حتى البحار اخذت نصيبها من وليمة الدم العراقي ,بعدما شبعت من لحمنا المهروس ،الحروب المدمرة و الجبهات و المقابر الجماعية و ساحات الاعدام و الايام الحمراء التي كانت تصنع بلهيب السيارات المفخخة و قطع المعدن المتناثرة منها .
مسكت الام يد ابنتها .. واحتضن الاب ابنه , و حشروا انفسهم مع المئات من المشردين من كل دول العالم ,على متن قارب الموت الذي اتم رحلته بنجاح نحو الضفة الاخرى . حيث لا عذاب و لا قلق ولاخوف و لا حياة !!
لا اعرف يا ابنتي .. ماذا رأيت في تلك الليلة ؟ و ماذا همس في اذنيك هذا البحر البارد , ببرودة برادات الموتى , لحظة ابتلعك و راح يلفك ويكفنك بامواجه الهادرة ؟
هل صرخت ؟ هل بكيت ؟ هل رفست الرفسة الاخيرة ؟
كل هذه لا اعرفها يا ابنتي المقتولة .. ولكن اعرف انك صرخت مرات و مرات ..بابا …بابا …بابا .. ولكن كان البحر وتلك السماء السوداء المتواطئة معه ,اقوى منك و اقوى من اكفك الصغيرة واقدامك التي لا تعرف قساوة امواج البحر في منتصف الليل . وانا ابيك الذي لم يسمع صوتك الا بعد فوات الاوان , ولم يقدر ان يمسك يديك الباردة , حتى ولو من خلف شاشة الحاسوب . و لكني بكيت وبكيت , بكيت كالرجال , كالجبال , كالنخيل , كالعراق …
اولادنا ….انتم لنا فتن…
و ترحلون ..فانتم محن …
تكلم الشاعر في البيت اعلاه بالنيابه عن كل الآباء , مو جها رسالته لكل الابناء . الآباء الرافضين ان تخدش زهرات حياتهم بالعوسج .
بالله عليكم .. لا تنكبونا نحن آباء العراق يوما بعد يوم , كل اب عراقي شاهد هذه الصورة ,شعر بابنة له ,مفقودة في اعماق البحار . و ضلت هذه الصورة تدور وتدور في عقله و تتجسم امام عيونه . و الاب العراقي يصرخ ويبكي ولكن من دون صوت لا تأخذوا ابنائي, اذا شئت ايتها الام الحالمة بشوارع اوروبا و ايها الاب المتلهف للجنسية الاوروبية فاذهبوا ..ارحلوا و لكن دعو ابنائي , لا تقلعوا تلك الازهار , ولا تطعموهم للبحار و الطرق الوعرة والمهربين , دعوهم تحت خيمتنا , تسقيهم غيمتنا وتطعمهم شمسنا و يستنشقون ما تبقى من هواءنا , لا تقتلوا مستقبلنا .
انها صرخة الاب العراقي الرافضة , والتي سمعتها ورأيتها في عيون كل الآباء .
خائفين ان يستيقظوا ذات صباح ..دون ان يسمعوا طفلا يضحك او يبكي او يتكلم بحروفه الاولى.واذا بالبلابل نائحة بدل ان تغرد , وشمسنا كثقب مظلم , و ارضنا كمقلاة محترقة واللامَرّ من كل هذا ان بيوتنا و شوارعنا ومدارسنا خالية من اطفالنا ..لاننا تبرعنا بهم لالهة البحر المتلاطم . والذي ستتغير هدير امواجهه قريبا لتكون باصوات نواح وبكاء اطفالنا ,بعد ان ابتلعهم .
و انت يا ابنتي .. لا ترحلين بصمت رجاء , لا تستسلمي للبحر الهائج و للقمر المفقوء الذي يرى جريمته كل ليلة دون ان ينبس ببنت شفة , هات يديك يا بابا , هات يديك , فانت لست من الموتى , وان غبت عن عالمنا , وان برد الدم في عروقك , حتى وان لفك الغياب الطويل . هات يديك ابنتي ..لنصحو على جثتك معلقة في السماء كغيمة ,ماطرة ايامنا بكل الماء الذي ملئ جوفك .
تاكدي يا ابنتي .. سيطول وقوفه بين يدي الله كثيرا من جعلك هكذا , بعد ان كنت تلونين دنيانا بالفرح البرتقالي والضحكات الخضراء .
الم يقل الله ” ((وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ))؟؟
—