في زمن المادة تسقط كل القيم الثقافية الجميلة، خاصة الروحية منها، هذه القيم التي يحيا بها المجتمع ولا يموت أبدًا، هذا إن كان طبعًا مؤمنًا ملتزمًا بها حقًا، ولا يحيد عنها فإذا تخلى عنها وابتعد، فعلى هذا المجتمع السلام… وهذا ما حدث اليوم في مجتمعنا بالضبط، أين طغت عليه ثقافة المادة أكثر من ذي قبل.. هذه الثقافة السيئة التي أقصد من ورائها تلك النظرة المادية البحتة التي أصبح مجتمعنا لا ينظر إلا بها، فلقد انقلبت بفعلها الأمور رأسا على عقب، فالأمر الآن يتعلق بانسلاخ يكاد يكون كليا لمجتمعنا عن ثقافته الأصيلة، ثقافة الأجداد والأسلاف، تلك الثقافة التي تحمل كل المبادئ والقيم الأخلاقية والروحية الجميلة، ففي ذلك الزمان وأقصد به زمن الأجداد كانت كل القيم عبارة عن ثقافة مغروسة في أنفس أفراد مجتمع لا يضل عنها ولا ينسى، فكانت النظرة وقتئذ نظرة روحية صافية صادقة ذات أوصال ممتدة في عمق ذلك المجتمع، فكان بين أفراده مجموعة جهود يبذلونها كي يصلوا إلى تعايش ملؤه الانسجام والتآخي والتراحم، رغم ما كان يعانيه المجتمع وقتئذ من ظلمات الاستعمار الذي أراد أن ينتزع من أفراده تلك الثقافة انتزاعا،لكن لم يستطع لأنهم كانوا مفطورين على هذه السجية الجميلة تصوروا في ذلك الوقت كان المثقف في المجتمع يعلم الصغار في النهار والكبار في الليل لا ليستجدي بهذا مقابلا أبدا، ولا يريد من وراء هذا جزاءً ولا شكورًا.
في زماننا هذا اصطدم مجتمعنا بثقافة أخرى، ثقافة غريبة عنا، بل دخيلة على مجتمعنا إنها ثقافة المادة هذه الأخيرة التي انغمس فيها مجتمعنا بكامل جوارحه حتى عصفت بنا وتركت آثارا وندوبا غائرة في النفوس والعقول فيا للعجب، لقد أصبح الناس يقيسون بعضهم البعض بما عندهم من المال والمكاسب المادية، بعبارة أخرى: كل واحد يساوي ما يكسبه من المال، فإذا قدَّر أنك لا تملك من المال شيئًا فأنت في نظر المجتمع اليوم صفر، ولو كنت تحمل ما تحمل من الشهادات، ولو كنت أيضًا إنسانًا متخلقا رقيق القلب، فأنت من خلال هذه النظرة المادية لا وزن لك، ولا تُسمن ولا تُلغني من جوع.
لقد أنتج مجتمعنا اليوم وهو يقلد ثقافات أخرى علاقة لا شرعية أنجبت بدورها وضعا اختلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين، فرحنا نهدم ثقافتنا بالفساد والتقليد الأعمى ونخرب ما كان عليه أسلافنا من سلوك قويم، فأصبنا بنكبة مرغت أنوفنا في التراب.