين ، إن الحقبة المقبلة ستبرز لنا شعراء وكتّاب يطلقون على أنفسهم (مبدعوا الانترنيت!!) وحتى أقرب لك الصورة وأوضحها اكثر ،أذكر ، إن ثقافة الدماغ والاستيعاب قلّت ، فيما ،إتسعت ثقافة العيون..! هل تدري إن إبنتي الصغرى عرضت عليّ يوما ،قصيدة ،رائعة ، قالت إنها من تأليفها .. وقد مازحتها بالقول إنها ممتازة ، فكيف جاءك هذا “الوحي الشعري” فجأة؟ فأبتسمت وقالت إنها من (وحي الانترنيت) ..قلت : كيف ؟ قالت إنها فككت جملة شعرية لأحد الشعراء ،ثم قامت بالبحث عن مثيلاتها عبر (الانترنيت) فحصلت على مقاطع بالالاف ، ولم تقم بأي جهد ، سوى لملمة الكلمات ذات المعنى الواحد لتشكل قصيدة …رائعة!!
إنني ،أضع يدي ،على قلبي المسكين ، خوفا على جنس أدبي لاحق ، يكون لصيقا بمثلنا الشعبي الدارج (ضاع الخيط والعصفور)!
*يسود ادب الشباب في العالم العربي تأثير واضح لمدارس التشكيل المبهمة ..بمعنى اخر ان تأثير اللوحة التشكيلية غير المفهومة من قبل المتلقي قد اصبح جليا في اغلب نصوص الشعر الحديث فنجده متكونا من صور غير مترابطة وكلمات متجاورة غيرمفهومة ..مارايك بهذا الاسلوب؟
**أليس ،في جوابي ،السابق ،مايغني عن الاسترسال؟
لقد جاء التأثير الذي ذكرته بسبب السهولة التي وفرتها التكنلوجيا، فأصبح خيال المبدع ضعيفا… فتراه يستسهل النقل والسير في شوارع الإبهام على إعتبار إن ذلك هو التطور بعينه.. وليس غريبا أن تجد ظلال القصيدة او اللوحة الفلانية المنجزة من قبل فنان في فنزويلا او الموزنبيق يرفرف على نتاج أخر في مورتانيا او مصر وهكذا..
ورغم ، إن هذا الامر يتكرر عند كل الاجيال، لكن، برؤى وصور مختلفة ولااعتقد أن أحدنا ينسى أغاني (البيتلز) بمواجهة الكلاسك ..والشعر الحر بمواجهة العمودي و( الميني جوب) بمواجهة العباءة والفستان الطويل وصوت (الهام المدفعي) بمواجهة صوت ومواويل داخل حسن!!
إن الزمن ،يبقى الحكم ، مع إيماني بان “الزمن’ اكبر منافق لأنه يحني هاماته أمام قصار القامة ،لأنهم أصحاب جاه وسلطة..فتبا له!
* هل تجد برأيك ان الحروف الابجدية العربية تحتاج الى زيادة كي يخلق منها ابداعا يتجاوز ماصنف في الماضي والحاضر؟
** لا أعتقد ، فبهذه الحروف ،جاء القرآن الكريم وبها كتبت المعلقات ومن تحت خيامها نضجت العلوم وإزدهرت القصة ..الخ.
إن الخلل ، ليس في كمية الحروف . بل فينا نحن.. رحم الله الأقدمون الذين خدموا الحروف وخدمتهم ولاوفق من يحاول تدميرها بحجج واهية.
* فى ذروة انتشار الصحف وازدياد عددها في العراق ..ماهي الرسالة التي توجهها الى اصحاب هذه الصحف ؟وهل تجد ان انتشارها حالة صحية ونافعة في بناء قادم ثقافي عراقي افضل؟
** أقول ، لينتبه اولي الأمر ..إن القارىّ العراقي يمتلك من الذكاء الشىّ الكثير… وهو دائم السؤال عن مصادر دعم هذه الإصدارات التي فاقت حدود الخيال ، فليس من المنطق ،أن نقرأ ما نكتبه نحن فقط ، ونقول إنه جيد بينما هو والسراب عنوان واحد!
وكما ، قلت في جواب سابق ،إن ذلك دليل ضعف وليس دليل قوة…..ولنتعلم من التجربة الصحفية في مصر..فعندما كان عدد صحفها مقبولا ، برزت فيها أسماء أدباءوصحفيين ذا ثقل كبير على الصعيد العربي والعالمي وعندما أصبح عدد صحفها اليومية 15 لم يبرز سوى، إسم او إثنان!!..فأين هيكل واحمد عباس صالح وعلي ومصطفى أمين ومحمود أمين العالم؟؟
إن الإبداع ، عندما ، يكون تحت دائرة الأضواء المركّزة ، يكون وهّجه أكثر تأثيرا غير إنه عندما تتشظى الأضواء فان الوهّج يخبو لحد الإضمحلال..فالصحفي المقروء من قبل مائة الف قارىّ ،ليس مثل الصحفي الذي يقرأ له 15 بضمنهم هو وعائلته…والحليم من يعي ويتعظ !! إن كثرة ” الصحف” تعطي للصحفييين (شهرة) موهومة وربما ضمن حدود العائلة…شهرة، عرجاء ،ذات قدم واحدة ، ولا يمكن أن تخلق مبدعا متماسكا ،متوازنا ،لأن كتاباته لن يقرأها او يطلع عليها إلا قلّة ، قليلة او لايطلع عليها ..أحد بالمرة.!
* ماهي الكوميديا الأدبية في هذا الزمان؟
**إن ضياع آلق الثقافة والصحافة والادب في إتون القيل والقال هي الكوميديا الاولى في هذا الزمان !
* لو سمح لنا المحررون بحديث حر لايلتزم بمحددات او قوانين..فماذا ستقول فيه؟
** ..وهل تقتنغ إن هناك حرية مطلقة في الصحافة او الإعلام ؟؟ إنها كذبة تداولناها حتى صدقناها ..لكن القاريّ او المتلقي يبقى الأشد ذكاء منا لأنه لم يصدق مثل هذا الإدعاء..