ترجمة: صالح الرزوق
تسلقت شیكا من نافذة المتجر أولا ثم أمسكت بالأباجورات بينما كانت المرأة تتسلق لتدخل بعدها. كان المتجر يبدو كأنھ مھجور قبل أحداث الشغب بفترة طویلة . صفوف الرفوف الخشبیة مجللة بغبار شاحب ، و هناك كومة من العلب المعدنیة في الزاویة . إنھ متجر صغیر، أصغر من مدخل بیت شیكا. بعد أن دخلت المرأة صدر أنین من الأباجورات حینما أفلتتھ شیكا. كانت یدا شیكا ترتعشان ، وبطتا ساقیھا تلتھبان بسبب الركض المستمر من السوق بصندل لھ كعبان عالیان . رغبت لو تشكرالمرأة ، لأنھا أوقفتھا بعد أن مرت بھا، ولأنھا أخبرتھا ” لا یمكن المرور من ھذا الطریق !”، ولأنھا قادتھا إلى ھذا المتجر الفارغ حیث تمكنتا من الاختباء . ولكن قبل أن تجد الفرصة لتقدم لھا الشكر ، قالت المرأة وھي تمد یدھا و تحاول أن تلمس عنقھا العاري: “ لقد فقدت عقدي وأنا أعدو “.
قالت شیكا :” لقد تخلیت عن كل شيء . كنت أشتري البرتقال ، ولكن رمیت البرتقالات وحقیبة یدي أیضا “. ولم تخبرھا أن حقیبة الید من ماركة بیربیري الأصلیة وقد اشترتھا والدتھا خلال رحلة قامت بھا مؤخرا إلى لندن.
تنھدت المرأة وتصورت شیكا أنھا مھمومة الآن بعقدھا، وربما ھو من حبات بلاستیك مضمومة في خیط . كان بمقدور شیكا أن تخمن أنھا امرأة من الشمال، حتى من غیر لكنة الھوسا الواضحة في كلامھا، ومن وجھھا الرفیع، ومن ارتفاع وجنتیھا بشكل غیر شائع ھنا.
و خمنت أنھا مسلمة، لأنھا كانت ترتدي الوشاح . إنھ یتدلى الآن من عنق المرأة، ولكن لعلھ كان من قبل ملفوفا كیفما اتفق حول وجھھا، ویستر أذنیھا. وشاح طویل بلون أسود وقرمزي خفیف، ولھ جمالیات الأشیاء الرخیصة . وتساءلت شیكا بسرھا ھل المرأة تنظر إلیھا بنفس الطریقة وتخمن أنھا من الإغبو ومسیحیة، و ھذا بالاعتماد على شكلھا الناعم ومسبحتھا الفضیة التي تصر أمھا على أن تحملھا دائما. فیما بعد سوف تعلم شیكا، من حوارھا مع المرأة، أن مسلمي الھوسا یضربون مسیحیي الإغبو بالسواطیر، ویرجمونھم بالحجارة. ولكن في البدایة قالت لھا: ” شكرا لھذا التحذیر . بدأ كل شيء بسرعة و شرع الجمیع بالركض وأصبحت فجأة لوحدي، ولم أدرك ماذا یتوجب علي أن أفعل . شكرا لك .”
ردت المرأة تقول بصوت خافت كأنھ ھمسات : ” ھذا مكان آمن ، لن یفكروا بالحضور إلى حانوت صغیر جدا، إنھم یقتحمون الصالات والأسواق الكبيرة”.
قالت شیكا: ” فعلا”. ولكن لم یكن لدیھا دافع لتوافق أو تعترض . لیست لدیھا أیة خبرة بأحداث الشغب : أقرب تجمع حضرتھ كان مظاھرة في الجامعة لتأیید الدیمقراطیة وھذا منذ عدة أسابیع، حیث أمسكت بیدھا غصنا أخضر ناصعا وشاركت بالھتافات التي تقول ” : لینصرف العسكر! لیذھب أباتشا ! إلى الدیمقراطیة حالا ! “. زد على ذلك أنھا ما كانت ستشارك في التجمع لو لم تكن شقیقتھا ننیدي في لجنة التنظیم .كانت تنتقل بین بیوت الطلبة لتوزع المنشورات ولتشرح للطلاب أھمیة ” أن یكون لھم صوت مسموع “.
كانت یدا شیكا ما تزالان ترتعشان . قبل نصف ساعة، كانت في السوق مع ننیدي . كانت تشتري البرتقال، وقد ذھبت ننیدي لما ھو أبعد من ذلك لتشتري الفستق السوداني، ثم بدأ صیاحللتذير باللغة الإنكلیزیة وبلغة البیدغین و الھوسا و الإغبو . وكان مفاده ” إنھ الشغب !. المشاكل قادمة ! آه. لقد قتلوا رجلا “. ثم شرع الناس بالركض والتدافع، حتى أنھم قلبوا عربات ملیئة بالیام، وتركوا خلفھم الخضار الطریة التي ساوموا للتو لشرائھا. شمت شیكا رائحة العرق والرعب وأطلقت ساقیھا للریح، عبر الشوارع العریضة ، حتى وصلت إلى زقاق ضیق، حیث حاصرها الخوف، و شعرت أنھ غیر آمن، ثم التقت بھذه المرأة.
وقفت بصمت ھي والمرأة في المتجر لفترة، كانت تنظر من النافذة التي تسلقتا منھا، كانت أباجوراتھا الخشبیة تئن وھي تتأرجح في الھواء . كان الشارع ھادئا أول الأمر، ثم سمعتا أصوات أقدام تعدو . ابتعدتا كلتاھما غریزیا عن النافذة، و كان بوسع شیكا أن تشاھد امرأة ورجلا یسیران قدما، المرأة ترفع مئزرھا لما فوق الركبتین، وھناك طفل مربوط على ظھرھا. وكان الرجل یتحدث بالإغبو بلھجة سریعة و كل ماسمعتھ شیكا هو : “ ربما ذھبت إلى بیت عمھا “.
قالت المرأة : “ فلنغلق النافذة إذا “.
أغلقت شیكا النافذة، وھكذا أصبح الغبار في الغرفة فجأة كتیما وبمقدورھا أن تراه، ربما بسبب توقف الھواء عن التدفق إلى الداخل . كانت الغرفة مزدحمة و لھا رائحة كما ھي الحال في الشوارع في الخارج، حیث تجد رائحة دخان تراه في السماء، دخان یھب خلال أعیاد المیلاد عندما یلقي الناس في النار أجزاء من الماعز فیحترق الشعر و ینفصل عن الجلد. كانت الشوارع التي مرت بھا، بفزع أعمى ومن غیر معرفة بالاتجاه الذي ذھبت فیھ ننیدي، ومن غیر معرفة مؤكدة عن أحوال الرجل الذي یركض معھا، ھل ھو صدیق أم عدو، ومن غیر یقین ھل یجب أن تتوقف وتحمل واحدا من الأطفال الخائفین الذین انفصلوا عن أمھاتھم أثناء الركض، وحتى دون علم واضح حول ھویة من حولھا و من یعتدي على من.
فیما بعد شاھدت ھیاكل السیارات وھي تحترق، والفجوات المسننة في نوافذھا وواجھاتھا الزجاجیة، وتصورت كیف أن ھذه السیارات التي تلتھب تترك أ ثرا على المدینة كأنھا نیران ولیمة ، كانت شاھدة صامتة على أشیاء متعددة . وھكذا أدركت أن كل شيء بدأ في موقف السیارات، حینما مر رجل بسیارتھ فوق نسخة من القرآن الكریم كانت بدورھا على الأرض بجانب الطریق، وتبین أن الرجل من المسیحیین الإغبو . و بالصدفة كان ھناك طوال الیوم رجال یلعبون النرد وھم من المسلمین، و قد جرّوا الرجل من شاحنتھ الصغیرة، وبتروا رأسھ بضربة ساطور واحدة، وحملوه إلى السوق، لیطلبوا من الآخرين الانضمام إلیھم، لأن ھذا الخائن اعتدى على الكتاب المقدس . تخیلت شیكا رأس الرجل ، و شكل جسمھ الذي ترمد بالموت، ثم تقیأت وانھكت قواھا حتى شعرت بالألم یعصر معدتھا.
سألت المرأة: ” ھل بمقدورك أن تشمي رائحة الدخان حتى الآن ؟“.
قالت المرأة : ” نعم“.. وفكت عقدة مئزرھا الأخضر، ومدتھ على الأرض المغبّرة . كانت ترتدي بلوزة مع قطعة سوداء براقة تمزقت من أطرافھا، ثم أضافت تقول : ” تعالي واجلسي “.
نظرت شیكا إلى خیوط المئزر القدیم فوق الأرض، ربما ھذا واحد من إثنین تمتلكھما المرأة، ونظرت إلى تنورتھا القطنیة وقمیصھا الجدید الذي یحمل صورة لتمثال الحریة ، كانت اشترت كلیھما حینما سافرت مع ننیدي لعدة أسابیع في الصیف إلى بیت أقارب یقطنون في نیویورك. وقالت: ” كلا، وإلا اتسخ مئزرك”.
قالت المرأة: ” اجلسي، هيا . نحن ننتظر ھنا منذ مدة “.
” ھل لدیك فكرة كم سنبقى ھنا ؟ “.
” حتى نهاية هذه اللیلة أو إلى صباح الغد“.
رفعت شیكا یدھا إلى جبینھا، وكأنھا تتلمس أثر نوبة من الملاریا . كانت راحة یدھا باردة وھذا بالعادة یریحھا، ولكن في ھذه المرة كانت رطبة و متعرقة.
قالت: ” تركت شقیقتي وھي تشتري الفستق السوداني. ولا أعلم أین ھي الآن “.
” لا شك أنھا تبحث عن مكان آمن “.
” ننیدي “
” ماذا ؟“
” شقیقتي. اسمھا ننیدي”.
كررت المرأة وراءھا: ” ننیدي “. وكانت لھجة الھوسا تغلف الاسم الذي ھو بلغة الإغبو بغطاء رقیق.
و لاحقا ستمشط شیكا برادات المستشفیات بحثا عن ننیدي، وستذھب إلى مكاتب الصحف وستعرض صورة لھا برفقة ننیدي في حفل زفاف مضى علیھ أسبوع واحد، الصورة التي تبدو فیھا بابتسامة بلیدة على وجھھا لأن ننیدي قرصتھا قبل التقاط الصورة مباشرة، وكانت كلتاھما ترتدیان فیھا عباءة تركیة مناسبة بلا أكتاف . وسوف تلصق نسخا عديدة من صورتھا على جدران السوق وقرب المخازن . ولكن لن تجد أثرا لننیدي . لن تعثر على ننیدي أبدا.
قالت للمرأة : ” قدمت مع ننیدي إلى ھنا في الأسبوع الماضي لزیارة عمتي . نحن في عطلة من المدرسة “.
سألت المرأة: ” إلى أي مدرسة تنتسبان ؟”.
” نحن في جامعة لاغوس. أنا أدرس الطب. وننیدي تدرس العلوم السیاسیة”.
فكرت شیكا: ھل تعلم المرأة معنى الانتساب إلى جامعة . ثم فكرت، أیضا، ھل ھي تتذكر المدرسة لتضع نفسھا في إطار حقیقي ھي بحاجة إلیھ، إطار یؤكد أن ننیدي لیست مفقودة بسبب الشغب، وأنھا آمنة في مكان ما، وربما ھي تضحك الآن بطریقتھا المرحة، وبفم مفتوح على وسعھ ، ولعلھا مشغولة في نقاش سیاسي اعتادت علیھ . مثل : كیف لحكومة الجنرال أباتشا أن تستخدم السیاسة الخارجیة لتمنح نفسھا الغطاء الشرعي اللازم أمام البلدان الإفریقیة الأخرى . وكیف أن شعبیة الشعر الأشقر ھي نتیجة مباشرة للاستعمار البریطاني.
قالت شیكا : “ أنفقنا ھنا أسبوعا واحدا مع العمة، نحن لم نشاھد كانو من قبل على الإطلاق“. ثم انتبھت إلى حقیقة أفكارها . كان تفكیرھا یسیر على النحو التالي : لن تتضرر ھي وشقیقتھا بالشغب. ھذا شغب تقرأ عنھ في الصحف . شغب من النوع الذي یعیق غیرھما .
سألتھا المرأة: ” ھل تعمل عمتك في السوق ؟”.
رفعت شیكا یدھا إلى جبینھا مجددا وقالت: “ كلا، إنھا موظفة. ھي مدیرة أعمال شركة”.
انحنت وجلست، أقرب ما یكون للمرأة، وھذا لیس من تصرفاتھا الطبیعیة، واستراحت تماما فوق المئزر . اشتمت رائحة المرأة، رائحة خشنة ولكن نظیفة مثل لوح صابون تستخدمھ البنات في المنازل لغسیل ملاءات الأسرة.
قالت المرأة : “ عمتك في مكان آمن “.
فقالت شیكا: “ نعم. ولكن لا أزال غیر مقتنعة . كیف یحدث ھذا الشغب “. كانت المحادثة تبدو لھا سوریالیة. و كان لدیھا شعور كأنھا تراقب نفسھا.
كانت المرأة تحدق أمامھا. كل شيء حولھا طویل و رفیع، ساقاھا الممدودتان أمامھا، أناملھا ذات طلاء الأظافر بلون الحناء، وقدماھا. ثم قالت أخیرا: ” ھذا من عمل الشیطان .”
تساءلت شیكا: ھل ھذا كل ما یخطر في بال المرأة عن الشغب، وھل ھي لا ترى فیھ غیر الشر . وتمنت لو أن ننیدي ھنا. كانت تتخیل كیف تشرق عینا ننیدي اللتان لھما لون الكاكاو، وكیف تتحرك شفتاھا بسرعة ، وھي تشرح أن الشغب لا یجري في الفراغ، و أن الدین والعرق غالبا لھما مضمون سیاسي یخدم أمن الحاكم طالما المحكوم جائع ویقتل أمثالھ. شعرت شیكا بثقل الخطیئة لأنھا شكت بالمرأة، وتساءلت: ھل إن عقل ھذه المرأة واسع بما فیھ الكفایة لتفھم أي شيء من ذلك .
سألت المرأة : “ ھل أنت تشاھدین في المدرسة أشخاصا یعانون من ویلات المرض الآن ؟ “.
حولت شیكا نظراتھا بسرعة كي لا تشاھد المرأة علامات الدھشة على قسماتھا. وقالت :” في دراستي السریریة ؟ . نعم، بدأت العام الماضي . قابلنا مرضى في المشفى الجامعي “. و لم تعلن لھا أنھا غالبا تشعر بنوبة من الغموض، وأنھا تتوارى خلف مجموعة من ستة أو سبعة طلاب لتتفادى نظرات المدرب، على أمل أن أحدا لن یطلب منھا أن تفحص مریضا وتقدم تشخیصھا .
قالت المرأة: ” أنا تاجرة. أبیع البصل “.
أصاخت شیكا السمع لتلاحظ أیة سخریة أو استفسار في نبرة الصوت، ولكن لم تجد شیئا.
كان الصوت ثابتا ومنخفضا، كما یجدر بامرأة بسیطة تخبر عن أحوالھا.
ردت شیكا تقول : ” أتمنى لو أنھم لم یحطموا منصات السوق “. لم یخطر على بالھا شيء آخر تقولھ.
فقالت المرأة: ” إنھم یحطمون السوق كلما اندلع الشغب”.
رغبت شیكا لو تسأل المرأة : كم شغبا شاھدت في حیاتھا ولكن لم تفعل . لقد قرأت عن الآخرین في الأیام الماضیة ما مفاده : المسلمون الھوسا یھاجمون المسیحیین الإغبو، وأحیانا یلجأ المسیحیون الإغبو إلى حملات انتقامیة . لم تكن تود أن تدخل في حوار تضطر فیھ إلى تسمیة الأشیاء بمسمیاتھا.
قالت المرأة: ” حلمتا ثدیي تحرقان مثل الفلیفلة”.
” ماذا ؟ “.
” حلمتا ثدیي تحرقان كالفلیفلة”.
قبل أن تبتلع شیكا المفاجأة الخفیفة ببلعومھا وتعلق بعبارة ما، سحبت المرأة بلوزتھا ، و فكت الخطاف الأمامي لحمالة الأثداء السوداء القدیمة، وأخرجت النقود، أوراق مالیة من فئة عشرة وعشرین نائیرا، كانت مطویة بحرص في حمالة أثدائھا، قبل أن تحرر كلا ثدییھا بالكامل.
و ھي تحضن بكفیھا الثدیین وتمیل على شیكا كأنھا تقدم لھا عرضا مغریا قالت : ” یحرقان تماما مثل الفلیفلة “. بدلت شیكا مكانھا. و تذكرت التمارين السریریة في الأسبوع الماضي : كان الممرن الرسمي الدكتور أولونلوی یرغب من جمیع الطلبة دراسة المرحلة 4 من دقات قلب صبي صغیر، وكان ھذا یراقبھم بعينيه المتطفلتين . طلب منھا الدكتور أن تبدأ أولا فتصببت بالعرق الغزیر، وفرغ ذھنھا من كل شيء، ولم یعد بوسعھا أن تدرك أین ھو القلب بالضبط . وأخیرا وضعت یدین ترتعشان على الطرف الأیسر من حلمة صدر الولد، كان الصوت ب ررررر – ب رررر – ب رررر یدل على تدفق الدم بالاتجاه المعاكس، كان ینبض تحت أناملھا، وھذا أحرجھا ، فقالت للولد :” آسفة، آسفة “ ، مع أنھ كان یبتسم لھا.
كانت حلمتا المرأة لا تشبھان حلمتي الصبي الصغیر . كانتا متشققتین، وصلبتین وبلون بني داكن . وحولھما دائرة بلون أخف. نظرت شیكا إلیھما بتمعن، ومدت یدیھا ولامستھما. ثم سألت: ” ھل لدیك طفل ؟”.
” أجل، بعمر سنة واحدة “.
” حلمتاك جافتان ، ولكن لیستا ملوثتین . بعد إرضاع الولد، یجب غسلھما ببعض المستحضرات . وأثناء الرضاعة ، یجب أن تتأكدي أن الحلمة وما حولھا داخل فم الرضیع”.
نظرت المرأة إلى شیكا وقالت: ” ھذه أول معاناة لي. ولكن لدي خمسة أولاد”.
قالت شیكا: ” حصل ذلك مع والدتي . تشققت الحلمات بعد ولادة الطفل السادس، ولم تعلم السبب، حتى أخبرتھا إحدى الصدیقات بضرورة ترطیب الحلمتین “. كانت قلیلا ما تكذب، ولكن في ھذه المرات القلیلة، كان وراء الأكاذیب أسباب و دوافع . وتساءلت ما الغایة من ھذه الكذبة، أن ترسم خلفیة لأیام منصرمة من وحي الخیال لیكون للمرأة شبیھ ، كانت ھي وننیدي و حیدتي أمھا. أضف لذلك، كانت الوالدة تراجع دائمابالهاتف الدكتور إیغبوكوي، الذي تلقى التدریب والخبرة في بریطانیا .
سألت المرأة: ” بماذا كانت تدھن أمك حلمتیھا ؟”.
” بزبدة الكاكاو . وكانت الشقوق تشفى بسرعة “.
” ماذا ؟. حسنا، سوف أحصل علیھا و أستفید منھا “. ومحضت المرأة شیكا بنظراتھا لفترة، كأن ھذا اللقاء خلق بینھما رابطة . داعبت وشاحھا مقدار لحظة من الزمن، وأضافت: ” أنا أبحث عن ابنتي . ذھبت معھا إلى السوق الیوم صباحا. إنھا تبیع الفستق السوداني عند موقف الباص . ھناك یوجد عدد من الزبائن . ثم اندلع الشغب و بدأت أبحث في أطراف السوق عنھا”.
سألت شیكا، وھي تعلم مقدار الغباء في ھذا السؤال: ” والطفل ؟”.
ھزت المرأة رأسھا بشيء من نفاذ الصبر، وربما الحنق الذي التمع في عینیھا، وقالت : ” ھل لدیك مشكلة في السمع ؟. ألا تسمعین ماذا أقول ؟”.
قالت شیكا: ” آسفة؟”.
و شرعت المرأة بالصراخ : ” الولد في البیت ! ولكن ھذه ھي أول بناتي . حلیمة “. وبكت بصوت خافت، وكان كتفاھا یھتزان، دون أن تصل إلى النحیب المرتفع الذي تعرف شیكا تفاصیلھ، إنھ بكاء من النوع الذي یلفت انتباھي ویریحني لأنني لا أستطیع أن أتعامل مع ھذه المشكلة لوحدي . كان بكاء المرأة خاصا ، كما لو أنھا تحمل معھا طقسا ضروریا لا یتورط فیھ سواھا.
فیما بعد، حینما تمنت شیكا لو أنھا لم تقرر مع ننیدي أن تستقلا سیارة عامة إلى السوق لرؤیة بقایا مدینة كانو القدیمة التي تمتد خارج إطار حي العمة، تمنت في نفس الوقت لو أن حلیمة ابنة ھذه المرأة علیلة أو مرھقة أو كسولة بحیث لا تحاول بیع الفستق السوداني في ھذا الصباح.
مسحت المرأة عینیھا بطرف بلوزتھا وقالت : ” لیحفظ الله شقیقتك وحلیمة في مكان آمن “. ولأن شیكا غیر متیقنة ماذا یقول المسلمون لإبداء موافقتھم ھزت رأسھا ببساطة – لا یمكن أن تكون الموافقة بعبارة ” آمین فقط ” .
شاھدت المرأة صنبورا صدئا في زاویة المتجر قرب العبوات المعدنیة، ربما حیث كان التاجر یغسل یدیھ أو البائعة تنظف یدیھا. ثم قالت لشیكا: ” إن المتاجر في ھذا الشارع مغلقة منذ شھور بعد أن صنفتھا الحكومة في قائمة الأبنیة المخالفة وقررت ھدمھا”.
استدارت المرأة نحو الصنبور ونظرت كلتاھما إلیھ باستغراب حینما انھمرت منھ المیاه .
كانت بنیة ومعدنیة حتى أن شیكا استطاعت أن تشم الرائحة على الفور . ومع ذلك إن التیار غیر مقطوع.
قالت المرأة : ” أنا أغتسل لأصلي “. ومال صوتھا إلى الانخفاض، ابتسمت لأول مرة فبرزت أسنانھا المتساویة، ولكن كان الصف الأمامي مصبوغا بلون بني . وغاصت غمازتاھا في وجنتیھا، بعمق یقدر بنصف أنملة، وھذا غیر معتاد بالنسبة لوجھ ضامر جدا. غسلت المرأة بالصنبور یدیھا ثم وجھھا على نحو أخرق، ثم تخلصت من وشاحھا الذي يستر عنقھا و وضعتھ على الأرض . صرفت شیكا نظرھا. كانت تعلم أن المرأة تركع الآن على ركبتیھا وتواجھ مكة ، ولكنھا لم تتأكد . كانت ھذه محنة شخصیة ، مثل دموع المرأة، و رغبت لو تتمكن من مغادرة المتجر حالا . أو لعلھا تصلي ھي أیضا، وربما تتحول للإیمان بالله ، وترى حضوره غیر المعلن في الھواء الراكد داخل المتجر .
ھي لا تتذكر متى لم تكن فكرتھا عن الله غائمة ، مثل انعكاس بخار على سطح مرآة في حمام ، وھي لا تتذكر أبدا أنھا حاولت تنظیف ھذه المرآة.
لامست المسبحة التي في یدھا والتي تعلقھا أحیانا بأصبعھا السبابة وأحیانا بالأصبع الصغیر و ذلك لإرضاء أمھا. كانت نیندي لا تضعھا منذ فترة، منذ قالت من وراء ضحكتھا العمیقة :” المسابح أشیاء خارقة حقا، وأنا لا أریدھا، شكرا لك “.
في وقت آخر كانت العائلة تعقد مناولة لمرات متكررة من أجل سلامة ننیدي، ولكن لیس من أجل إعادة روح ننیدي إلى جادة الصواب . شرعت شیكا تفكر بھذه المرأة التي تصلي و رأسھا یلامس غبار الأرض، وبدلت رأیھا بخصوص إخبار الوالدة أن المناولة مجرد ھدر للنقود، أو عبارة عن تبرع للكنیسة لا أكثر.
حینما نھضت المرأة، شعرت شیكا بالقوة على نحو غریب . مرت أكثر من ثلاث ساعات تصورت خلالھا أن الشغب قد ھدأ، وأن المشاغبین ابتعدوا . وتوجب علیھا أن تغادر ، وأن تذھب إلى البیت وتتأكد أن نیدي والعمة بحالة جیدة.
قالت شیكا: ” یجب أن أنصرف “.
قالت المرأة وملامح نفاذ الصبر على محیاھا : ” الطرقات غیر آمنة “.
” أعتقد أنھم ذھبوا. و لیس بوسعي أن أشم أي رائحة دخان بعد الآن “.
لم ترد المرأة ، وجلست على المئزر . راقبتھا شیكا لفترة، ودب الیأس في قلبھا دون أن تعلم لماذا. ربما كانت ترغب ببركات المرأة، شيء من ھذا القبیل . سألت: ” كم یبعد بیتك ؟”.
” كثیرا. أنا أستقل حافلتین “.
قالت شیكا: ” سأحضرمع سائق عمتي وأصحبك من البیت “.
نظرت المرأة بعیدا. سارت شیكا ببطء نحو النافذة وفتحتھا. و توقعت أن تسمع المرأة لتطلب منھا أن تتوقف و أن تعود وأن لا تتھور .و لكن المرأة لم تنبس بحرف وشعرت شیكا بالعینین الھادئتین على ظھرھا حینما تسلقت النافذة.
كانت الشوارع صامتة . الشمس تغیب، وفي عتمة المساء نظرت شیكا حولھا، لم تكن قد عزمت في أي اتجاه تسیر . و تمنت بجوارحھا لو تحضر سیارة عامة ، بقوة السحر ، بالحظ ، بمشیئة الله . ثم تمنت لو أن ننیدي داخل السیارة وأنھا تسألھا في أي جحیم كنت، و إنھم جمیعا قلقون علیھا. لم تبلغ شیكا نھایة الشارع الثاني، قرب السوق، حینما التقت بالجثمان. لم تشاھده بوضوح، فاقتربت منھ حتى شعرت بحرارتھ . كان الجثمان قد احترق من مدة وجیزة . وكانت الرائحة تصیب بالغثیان، إنھا رائحة اللحم المشوي، رائحة لا تشبھ شیئا تعرفھ.
و لاحقا حینما ذھبت شیكا وعمتھا للبحث في طرقات كانو مع رجل شرطة جلس في المقعد الأمامي من سیارة عمتھا المكیفة ، شاھدت جثثا عدیدة، معظمھا محترقة، كانت ممدودة بكامل قاماتھا على كلا طرفي الطریق، وكأن أحدا دفعھا بھذا الاتجاه، ثم مدھا باستقامة. وسوف تنظر إلى إحدى تلك الجثث، عاریة ، متصلبة ، الوجھ نحو الأسفل ، وإن ھذا سوف یصدمھا لأنھ لم یعد بوسعھا أن تقرر من نظرة واحدة إلى الجسد المتفحم ھل ھذا الرجل المحترق جزئیا من الھوسا أم من الإغبو، ھل ھو مسلم أم مسیحي . وسوف تصغي إلى إذاعة البي بي سي وتسمع تفاصیل الموت والشغب – كان صوت المذیع یقول : ” إنھا أحداث دینیة ذات خلفیات عرقیة “. و سوف تضرب المذیاع بالجدار وسوف تشعر بتیار من الغضب الأحمر الداكن ضد ھذه التعابیر الجاھزة التي اختصرت المشكلة وكل تلك الجثث بكلمات قلیلة .
كانت الحرارة الصاعدة من الجثمان الحالي قریبة منھا، حاضرة جدا و حارة ، حتى أنھا استدارت على عقبیھا وعادت إلى المتجر . شعرت بألم قوي في الجزء السفلي من ساقھا و ھي تعدو . وصلت إلى المتجر و قفزت على النافذة، واستمرت تحاول مع النافذة حتى فتحتھا لھا المرأة.
جلست شیكا على الأرض ونظرت من قرب، في ھذا الضوء الخافت، إلى خیط الدم الذي ینزف من أسفل ساقھا . كانت عیناھا تسبحان بلا ھوادة في رأسھا . كان یبدو غریبا، ھذا الدم، كأن أحدا دھنھا بعصارة البندورة المكثفة.
قالت لھا المرأة بصوت قلق : ” ساقك. علیھا دماء “. ثم بللت طرف الوشاح بماء الصنبور و نظفت الجرح من ساق شیكا، ثم ربطت الوشاح المبلول حول ساقھا، وعقدتھ ببطن الساق.
قالت: ” شیكا شكرا لك “.
” أنت بحاجة لمرحاض “.
” مرحاض ؟ كلا ؟”.
قالت لھا المرأة : “ العلب ھناك ، نحن نستخدمھا بدلا من المرحاض “. و أخذت علبة إلى الجزء الخلفي من المتجر ، وسرعان ما ملأت أنف شیكا تلك الرائحة، و كانت مختلطة بنكھة الغبار و الماء المعدني، وھذا خفف من وزن رأسھا وشعرت بالغثیان.
قالت المرأة من ورائھا: ” عفوا. آه. معدتي فاسدة . لقد توالت المآسي الیوم “. بعدئذ، فتحت المرأة النافذة و وضعت العلبة في الخارج، وغسلت یدیھا بالصنبور . ثم عادت و جلست إلى جانب شیكا بصمت . وبعد فترة سمعتا أصواتا تنشد من بعید، كانت كلمات لم تفھمھا شیكا. كان المتجر مظلما تماما حینما تمددت المرأة على الأرض ، القسم العلوي من جسمھا على المئزر والسفلي لیس علیھ.
و لاحقا، سوف تقرأ شیكا في الغاردیان أن : ” لخطابات مسلمي الھوسا الشمالیین تاریخا من العنف ضد غیر المسلمین “، و سوف تنسى أنھا فحصت و تحسست نعومة حلمتي صدر امرأة صدف أنھا ھوسا مسلمة.
بصعوبة نامت شیكا في اللیل . كانت النافذة مغلقة بإحكام، والھواء راكدا، أما الغبار فھو سمیك ونفّاذ ویزحف في خیاشیمھا. كانت ترى مؤخرة الجثة عبر النافذة و ھي تنبثق ضمن دائرة من النور التي تشیر إلیھا. و أخیرا سمعت صوت المرأة و ھي تنھض لتفتح النافذة، و لتسمح للفجر الباكر الأزرق و الخفیف بالدخول . وقفت المرأة ھناك لفترة من الزمن قبل أن تتسلق النافذة . أصبح بوسع شیكا أن تسمع صوت خطوات أشخاص یمرون. و سمعت المرأة تصیح لھا، بصوت مرتفع و واضح ، و أعقب ذلك عبارة سریعة بالھوسا لم تفھمھا شیكا. عادت المرأة إلى المتجر و قالت : ” انتھت المخاطر . و جاء أبو لیبیع المواد التموینیة، وھو بطریقھ لیفحص متجره . ویوجد في كل مكان رجال شرطة مع غاز مسیل للدموع . حتى أن الجنود قادمون . سأرحل الآن قبل أن یستفز الجنود بعض الرعاع “.
وقفت شیكا بتمھل وتمطت . كانت مفاصلھا تؤلمھا . سوف تسیر كل المسافة إلى بیت عمتھا في حي لھ بوابة ، لأن السیارات العامة و الحافلات غیر متوفرة في الطرقات، ھناك سیارات جیب عسكریة و عربات تعود لمخافر الشرطة . و سوف تلتقي بعمتھا التي تنتقل من غرفة إلى أخرى مع كوب من الماء في یدھا، و ھي تھمھم بالإغبو مرارا و تكرارا قائلة: ” لماذا طلبت منك و من ننیدي أن تقوما بزیارتي ؟ . لماذا تغشني روحي ھكذا ؟ “.
وسوف تمسك شیكا بكتف عمتھا بقوة و تقودھا إلى الكنبة.
فكت شیكا عقدة الوشاح من حول ساقھا ، و ھزتھ كما لو أنھا تنوي أن تزیل منھ بقع الدم، و أعادتھ للمرأة. و هي تقول : ” شكرا “.
قالت المرأة : ” اغسلي ساقك جیدا. وسلمي لي على شقیقتك ، والأصدقاء “. ثم وضعت مئزرھا حول خصرھا.
قالت شیكا: ” و سلمي لي أنت على أصدقائك . وكذلك على ابنك وحلیمة “. فیما بعد، و ھي تسیر إلى البیت ، حملت من الأرض حجرة ملوثة بالدم النحاسي الجاف . و قد تمسكت بھذا التذكار المخیف و ضمتھ إلى صدرھا . ثم فورا اعتقدت، و خلال لمحة و ھي تمسك بالحجر، أنھا لن تلتقي بننیدي، و أن شقیقتھا رحلت إلى الأبد . استدارت نحو المرأة و أضافت: ” ھل بوسعي أن أحتفظ بوشاحك ؟ . قد أنزف مجددا “. نظرت المرأة إلیھا لفترة قصیرة كأنھا لم تفھم ، ثم ھزت رأسھا. ربما كانت ھناك على وجھھا بدایات حزن مستقبلي، و لكنھا رسمت ابتسامة خفیفة، ابتسامة مشتتة قبل أن تعید الوشاح إلى شیكا و تستدیر لتتسلق من النافذة.
شیماماندا نغوزي أدیشي : مولودة في نیجیریا عام 1977 . درست في جامعة شرق كونیكتیكیت الحكومیة ، ثم حصلت على ماجستیر من جامعة ییل في الدراسات الإفریقیة . نشرت أول روایة لھا عام 2005 بعنوان الورود القرمزیة، وحصلت بھا على جائزة الكومونولث للكتابة . في عام 2007 حازت روایتھا( شمس شاحبة ) على جائزة أورانج . في عام 2008 حصلت على منحة ماك آرثر للمتمیزین . لها مجموعة قصصیة واحدة بعنوان ( شيء حول رقبتك ) و قد صدرت عام 2009 .
——————————————-
ظهرت هذه القصة A Private Experience للكاتبة Chimamanda Ngozi Adichie في مجموعتها الأولى ، و لكن الترجمة تمت عن الأوبزيرفيرThe Observer – 2008 ، و بالتنسيق مع موقع خاص بالكاتبة و الثقافة الإفريقية بإدارة داريا تونغا Daria Tunca.