محمد باسم :
في ارض صحراوية من اراضي العراق، التقى اولئك الشبان. تقاطعت دروبهم وتوحد مصيرهم ليخلدوا اسماءهم على صفحات كتاب الأبطال. شبان من مدن وقرى مختلفة، منهم من كان يرسم لوحة مستقبل مشرق، ومنهم من قتلت احلامه برصاص الحروب ومصائب الأيام. اجتمعوا هناك في ذلك المعسكر ليكونوا الدرع الحصين للوطن. فمنذ ان وطأت اقدام داعش المحملة بالقسوة والجشع ارضهم، وابناء البلاد يبذلون الغالي والنفيس ويضحون بارواحهم لتطهيرها من رجسهم ورد كيدهم الى نحورهم. جنود غابت شمس الغد عن ابصارهم فبدا لهم مجهوﻻ مظلما كليلتهم تلك.
كانت ليلة صيفية غاب عن سمائها القمر. ضجة عارمة وذعر يكتنفان المكان، فقبيل ساعات قليلة علم افراد المعسكر أن الخطر يلوح في الافق، فداعش قد اعد عدته وهو يقترب منهم على عجل طالبا ارواحهم. كان وقع تلك الاخبار مدويا في نفوسهم. كيف ﻻ وهم مجموعة من طلاب علم وكسبة ما حملوا سلاحا قط وﻻ اعتادوا غبار المعارك. اﻻ انهم اليوم قد تسلحوا بالشجاعة وحب الوطن والاخلاص لترابه قبل ان يحملوا سلاحهم ويرتدوا لباس الحرب.
كان وقت السحر عندما انهى علي مناوبته في الحراسة وعاد الى مكان نومه. لم يكن المعسكر كبير جدا بعكس عدد الجنود الذي بلغ العشرات. جدران منيعة تعلوها اسلاك شائكة، برج مراقبة يرتفع عند بوابة امامية كبيرة من الحديد الصلب. كان الجنود يتناوبون في حراسة المكان تحسبا لأي طاريء.
اختار ان يريح جسده تحت قبة السماء، فتمدد في فراشه بجانب صادق، رفيق طفولته الوفي الذي قدم معه الى المعسكر. بدا المكان هادئا بعض الشيء. ترك علي عضلات جسده لكي تسترخي، اغمض عينيه واطلق لتفكيره العنان. تذكر والدته العجوز يوم ودعته بعينين باكيتين، حينما رافقته الى الباب لترش وراءه قطرات الأمل بعودته، تذكر اخاه الصغير الذي حرم من حنان الأبوة مذ كان طفلا، فكان له علي الأب والأخ الوحيد.
_عد الينا بسرعة يا اخي.
هي آخر جملة سمعها من اخيه قبل ان تسرع به الخطى ويغادر الديار. شعر بالحنين يعتمل في صدره، مد يده الى جيبه ليخرج صورة اخيه الصغير، تطلع اليها وقتا طويلا من دون ان يرى اي شيء، فقد حال الظلام الحالك دونه ودون قسمات ذلك الوجه البريء.
_ﻻ يهم. فصورته محفورة في قلبي وانا اراه هناك.
ثم غفى من شدة التعب.
في المنام رأى علي والده المرحوم وهو يرتدي زيه العسكري نفسه الذي دفن فيه، كان الى جانبه، رأى امامه مجموعة من المقاتلين يتقدمون صوبهما وهم يتشحون بالسواد، بدا منظرهم مفزعا، خاف علي وتراجع وهو يحمل سلاحه بضع خطوات الى الوراء. لكن والده الذي كان يتقدمه نظر اليه مبتسما وقال له :
_ﻻ تخف يا بني. فنحن لسنا ذاهبين الى حرب…نحن ذاهبان الى الجنة.
استيقظ علي على صوت صادق الذي كان يهزه بقوة.
_ماذا حدث ؟! قال علي مذعورا
_قم يا علي فداعش قادم الآن !
داعش قادم الآن، راحت هذه الجملة تتردد في عقله. داعش…اسطورة الرعب التي بدأت منذ زمن ليس ببعيد، ولكنها سرعان ما انتشرت بسرعة لما عرف عن هذا التنظيم الارهابي من وحشية وقسوة ما رأى احد مثلها من قبل.
عمت الفوضى. جنود يركضون، جنود اخذوا اماكنهم استعدادا للقاء العدو، وآخرون يجهزون انفسهم بالسلاح والعتاد. القلق والخوف يخيمان على المعسكر. كان هناك شيء ناقص…بالاحرى احد ناقص. القائد ! اين القائد ؟!
_لقد فر قائدنا يا علي. قالها صادق بأسى وهما يجهزان نفسيهما للمعركة : فر في الصباح الباكر وترك هذا. ثم اشار بيده جانبا، لقد كان زي قائدهم العسكري ! خلعه فارا بروحه، تجرد من امانة اهداها الوطن اياه. أيتخلى الجندي عن وطنيته منذ اول تحد له بهذه السهولة ؟! واي جندي…انه القائد الذي لطالما اتحفهم بخطاباته عن البطولة والحماسة والتضحية، باتوا متأكدين الآن انه لم يمتلك تلك الصفات قط.
بدأ الاحباط يتسلل الى قلوب البعض، فكروا بالعدو المتربص بهم، بديارهم واهلهم المنتظرين، بقائدهم المنهزم، فكروا بأن يحذوا حذوه ولكن ﻻ، لقد فات الآوان وﻻ مجال للتراجع.
مع سماعهم صوت اطلاق اول عيار ناري، هتف احدهم :
_هلموا ايها الاخوة ! انه يومنا، اما النصر واما الشهادة. عاش الوطن !
فصاحوا معا بصوت واحد ترتعد له القلوب “عاش الوطن !”
بدأت المعركة، ابناء العراق الغيارى ضد مجرمي داعش، المسلم ضد من يدعي الاسلام، اشبال فتية ضد ذئاب متعطشة للدماء، الخير والشر التقيا في تلك الارض، يتقاتلان حتى الموت.
هب علي ورفيقه مع الجنود وبدئا اطلاق النار على العدو. ابلت المجموعة القابعة في معسكرها المتين بلاء حسنا، فاوقعوا خسائر كثيرة في الارواح من الجانب الآخر المتقدم في ارض مكشوفة، اﻻ ان اعداد مقاتلي داعش اخذت بالتزايد وهم يتقدمون بسياراتهم من كل حدب وصوب، فبات من الصعب القضاء عليهم جميعا، خصوصا مع تناقص ذخيرة الجنود. ولكنهم صمدوا وقاتلوا بعزم. كانت لحظات ينبغي ان يخلدها التاريخ في ابهى صورة. بدا ذلك المشهد سينمائيا، وهو يعيدنا بالذاكرة الى صرخات الويندول من بين الضباب وهم يتقدومون صوب المملكة التي يحميها (13) محاربا.
مقاتلون تشمئز النفس من قبح منظرهم، جاؤوا من بلدان عديدة بإسم الدين ليحققوا احلاما سرابية رسمها لهم من يحركهم كالدمى كما يشاء، يذبحون الرجال، يستحيون النساء، ويقتلون الاطفال دون ان يرف لهم جفن. كان حريا بالمسلمين الذين ما اجتمعت كلمتهم يوما، ان يتحدوا الآن كاخوة كما بين لهم دينهم، من اجل التصدي لهؤﻻء القتلة المأجورين.
مضت ساعة ونصف مذ بدأت المعركة، بدأ الارهاق جليا على الجنود الشباب. وهم في غمرة قتالهم، دوى صوت انفجار شديد في الطرف الخلفي للمعسكر. لقد تمكن مقاتلو داعش من تدمير الجدار بقنبلة. فوجئوا بهذه المناورة التي لم يعدوا لها العدة. اصبحوا الآن وجه لوجه مع داعش. راح الجنود يتساقطون هنا وهناك تحت وابل من الرصاص. تقدم صادق نحو صفوف العدو تدفعه شجاعته، فحاول علي منعه ولكنه لم يفلح، قتل رفيقه اربعة مقاتلين من داعش قبل ان يسقط شهيدا. حدث ذلك على مرأى من علي الذي اخذ يصرخ مذعورا مناديا رفيقه، شعر بقلبه يكاد يتمزق مع كل رصاصة يتلقاها جسد صادق. حاول الوصول اليه قبل ان يتحول الى اشلاء تحت اقداهم ولكنه كان بعيدا عنه ولم يتمكن من ذلك.
ادركوا انه لم يعد بالامكان الصمود امام تلك الذئاب المفترسة. وقبل ان يفنوا جميعا، قرروا رفع راية الاستسلام…انتهت المعركة.
كبل مقاتلو داعش الجنود وعصبوا اعينهم فباتوا ﻻ حول لهم وﻻ قوة، ثم عادوا فاطلقوا النار على الجثث المتنائرة لكي يتأكدوا من موت الجميع.
طرحوهم ارضا الى جانب بعضهم، وراحوا يضربونهم بالسياط حتى تمزقت ملابسهم وسالت من اجسادهم الدماء. يضربونهم وهم يطلقون عليهم الشتائم بلهجات متعددة بدت لهم بعيدة كل البعد عن لهجتهم العراقية. وليت الامر انتهى على ذلك الحال، بل تركوهم ممددين على الارض طيلة فترة الظهيرة، واشعة الشمس تفتك باجسادهم المدماة، كان الموت اهون عليهم مما هم فيه. اشتد عليهم العطش فراح بعضهم ينادي اولئك القتلة لعلهم يرحمونهم بشربة ماء. خرج احدهم من وكره وقد بدا مستاء من صراخ الجنود. كان يحمل قنينة ماء بيده، خاطبهم باستعلاء وغضب :
_أتريدون الماء ايها الكلاب ؟! خذوه.
ورش الماء عليهم حتى نفد.
تحسس علي الذي كان يعاني من جراح دامية برودة قطرات الماء وهي تتساقط على وجهه. اي قسوة يحملها هؤﻻء ؟ فكر في نفسه : ﻻ شك انهم احفاد بني امية الذين منعوا الماء عن سبط رسول الله (ص) وعياله. ما اشبه اليوم بالامس.
كانت جراحه تؤلمه بشدة. راودته افكار متضاربة، كانت صورة رفيقه المضرج بدمائه ﻻ تفارق مخيلته، تمنى لو انه سقط شهيدا الى جانبه على ان يقاسي كل هذا العذاب. ثم تذكر والدته واخيه، تخيلهما جالسين على عتبة الدار ينتظران قدومه، بكى وانتحب بشدة لفترة طويلة حتى غلبه التعب فغمضت عيناه.
قاربت شمس ذلك اليوم الأحمر على المغيب. رش عليهم احد المقاتلين بعض الماء الذي امتزج ببرودة نسيم الغروب ليوقظ من كان نائما. ظلام دامس يلف ابصارهم وقلوبهم، ﻻ يستطيعون رؤية اعدائهم سوى انهم يستدلون عليهم من روائحهم النتنة. من بعيد سمع علي صوت احدهم وهو يوجه كلامه الى البقية بصوت آمر، ولكنه لم يميز كلماته. بعدها تقدم نحوهم احد المقاتلين بخطى ثقيلة متسارعة، وخاطبهم قائلا :
_ﻻ شك انكم تتألمون الآن ايها الكفار. انتم تستحقون اكثر من ذلك لأنكم حاربتم جيش الخليفة. انا فخور لأنني سوف ارسلكم بسلاحي هذا الى نار جهنم ليعذبكم الله اشد العذاب…الله اكبر !
“الله اكبر”…انطلق تكبير داعش وانطلقت معه اول رصاصة، الرصاصة التي ستنقل ارواحهم الطاهرة من عذاب الدنيا الى نعيم الآخرة. راح المجرم يطلق عليهم الرصاص واحدا تلو الآخر.
خفق قلب علي بسرعة عندما ادرك اقتراب نهايته. في تلك اللحظات القليلة التي حالت بينه وبين رصاصة قدره، رأى ارواح رفاقه وهي تخرج من اجسادهم لتتلقاها الملائكة بالبشرى.
تقدم المقاتل نحوه، ولم يكد علي يكمل الشهادتين حتى احس برصاصة ﻻفحة قد اخترقت جسده لتطلق روحه نحو السماء وترتفع آمنة مطمئنة الى بارئها.
ثم غابت الشمس وانقطعت انفاسهم.
كان علي ينظر اليها بعينين تنطقان بالمحبة والحنين، جالسة هي كعادتها تنظر الى الطريق الذي سار فيه ابنها آخر مرة، داعية الله ليعيده اليها سالما. طافت روحه بين يديها، كم تمنى لو شعرت به قريبا منها.
“الله اكبر…الله اكبر”
تردد صوت المؤذن في الأجواء، انقضى يوم آخر ولكن ابنها لم يعد، قامت والدة علي تصلي المغرب…اما علي، فقد صلى مع الملائكة.
—