الأديب حسن مروّح يكتب بصمت،ويعيش بصمت أيضا، ولكنّ حروفه تنزف وجعا من حدة التجارب المختلفة التي عاشها ولامسها عن كَثَب، فأنتج مجموعات قصصية ومجموعة من الروايات التي مازالت مجرد مخطوطات بسبب ضيق ذات اليد، ولعل هذه الرواية الوحيدة التي استطاع طباعتها من خلال مطبعة (أور للطباعة والنشر)والتي تتناول مسحا لجزء من حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران.
تلك الحرب التي غيّرت من طبيعة النسيج الاجتماعي العراقي، وساهمت في تجميد الزمن،وجعله مجرد عَتَبة لانتظار عقيم. الرواية لا تتناول الحرب بشكل مباشر، ولا تصف أحداثها من انتصارات أو هزائم أو كرّ وفر، فلا نسمع فيها صرير الدبابات ولا صراخ المدافع ولا ضجيج الطائرات ولا انفجار الألغام، لا نسمعه ونستشعره، فهو يحيط بنا، لأنه يصف هامش الحرب التي تبدو بأنها أكثر رعبا، باعتبارها تمثل هواجس الجنود المرابطين عند خطوط النار،واضطراب مشاعرهم الإنسانية، واجتثاث أحلامهم، وشلّ عواطفهم، والانغماس الكلي في محو الرمق الأخير من مشاعر الرقة والعواطف والمحبة ومشاعر الأخوّة بينهم، وكأن هناك حربين؛حرب مع الأعداء في الجانب الآخر، والذي لا يُسمع منه سوى أصوات الأذان أو صليل المدافع المتقطعة، أما الحرب الثانية، فهي التي تتمثل في الخوف والتوجس وعدم الثقة بين عسكر السرايا أنفسهم، وطبيعة التعامل اليومي بينهم في ظل قسوة الظروف المحيطة، والذي تتمثل في غياب أو بروز صفات الأخوّة والنبل والرجولة والشهامة والصدق. لقد أخفت الحرب هذه الصفات واحلت محلها صفات هجينة تتميز بالأنانية والحقد والكراهية، إنها الحرب التي تتسرب إلى أعماق من يكتوون بها، وتجعلهم لا يفكرون إلا بالنجاة بأنفسهم دون سواهم.
سامي عبد المجيد بطل الرواية الذي وجد نفسه في أحد المواقع العسكرية المواجهة للجيش الإيراني. وهو يقوم بسرد الوقائع اليومية، وكأن يقوم بكتابة ريبورتاج صحفي يخلو من الأحداث التي تشدّ بعضها في نسيج روائي ينمو ويتصاعد، فليس ثمة محاور سردية، مما جعلها بدون حكاية محورية تضبط الإيقاع، لذلك جاءت الأحداث مبعثرة على الثلاثة والعشرين فصلا، دونما تلتصق بخيط روائي يربطها مع بعضها، ويوفر للقارئ متعة سردها. فهي أقرب إلى اليوميات التي تصوّر أيام الحرب وانعكاساتها . ورغم ذلك فالكاتب قدم لنا لوحات فنية، عبّر فيها عن عمق المكان،من خلال القدرة على تصوير بؤس جبهات القتال والذي يتجلى في عفونة الملاجئ وبشاعتها،وروائح الدم الذي يلتصق بأسمال الموتى، وتفسخ الأغذية التي توزع على الجند، وتسرب بعض الوحوش الضارية الى الملاجئ للبحث عن طعام لها. كما حفلت الرواية بلمحات فنية عبرتيارات اللاوعي التي تجعل البطل يعيش في زمنين متجاورين؛ الواقع المُعاش بكل قسوته وخشونته، وغياب الإنسانية فيه، وبين الحلم ووهم الذكريات بكل رحابتها وإنسانيتها وقدرتها على انتشال المرء من أغلال اللحظة.
الزمن ينشطر في السرد حتى يمتزج ويتغلغل في الأمكنة بنسق حكائي يرافق رواية الأحداث من بدايتها إلى نهايتها،ويتشكل على هيئة حوارات داخلية بين سامي عبد المجيد وعوالمه المتخيلة، والتي تحف به كلما تعرض للانكسار، فيصبح الهروب من بؤس اللحظة سبيلا للتغلغل بين ثنايا الذكريات والتعلق بالأمومة، والحنين إلى حياة المدينة والبيت والشارع، والتعلق بخيال امراة، أو النزوح إلى الطفولة وذكرياتها الجميلة. كل ذلك نجده في الرواية حتى تشتبك الوقائع بالأخيلة، ويتحد الحاضر بالماضي. ورغم أن هذا الأسلوب ينأى عن المباشرة والتسطيح في السرد، ولكنّه من زاوية أخرى يغرق ذلك السرد بالابهام، ويعرقل السيولة في ترتيب الأحداث.
ورغم انهماك الرواية بهموم سامي عبد المجيد كشخصية محورية حيث يُجَنّد في القتال من أجل الوطن كبقية أبناء جيله، ولكنه يشخّص فداحة الحرب، ويصف أهوالها المدمرة على نفسية المقاتل ولاسيما حينما يشعر بأنها حرب عبثية ولا يمكن القبول باستمرارها ، وحينما يجد نفسه في الجبهة وضمن إحدى السرايا المقاتلة. ومن هناك نُطل على حافة عوالم بائسة وظروف تفتقر إلى مقوّمات الحياة البشرية، فالخنادق الآسنة، هي التي تطمر أرواحهم في التراب، وتقي أجسادهم من الموت. والملاجئ المتعفنة، وسواتر الحجر والتراب، وأمامهم الأرض الحرام التي تزدحم بالألغام وبفوهات الموت المصوّبة باتجاههم، يُضاف إلى ذلك طبيعة ضباط ومراتب السرية الذين يمارسون القسوة والكراهية والحقد على بعضهم البعض، ولكنهم في نفس الوقت ينافقون بعضهم، بروز الأنانية في أسوأ تجلياتها، وظهور حالات من الشذوذ الجنسي بين بعض العاملين هناك، لقد رسم الكاتب عوالم تعيش في مستنقعات الذات البشرية الهشة،حيث الفضاء الملوّث بغبار الحرب والحقد والخوف والتمايز المقيت، لا ضوابط للعلاقة سوى أمزجة لنفوس تعاني من أمراض الكبرياء والتفوق، حيث يصف لنا سامي بأن آمر السرية يمقته ، ويُكثر عليه الواجبات الخطرة مثل وضع الكمائن عبر حقول الألغام، أو الحراسات أو الأعمال الشاقة، وفي نفس الوقت يعامل البعض بمعاملة أخرى. ومثلما رسم عالم القسوة متمثلا ببعض الأسماء من أفراد السرية، فقد رسم صورا لبعض زملائه، ضحايا الإرهاق والتعسف والموت، فقد استشهد البعض منهم في معارك لم يصفها الكاتب، بل اكتفى بوصف ما تركه الشهيد من ملابس ملوثة بالدم.
ولكي لا يستغرق الكاتب في روايته في وصف البؤس فقد وصف لنا بعض المشاهد والدعابات والمفارقات التي تحدث في خضمّ القسوة، ولم يتورع في دندنة لبعض الأغاني الشائعة، مما يوحي بأن ثمة مسامات لقشرة البؤس، يستطيع الإنسان أن يستنشق بعض حريته منها.
لقد كانت الأحلام رفيقة لسامي عبد المجيد بطل الرواية في هذا الخواء المطلق، حيث لا روح ولا أمل، بينما الموت يترصد الجميع في كل لحظة، وليس ثمة ما يعزيه سوى اختراق هذا الواقع والسفر بعيدا عبر الذاكرة ومحاولة ترطيبها بحكايات الطفولة والمدرسة، وجدران البيت وحنوّ الجيران ووداعتهم، والمرأة التي تشكل عشقا مستحيلا، فهو يستحضرها في أخيلته ويناجيها ويقاسمها همومه، ولكنه حينما ينعتق ذاهبا في إجازته الدورية، وحالما يصل إلى بيته حتى يستسلم لنوم عميق بفعل الإرهاق والخوف وسوء المعاملة، تطارده في إجازته أيام المعسكر وأسماء الذين مارسوا قسوتهم ضده، كما تطارده أصوات المدافع وعجلات سيارة الايفا وهي تحمل المؤنة التي تعفنت بفعل العوامل الخارجية، يطل عليه( اليربوع والأحيمر وعامر جبل وشوكت) وغيرهم من الأسماء التي جعلها القدر تقتحم حياته وتؤثر فيها.بينما لا يجد في بيته أثناء الإجازة إلا ضغط العيش على أهله وجيرانه. وحتى الحبيبة التي حلم بملاقاتها كي تمنحه بعض الدفء، لم يجدها ولم يجد يدا حنونة تزيح بعض أوجاعه. فيعود إلى المعسكر مثقلا بهموم مضاعفة، ولكنه يجد أن ضابطا كبيرا رأى اللوحة التي خطها في مقدمة المعسكر، فأُعجب بها، وأمر بنقله إلى معسكر آخر.
( الطريق الذاهب شرقا) عمل روائي يتأمل فاجعةَ الحرب وتأثيراتها الكارثية على الإنسان، حيث تحوّله إلى حطام بشري،وقد اكتنز بحشد من التناقضات التي أفرزتها تلك المرحلة، كما استخدم الروائي حسن مروّح كل إمكاناته الأدبية في تطويع اللغة لتعبر عن فاجعة الحرب وعن معاناة الجنود الذين اكتووا بجحيمها، وكان بالإمكان أن يكون العمل أجمل لو تخلص من الإعادة والتكرار لبعض المواقف والمشاهد غير الضرورية. ولكنّه في كل ذلك كان صادقا مع نفسه في التعامل مع الحدث، مستخدما صياغات فنية تدل على احترافية عالية في كتابة الرواية.