
تعد رواية ريحون العمل الروائي الثالث للمبدعة أسمهان الزعيم وقد قدمت هذه الرواية بشكل جميل وأنيق يحيل على رمزية تشاكس القارئ بدأ من غلاف المؤلف الذي كتب أعلاه اسم الكاتبة وعنوان الرواية (ريحون ). ويعد عنوان أي نص عتبة في غاية الأهمية يجب الوقوف عليها إذ تحمل القارئ إلى فضاء المتن وبذلك فإن للعنوان أهمية بالغة في تشكيل الخطاب الروائي، خاصة أنه قد يشكل الرسالة التي يسعى المُؤلَفُ الضمني لنقلها إلى القارئ وعنوان رواية ريحون قد يحيل على صفة أو اسم شخص من شخوص الرواية وهذا الذي سيتأكد لنا بعد قراءة العمل، فريحون هو الشخصية البطلة وهو اسم مستعار إذ إنّ اسمه الحقيقي هو كامل، يقول السارد:
” و قد بلغني أنكم ابتدعتم لي لقبا وأنا في منفاي الصغير و مسحتم بذلك اسمي الشرعي القديم . فأصبحت ” ريحون ” في نظركم . وانتهى عهد اسمي القديم ” كامل الحيرة ” الذي وقعت به ردحا من الزمن رسائلي الغرامية مختصرة في حرفين ” ك . ح ” مخافة أن يقع الظرف في أيد غير يدي حبيبتي ..”
كما رسم على الغلاف خطوط تشكيلية وحروف تدعو للتأمل.
عقدت الكاتبة مع المتلقي ميثاقا حول نوعية العمل الأدبي بتسطيرها لفظ رواية على الغلاف وبذلك فإنها تصنف العمل ضمن جنس الرواية التي تعد ديوان العصر الحالي بخصائصها ومكوناتها، كما كتب على ظهر الغلاف تعريف بالكاتبة وببعض أعمالها.
تحكي رواية ريحون عن شخصية كامل الذي يعيش في حي من أحياء مدينة الرباط المغربية ، يحب فتاة الجيران وكتب لها رسالة يعبر فيها عن حبه لها إلا أن القدر شاء أن تقع في يد أخيها الذي غضب من ذلك وهدد ريحون أن لو رآه مرة أخرى في الحي سينتقم منه “إذا رأيتك ثانية في حارتنا فلا تلومن إلا نفسك”. كما تنكر له والده أيضًا بعد سماعه بالأمر وطرده من المنزل “أنا بريئ من هذا الشيطان الذي تحول إلى غاوٍ يريد السوء بصبايا حارتنا العفيفات”. وشاء القدر أن يكون هذا الطرد من الحي ومن المنزل بداية جميلة في حياة كامل (ريحون) الذي صادف شخصية دانييل وعرض عليه هذا الأخير اصطحابه الى فرنسا لإتمام دراسته هناك. وهذا ما حدث إذ ذهب ريحون الى فرنسا وأكمل دراسته الجامعية هنالك واشتغل مهندسا معماريا وامتلك شقة فاخرة بأرقى الأحياء الباريسية وعاش تجارب عاطفية مع ميراي التي كانت حصنه الحصين في بلاد المهجر إلا أن اختلاف وتضارب المعتقدات (موقفها من العرب والقضية الفلسطينية) أدى إلى افتراقهما. كما ربطته علاقة بسناء والعلاقة التي سبق وأن ربطته بابنة الجيران والتي كان حبه لها سببا في نفيه.
بعد عشر سنوات قضاها ريحون في فرنسا بحلوها ومرها سيعود إلى المغرب بعد توصله بخبر مرض أمه وأن أباه قد تنصل من كل مسؤولية “لن أدفع عليك فلسا واحدا أيتها العجوز.. الله ياخدك ونتهنا منك”
شكلت عودة كامل إلى المغرب منعطفا بارزا في تغيير مجرى أحداث الرواية إذ شاء القدر أن تتماثلت أمه للشفاء ويموت والده .
بعد ذلك سيقرر ريحون الاستقرار في المغرب والزواج…لكي لا نخرق مراحل التشويق للقارئ لن أقدم تلخيصا كاملا لكل أحداث الرواية فهي جديرة بالقراءة والتأمل.
يمكن عد هذا العمل الأدبي رواية اجتماعية بالأساس لما فيها من مواضيع اجتماعية مهمة والرواية الاجتماعية هي رواية أدبية تُناقش في قصّتها عبر شخصيّات الرواية مشاكل اجتماعية سائدة في العصر والثقافة التي كُتبت فيها، مثل الجنس والدين والعرق والطبقة الاجتماعية والعنصرية وما إلى ذلك. وقد تُناقش الروايات الاجتماعية مواضيع أعقّد من ذلك مثل العَمل والفقر والعبودية والعنف ضد المرأة وارتفاع نسب الجريمة. كما يُمكن أن تناقش الرواية الواحدة أكثَر من موضوع واحد وهذا ما تمثل في رواية ريحون التي ناقشت مجموعة من المظاهر الاجتماعية التي يمكن إجمالها في ما يلي:
الأب المتسلط : تمثل في أب ريحون الذي طرده من المنزل وتنصل من مسؤولية دفع تكاليف العلاج لزوجته وعدم احترامها ومعاشرتها بالمعروف، فهو نموذج لصورة الأب السافل المتسلط الصعلوك الذي لا يتصف بصفة الحنان اتجاه أبناءه وزوجه ولا يقدم لهم حقوقهم التي أمره الله بها.
التضارب في المعتقدات : تمثل هذا في العلاقة التي جمعت بين ريحون وميراي ( شخص مسلم يؤمن بالله ورسوله والأخرى ملحدة ) أدى هذا إلى نقاش بينهما ظهر من خلاله الموقف العدائي لميراي -التي تمثل ثقافة معينة – تجاه العرب ووصفهم بالإرهاب والموقف العدائي اللاإنساني تجاه ما يقع في الشام وخاصة في فلسطين .
المثلية الجنسية: تمثل هذا الموضوع في الرواية من خلال لقاء ريحون بدانيال بعدما افترقا لمدة طويلة وذهب معه ريحون لبيته ، وأكرمه دانيال إكراما كبيرا وبعد انتهاء وجبة العشاء طفق ريحون يخلع ملابس الدراسة ويرتدي ملابس النوم إلا أنه لم يكد يخرج رأسه من عنق البذلة حتى خاصره دانيال من الخلف وأطبق بشفتيه على رقبته وحاول أن يتقرب من ريحون أكثر الى أنه هرب وفتح الباب وقال لدانيل ” لولا أنني أخشى الله لكنت غرست هذا المقص في صدرك لكني لن ألوث يدي بدمك العفن ..”
وهنا يظهر رفض ريحون – الذي يمثل ثقافة إنسان مسلم – للشذوذ الجنسي الذي حرمه الله عز وجل ولا يتماشى مع فطرة الإنسان المسلم المؤمن..
الغربة في بلاد المهجر : تمثل هذا في الاسترجاعات التي يقوم بها ريحون بين الفينة والأخرى واشتياقه لأمه وإخوته والحياة في بلاده وغناء أغاني مغربية كتلك التي شغلها في بيته واحتسى شايه على أنغامها وهي أغنية لرائد من رواد الأغنية المغربية عبد الهادي الخياط.
الزواج الفاشل: تمثل ذلك في علاقة أم ووالد ريحون كما تم إبرازه من خلال المشاكل والخصام الحاصل بين جار ريحون و زوجته الذي يسبها قائلا “سيري لداركم يا كمارة الخبزة الحامضة وأنا من هاد الليلة نجيب لالة لبنات.من نهار تزوجتك وأنا المصائب نازلة فوق راسي وش نتيا هيا العين اللي تتشرب منها ماما غولة واللي قرب منها تيتصاب بالنحس و تخلا دار بوه) ص 122.
إبراز قيمة الحب: تمثل هذا في العلاقة بين ريحون وبنت الجيران هذا الذي كان سببا في نفيه من حيه وبيته وحتى عندما هاجر وكانت له تجارب عاطفية أخرى لم ينس حبيبته الأولى التي حرم منها جراء التهديدات الذي تلقاها من أخيها وأبيه، من مجتمع ظاهره العفة وباطنه الخبث، كما تجلت قيمة الحب أيضا بين ريحون وأمه وإخوته وكيف تقدم الأم كل الحنان لأبنائها رغم ما تعانيه من قهر.
الطبقة الغنية في مقابل الطبقة الفقيرة : تجلى هذا في حكاية أمي فطومة التي اشتغلت عند سيدة برجوازية وتصطحب معها أمي فطومة إلى أماكن راقية، حماماتهم وأسواقهم الغالية الثمن في مقابل ما كانت عليه فطومة من فقر وقهر كما تجلى هذا أيضا في التحول الحاصل في الشخصية البطلة وهنا تظهر المفارقة بين مظاهر عيش الفقراء في مقابل الأغنياء.
اختلالات في التعليم : تجلى هذا من حكاية شقيق ريحون (ماجد) الذي ينهج طريق الغش لنيل مبتغاه “لولا فضل النقلة التي زودني بها أحد المتبارين ما كنت حصلت على الباكالوريا” وهذا للأسف واقع المدرسة المغربية اليوم، كما أفصحت الرواية عن ما يعانيه التعليم العالي من انسداد للآفاق الشيء الذي لا يجعل للشهادة أي قيمة “الشواهد العليا قد تورطك في الفقر”.
فساد الذوق الفني: تجلى ذلك في إشارة لأغنية راحلة للفنان المغربي الراحل “محمد الحياني”وهي أغنية يحبها ريحون ويغنيها الشيء الذي جعله يقوم بمقارنتها بأغاني هذا العصر فأغلبها تفسد الذوق الفني ولا ترقى به وهنا إبراز للإسفاف الذي أصبحت عليه الأغنية العربية والمغربية على وجه الخصوص.
قيمة الصداقة: تجلت في العلاقة التي ربطت بين ريحون وسليمان فهي علاقة تبين قيمة الصداقة الحقيقية القائمة على المحبة والمساعدة والتضامن والتماس الأعذار والصدق في الكلام.
الخرافات السائدة داخل المجتمع: أبرزت الكاتبة ذلك من خلال الإشارة إلى العادات التي تقوم بها مدام بوفاري التي تزور الأضرحة، وجاءت الإشارة في الرواية إلى ضريح (گواد الشمس) واعتبار مدام بوفاري أن رزق الأطفال والأبناء يعود لهذا الولي الصالح وهذه خرافات منتشرة بشكل كبير في مجتمعنا إذ يرجع البعض للأضرحة قصد طلب الأولاد والزواج والرزق وهذه اعتقادات خاطئة يجب أن تصحح. كما أشارت الكاتبة في هذا الباب إلى اعتماد بعض الأمور اللا أخلاقية قصد الزواج ” ذلك أنها كانت تسعى بما تملك من جهد الى اقتناص أزواج لحفيداتها حتى لو تطلب الأمر منها أن تسطو على زوج إحدى جاراتها المقربات، وعندما تبوء محاولاتها بالفشل تكتفي بأن تلعب دور الداعرة وهي تقود حفيداتها لغرق” ص. 122
جاء كل ماسبق في قالب فني متميز يقوم على الخصائص الآتية:
السرد: وجود أحداث مرتبة ترتيبا زمنيا تعاقبيا أو ترتيبا سببيا منطقيا تحكم سردها علاقات متشابكة بين الشخصيات .
ـ وجود نمو للأحداث وتحول في وظائف الشخصيات ضمن علاقات متداخلة تدفع بالحدث من البداية إلى النهاية في فضاءات متعددة الأبعاد المادية والرمزية والاجتماعية والنفسية.
ـ دوران الأحداث حول موضوع وحدث بؤرة يقدم رؤية للواقع والقيم والجمال.
الوصف: حيث برعت الكاتبة في وصف الأماكن والشخصيات أيضا ونذكر من ذلك:
“كانت ميراي تلك الفتاة الجذابة ، وأشد ما يشد الرجل إليها نظراتها الساحرة في الحضور بتينك العينين الدعجاوين الناعستين.. صوتها كعزف على آلة وترية يتراقص نغمها عذبا على حوافي الأذ ” ص.30
الحوار: في الرواية عادةً ما يتمظهر في أنماطٍ عديدة، فهناك الحوار الخارجي، وهناك الحوار الداخلي، وقد تتداخل مع الحوار اللغة الفصيحة ولغة الحياة اليومية ( العامية )؛ الأمر الذي يثري الحوار ويعمّق مقاصده وهذا ما نجده في رواية ريحون إذ تم توظيف اللهجة المغربية في مجموعة من مواطن الحوار ومن ذلك:
وسمعه يقول بلهجة مغربية قحة ” عاش من سمع صوتك أصاحبي” ” وقيلا نسيتي صوتي السي كامل “
” الله أكبر أش هاد المفاجأة الرائعة أسي قاسم” ص. 57
جاء هذا العمل الفني بلغة فنية أدبية تحضر فيها بلاغة الإمتاع والإقناع إذ وظفت الكاتبة مجموعة من الانزياحات اللغوية والصور البيانية الشيء الذي يحتاج إلى إعمال العقل لفك شفرات بعض العبارات الواردة في الرواية. وبهذا تعطي الكاتبة للمتلقي فسحة للتفكير في مواضيع الرواية ولا تغيّب القارئ كونه أساس استمرار العمل الفني. ونذكر من العبارات الانزياحية الواردة في الرواية قول السارد: “رأيت أصحاب الفيل والكلاب البرية الضارية والضباع المتضورة جوعا والأفاعي السامة والتماسيح وسمك القرش أيضا .. كل هؤلاء رأيتهم في بلدي وفي كل بلد عربي يا صاحبي .. فأصحاب الفيل تدخلت يد الرحمن فرجمتهم رجما بحجارة من سجيل ، وأما أصحابنا وأصحابكم فما زالوا في بروجهم العالية العاجية، يصوبون من علوها الشاهق نحونا قنابلهم وقذائفهم .” ص 97
وفي هذا إشارة إلى بعض الذين يحكمون الدول العربية، ويصوبون قذائف البطالة والفقر والتهميش والغلاء على الموطنين الضعفاء …
لقد مثلت رواية ريحون للكاتبة أسمهان الزعيم نموذجًا متميزًا للنصوص الروائية التي تراهن في بنائها الفني على القيم والمبادئ الاجتماعية والأخلاقية والثقافية وغيرها، وتبقى هذه الدراسة موسومة بالمحدودية والتقصير أمام عمل روائي غاصت من خلاله الكاتبة في عوالم متعددة وكشفت عن خفاياها..
———
أسمهان الزعيم: روائية، قاصة وشاعرة مغربية من مدينة مكناس، حاصلة على دكتوراه الدولة في الأدب الإسباني الحديث سنة 2005 من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وعلى الماجستير في العلوم السياحية من المدرسة الدولية للعلوم السياحية، بمدينة روما بإيطاليا سنة 2000.
صدر لها مجموعة من الأعمال :
“ما قيل همسا” (رواية 2007)
“قبضة ماء ” (رواية 2012)
“لوعة البياض” (نصوص، 2015)
“لم يكن في وحده في الجب” (مجموعة قصصية، 2019)
“ريحون” ( رواية، 2022)
ولها قيد الطبع:
عباءات الروح (شعر)
بين الكرى وما جرى (قصص قصيرة جدا).